التجمع العربى… ومحاولة إلغاء الآخر فى دارفور!
د. حسين أدم الحاج
8 January, 2009
8 January, 2009
1/2
helhag@juno.com <mailto:helhag@juno.com>
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
تقديم:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم "إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الذَّينَ إتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهمُ الأَسْبَابُ (236) وَقَالَ الَّذينَ اْتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُم كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيهِم ومَا هُم بِخَارِجينَ مِنَ النَارِ (237) (سورة البقرة).
وهكذا تبرأت الحكومة من مليشيات الجنجويد ونفضت يدها وقالت لهم إنى خفت الله رب العالمين! فحملتهم أوزار أفعالها وخطل سياساتها فى دارفور وتركتهم فى "الحاحاى", بلغة البعض من الأهالى هناك, أو "السهلة", بلغة غالب أهل الوسط النيلى, دون غطاء يستر عوراتهم, فرمتهم بدائها وإنسلت, وغبَّت فيهم العرفة وكأنَّها لم تعرفهم يوماً, أو توعدهم بالأراضى السائبة بعد إهلاك سكانها الأصليين, وكأنَّها لم تدعوهم لدعم مشروعها الحضارى العروبى الإسلامى التى إنهارت فإنهار معها أحلام الجنجويد بالجنان الموعودة, وهكذا يجب أن يعلم كل مغشوش غافل ومغرر به مصيره, ففى نهاية الأمر وعند تأزم المواقف ووقوف الروح فى الحلقوم تتبين الحقيقة فبصرك اليوم حديد, وعندها سيكون الجنجويد, كما اليوم, أول الضحايا يُقذف بهم كما "جنا اللالوبة أو النبقة", أو "اللبانة" عند شابات المدن الحسناوات.
ولكن لِمَ تفعل الحكومة ذلك؟ هل فجأة تبينت لها النصح قبل ضحى الغد؟ أم أنها محاولة منها للهروب إلى الأمام؟ ولماذا تصر هذه الحكومة دائماً ألاَّ تخرج مسرحياتها المكشوفة مسبقاً إلاَّ فى أقبح صورها شكلاً وأشدها تعاسة؟ لقد أصدرت القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة, مكتب الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة, بياناً وصفت فيه هجوم ثوار دارفور (مجموعات عصابات نهب وتخريب دارفور على حد تعبيره) بأنَّها مسنودة بقوات الجنجويد التابعة لها!!! (هكذا) (الأضواء 27/12/2003م), ثمَ لم يمض يوم وبعض يوم إلاَّ وتكذب مرة أخرى حتى جذور أسنانها وتعلن بأنَّ الجنجويد هم عصابات نهب مسلحة لا علاقة للحكومة بها (سودانايل 29/12/2003م)! سبحان الله مغيِّر الأحوال, من الذى تود الحكومة أن تغشه, ومن الذى سيصدقها إبتداءاً؟ و أخشى أن تصدق الحكومة نفسها كذبتها وتتصرف وكأنَّها الحقيقة, هنالك شيئ واحد واضح فى مسلك هؤلاء المتنفذين فى حكومة الخرطوم تجاه تعاملهم مع قضية دارفور ومنذ وقت ليس بالقريب وهو أنهم ظلوا يتخبطون فى سياساتهم تجاه هذه القضية, يطلقون تصريحاً اليوم فينفونه غداً, يتهمون إسرائيل وإرتريا بالأمس فالمؤتمر الشعبى اليوم ثم الحركة الشعبية شريكها القادم فى الحكم غداً, وكلما ضاقت المسافة لحسم مفاوضات نيفاشا كلما إزدادت الشقة بينهم وبين قضية دارفور فتتسارع إنجذاب أنظار العالم نحوها, وتتحوَّل هاجس الحكومة إلى خوف كبير من عملية تدويل أخرى تفتح جراحات عميقة قد تؤدى إلى مساءلات قانونية لا يحمد عقباها.
إنَّ تبعية مليشيات الجنجويد للحكومة أمر محسوم لا يجدى النكران تجاهها شيئاً, هذه القوات إبتداءاً من تشكيلها ثم تدريبها وتمويلها وتوجيهها ومساندتها برياً وجوياً معروف وموثَّق عند الأطراف الدولية المهتمة قبل الأطراف المتأثرة داخل السودان, وقد وصلت تلك الوثائق إلى مقامات رفيعة لكهنة النظام العالمى الجديد وسدنتها من المنظمات العالمية لحقوق الإنسان, وهؤلاء مثل الوحوش, عندما يشمون رائحة الدم فلا يتوقفون قبل أن يصلوها ليلعقوا فيها ومنها, ولم لا يفعلون ذلك وهنالك قضاة ينتظرون بشغف فى هيج بهولندا وغرف سجون مكيفة فارغة ستحسن إستقبال زوارها, فربما كانوا ذات يوم أهل عز مصطنع.
ثمَّ ما مصير هؤلاء الجنجويد بعد اليوم؟ أهى النهاية؟ خلاص يعنى؟ وما هى القبلة التى سيهومون تجاهها بعد الآن بعد أن أحرقوا مراكبهم فى سواحل بحور الزرقة المحيطة بهم؟ الدينكا, النوبة, الفور, الداجو, المساليت, التاما, الزغاوة, البرنو, البرقد, التنجر, ... ألخ, ذلك بخلاف المخاطر الجديدة التى بدأت تطل برؤوسها فى أفريقيا الوسطى مثل تلك المجزرة التى حدثت قبل أقل من عام تقريباً وراح ضحيتها أكثر من مائتى شخص من الأعراب وضياع مئات الألوف من رؤوس الماشية؟ ذلك بجانب رايات السلام التى ترفرف على مناطق جبال النوبة وجنوب كردفان بفضل وجود المراقب الأجنبى, هل تبصَّروا ذلك جيداً؟ وهل أدركوا أنَّ دارفور هى بيتهم الكبير وأمُّهم الرؤوم التى لا تنى تستعطفهم لرتق فتوق نسيجها القبلى؟ وهل بإمكانهم حذو منهج المسيرية فى تجاوزهم لتلك الهوة مع قبائل النوبة ومد أيادى التسامح ودعم التعايش السلمى فى المنطقة التى وسعتهم جميعاً؟ نعتقد ألاَّ مفر لهم من ذلك إلاَّ إلى ذلك, فالمستقبل يبدو كئيباً, والبدار البدار اليوم قبل الغد, فيومها لا تنفع نفس إيمانها إن لم تكن قد آمنت من قبل, ويا هؤلاء قدموا السبت.
التجمع العربى:
تناولنا من قبل على صفحات هذا الموقع الممتاز موضوع الجنجويد, وحللنا بشيئ من التركيز الخلفية التاريخية لنشأة تلك المليشيات, وذكرنا بأنهم ظلوا ينشطون فى إتجاهين, أو فى سبيل تحقيق هدفين: هدف ظاهرى هو مساندة القوات الحكومية لقتال ثوار دارفور, ثمَّ هدف إستراتيجى متعلق بتنظيم التجمع العربى وتنفيذ مقررات برنامج قريش القاضى بإزالة العنصر الزنجى من كل غرب السودان وإنشاء الدولة العربية فى العام 2020م. وإذا تناولنا فى تلك الحلقات "جنا الدبيب" فنود أن نتناول فى هذه الحلقات الجديدة "الدبيب زاتو", ألا وهو التجمع العربى.
ونسبة إلى أننا قد أسهبنا فى سرد العوامل التى أدت إلى قيام التجمع العربى فى مقالنا السابق عن الجنجويد فسنبدأ هذه المرة من حيث إنتهينا هناك, وسنركز الضؤ على هذا التجمع بطريقة تتكامل مع موضوع الجنجويد, وسنبنى تحليلنا على ضؤ وثيقتين هامتين حصلنا عليهما مؤخراً من أناس لا أعرفهم شخصياً ولكنهم مهتمين بأمر دارفور, فلهم الشكر أولاً, ثمَّ الشكر ثانياً لكل من زارنى فى بريدى الإلكترونى وترك لى فيها وثيقة سرية أو هدية "فعل خير", أو كتب لى كلمة رقيقة مثلما فعل ذلك الشاب الذى خاطبنى عبر الإيميل من قرية فى وسط جبال النوبة أو ذلك المناضل الذى ظلَّ يراسلنى من داخل غابات الجنوب وطلب منى أن أرسل له بعض مقالاتى السابقة كى يتدارسها مع رفاقه المناضلين فى ال Bush, أى الغابة, فمثل هؤلاء وغيرهم يعطونك الإحساس بأنَّ الدنيا ما زالت بخير وأنَّه ما زالت هنالك فسحة للأمل وللتفاؤل والحلم بعودة الأزاهير لتتفتح والعصافير لتشقشق من جديد وسط هذا الركام البليد من ممارسات السياسة.
سنبدأ موضوع التجمع العربى فى هذه الحلقة الأولى بعرض الوثيقة الأساسية لهم والتى تمثلَّت فى تلك الرسالة التى بعثوها للصادق المهدى رئيس وزراء حكومة السودان فى عهد الديمقراطية الثالثة فى بداية شهر أكتوبر 1987م, والتى نشرتها جريدة الأيام فى عددها الصادر يوم الأثنين 5 أكتوبر 1987م, ثمَّ نستعرض بعدها مباشرة بيانات مستنكرة للحدث أصدرها الحزب الإتحادى الديمقراطى وأخرى غير مكتملة من الجبهة الإسلامية القومية. أمَّا الوثيقة الثانية التى حصلنا عليها فسنعرضها فى الحلقة الثانية من هذا المقال وتتمثل فى آخر منشور صدر من تنظيم التجمع العربى فى شهر نوفمبر الماضى, أى قبل أقلَّ من شهرين, ونكون بذلك قد حصلنا على بيانَىْ المبتدأ والمنتهى لهذا التنظيم, نتمنى أن يعكسا لنا درجة التطور الفكرى لأهل هذا التجمع ومدى تجدد الأهداف وتغير الوسائل فى غضون هذه الفترة التى مرت بين نشأة تنظيمهم وإلى اليوم.
البيان الأساسى لتنظيم التجمع العربى:
(جريدة الأيام يوم الأثنين 5 أكتوبر 1987م)
بسم الله الرحمن الرحيم
السيِّد رئيس الوزراء:
إنَّ العنصر العربى الذى يعرف اليوم بالقبائل العربية فى دارفور دخل السودان ضمن الموجات العربية التى وفدت إلى السودان فى القرن الخامس عشر الميلادى. إنَّ هذا العنصر وإن تعددت قبائله هو فى الحقيقة ينتمى إلى أصل واحد.
إستقرت هذه القبائل فى منطقتين بأقليم دارفور: بمديرية جنوب دارفور وتشمل ثمانين فى المائة 80% من مساحة المديرية, والأخرى بمديرية شمال دارفور وتشمل الجزء الأكبر من شمالها ووسطها وشرقها وغربها حيث تغطى هذه المنطقة خمسة وخمسين فى المائة 55% من مساحة المديرية وتمثل القبائل العربية أكثر من 70% من مجموع سكان دارفور حالياً.
لقد لعبت القبائل العربية عبر القرون التى تلت دخولها السودان والإستقرار بدارفور دوراً هاماً فى تكوين ملامح شخصية هذا الإقليم, فالعرب فى هذا الجزء من أرض الوطن هم صنَّاع الحضارة التى شكلَّت الوجود الحقيقى والفعلى لهذا الإقليم سواء كان ذلك فى مجال الحكم أو الدين أو اللغة كما كان لها دورها البارز فى تكوين سودان اليوم, قد كانوا سدة ولحمة الثورة المهدية, ماتوا وإستبسلوا دفاعاً عن هذا السودان, كما أسهموا خلال كل العهود فى الإستقرار السياسى والتقدم الإقتصادى والتطور الإجتماعى والحضارى والثقافى فى دارفور خاصة بل والسودان أجمع. بهذا أكدنا ونؤكد أننا حافظنا وسنحافظ ونتمسك بقوة وإيمان بوحدة هذه البلاد ونحميها فى كل الأوقات وننبذ أسباب الفرقة والشتات.
السيد رئيس الوزراء:
لقد درج الذين يعنون بدراسة أنظمة الحكم فى العالم أن يُعرِّفوا الحكم الإقليمى عدة تعريفات وهى فى مجملها تعنى اللامركزية وتفويض السلطة بهدف إحداث إصلاح سياسى وإدارى وإقتصادى فى بنية الدولة وإدارة كل إقليم سياسياً وإدماج ذلك الإقليم فى الإطار القومى, وإقليم دارفور الذى يضم أربعة وثمانين قبيلة هو واحد من أقاليم السودان التى يتطلع أبناؤها للمشاركة فى حكم إقليمهم بقدر ما يتوفر لكل قبيلة من أبناء يصلحون للقيادة. إذا كان ذلك هو مفهوم الحكم الإقليمى هو أيلولة إدارة الحكم لأبناء الإقليم بقدر ما يتوفر لكل قبيلة من أبناء يصلحون للقيادة فإننا نعرب بحسرة بأننا قد سلبنا حق التمثيل فى قيادة هذا الإقليم والمشاركة فى إتخاذ القرار فأصبحنا أغلبية بلا وزن ورعايا لا مواطنين علماً بأننا نمثل:
1/ سبعين فى المائة من سكان الإقليم.
2/ ويمثل المتعلمون منا أكثر من 40% من مجموع المتعلمين من أبناء الإقليم بينهم مئات من حملة الشهادات الجامعية وعشرات من حملة الماجستير والدكتوراه فى شتى التخصصات.
3/ وساهمنا فى الدخل القومى بنسبة لا تقل عن 15%.
4/ كما أنَّ مساهمتنا فى دخل الإقليم تزيد عن التسعين فى المائة.
5/ نسهم بنصيب الأسد من فلذات أكبادنا فى الجيش السودانى نقدمهم قرابين لهذا الوطن.
6/ أما فى الجانب السياسى فإننا قد قدمنا أربعة عشرة نائباً للجمعية التأسيسية يمثلون الجانب العربى تمثيلاً حقيقياً, كما أسهمنا بنصيب كبير فى تقديم ثمانية عشرة عضواً فى الجمعية التأسيسية.
سيدى الرئيس:
إنَّ كل ما أوردناه من حقائق يؤكد ما لهذه القبائل من ثقل سياسى وإجتماعى وإقتصادى بهذا الإقليم وبالتالى نحن نطالب بأن نمثل بالنصف كحد أدنى فى المناصب الدستورية بحكومة الإقليم وممثلى الإقليم بالحكومة المركزية.
وعليه نحن نخشى إن إستمر هذا الإهمال للعنصر العربى فى المشاركة أن تفلت الأمر من أيدى العقلاء إلى أيدى الجهلاء ويحدث ما لا تحمد عقباه, وذلك لأن ظلم ذوى القربى أشدُّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند.
وفى الختام نحن نؤكد لكل مواطن سودانى بأننا لسنا دعاة فرقة وشتات ولكننا طلاب حق ومساواة وعاش السودان موحداً فى ظل الحرية والديمقراطية.
اللجنة المفوَّضة من قبل التجمع العربى
عنهم:
1/ السيد عبد الله مسار
2/ السيد شارف على جقر
3/ السيد إبراهيم يعقوب
4/ السيد حسين حسن الباشا
5/ الناظر حامد بيتو
6/ السيد تاج الدين أحمد الحلو
7/ السيد أيوب البلولة
8/ السيد محمد خوَّف الشتالى
9/ السيد زكريا إبراهيم أبو لحيو
10/ السيد محمد زكريا دلدوم
11/ الناظر الهادى عيسى دبكة
12/ السيد الطيب أو شمَّة
13/ السيد سندكة داؤد
14/ السيد هارون على السنوسى
15/ الدكتور عمر عبدالجبار
16/ السيد عبدالله يحيى
17/ السيد سليمان جابر أبَّكر
18/ الناظر محمد يعقوب العمدة
19/ السيد حامد محمد خيرالله
20/ السيد محمد الدومة عمر
21/ السيد عبدالرحمن على عبدالنبى
22/ السيد أحمد شحاتة أحمد
23/ السيد أبوبكر أبَّوه الأمين
24/ السيد جابر أحمد الريح
(إنتهى الخطاب)
وتمضى صحيفة الأيام فتقول:
هذا وقد إنتهى الخطاب الذى وزع فى بعض مناطق دارفور وأثار ردود فعل عديدة وإهتمت به الأحزاب خوفاً من أن يتطور الأمر ويخلق ردود فعل عند القبائل التى عناها البيان بإعتبارها غير عربية. وسارعت الأحزاب السياسية فى الفاشر لإتخاذ موقف محدد يحاول أن يطفئ النار قبل أن تشتعل وأن يقنع هذا التجمع بخطأ الطرح الذى يطرحه وبخطره على الوحدة الوطنية فى الإقليم.
موقف حزب الأمة:
ويورد مراسلنا إنَّه فى إتصال مع قيادة حزب الأمة فى الفاشرأفادوه بأنَّهم يبذلون المساعى لإحتواء الأمر وأنَّهم بصدد إصدار بيان يستنكر مثل هذا الطرح الذى يحاول أن يفرق بين الناس فى الإقليم على أساس عرقى. (لم يصدر حزب الأمة أى بيان حول ذلك على من نذكر!).
بيان من الحزب الإتحادى الديمقراطى:
أمَّا الحزب الإتحادى الديمقراطى فقد أصدر بياناً حول هذا الأمر نشر فى صحيفة الأيام تحت الرسالة أعلاه مباشرة جاء فيه:
إنَّ التخلى عن قيم الديمقراطية والحضارة التى تجلت بوضوح فى التفكير والممارسات والموازنات المختلة لبعض الأحزاب السياسية قد أدَّى إلى تعميق جذور الفتنة وتنشر البغضاء بين أهل السودان وفى إقليم دارفور على وجه الخصوص.
إنَّ الحزب الإتحادى الديمقراطى الذى يعبر عن واقع جماهير الوسط بإعتباره الوعاء الأرحب لتباينها وتنوعها حيث تتجمع فى بوتقة الكيانات المختلفة عرقياً وثقافياً وحضارياً وعقائدياً يؤمن بمبادئه وأهدافه التى لا تكرِّس طبقة لا تتعصب لفئة ولا تنحاز لطائفة ولا تناصر قبيلة على الأخرى, يدعو للوحدة الوطنية فكراً ورأياً وممارسة.
من هنا فإنَّ الحزب الإتحادى الديمقراطى يأسف لوجود دعوة أياً كان مصدرها لإنفصام الأجيال وتلوين الجماعات أو اللهث خلف المزايا والإمتيازات وأنَّ مواثيقه تؤكد أنَّ الوطن واحد وهو للجميع وأنَّ المواطنون متساوون فى الحقوق والواجبات وأنَّ القيادة والريادة لمن يحسن البذل ويجزل العطاء فى أمانة وكفاءة وإقتدار.
إنَّ الحزب الإتحادى الديمقراطى يشير إلى المخاطر التى ظلَّت تنمو وتترعرع فى إقليم دارفور, وبكل قيم الصدق والتجرد يدعو كافة الأحزاب والفعاليات السياسية والقوى الوطنية وأجهزة السلطة والمسئولين وعلى رأسهم السيد حاكم إقليم دارفور لعقد مؤتمر إقليمى عاجل لإنقاذ دارفور من مزالق الفتن والتردى, ومهالك الفقر والمرض والجهل والتخلف فى إطار التطبيق السليم لحكم إقليمى معافى يرتضيه الجميع وأن يوفر لهذا المؤتمر كل مقزمات النجاح.
وإننا على ثقة فى الحزب الإتحادى الديمقراطى بأنَّ أبناء الإقليم متى ما إجتمعوا على صعيد واحد لقادرون على تجاوز مشاكلهم وتوجيهها نحو ما يفيد الإقليم ومواطنه, وهذا مثال قريب فى المبادرة التى قدمها الحزب الإتحادى الديمقراطى بإقتراحه إقامة مؤتمر للصلح بين مجلس ريفى كتيلة وريفى تلس (قبيلتى القمر والفلاتة) الذى تم عقده بنيالا ولاقى النجاح التام.
بيان من الجبهة الإسلامية القومية:
وأصدرت الجبهة الإسلامية القومية بياناً أيضاً إستعرضت فيه ما أورده التجمع العربى فى خطابه, وإستنكرت الإستناد إلى عنصر الدم فى تقسيم المجتمع وأكدَّت أنَّ العروة الوثقى التى تربط الإقليم هى عروة العقيدة والإسلام وما عدا ذلك من دعوات فهى جاهلية قاصرة.
وإستطرد البيان ليسرد وجهة نظر الجبهة فى هذا الموضوع ليقول:
أ/ علائق القربى والقبيلة وشائج معترف بها وهى وسائل للتعارف والتكاتف والتعاون على البر والتقوى وفعل الخير وهى وسيلة وليست غاية.
ب/ إنَّ هذه العلائق لا بد أن تستغل لربط المجتمع وإشاعة روح التضامن والوحدة.
ج/ إستغلال هذه العلائق لتقسيم الناس وبث الفرقة والمرارة بينهم أمر مرفوض ويجب على الناس تركها لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصفها بأنَّها نتنة كريهة وأمرنا بتركها.
د/ إنَّ المذكرة فى مجملها لا تعدو أن تكون فكرة تختمر فى رؤوس بعض أبناء هذه القبائل ولكننا لا نظن أنَّ هذه الفكرة تحوز على الإجماع, بل نشك فى أن تجد سنداً حتى من الأقلية , ولكن ربما يرى البعض ويحسن نية أنَّ هذه هى الوسيلة المثلى لتحقيق الغايات وبذلك يكونوا قد إرتكبوا خطأً وليس خطيئةً, لذلك عليهم الرجوع إلى وسائل أنبل لتحقيق الغايات النبيلة.
هـ/ نحن نناشد أبناءنا وإخواننا الذين رفعوا هذا الشعار وأصدروا هذه المذكرة أن يفكروا فى الأمر بروية أكثر وبدعوة أدَّق وأشمل , وأن يصدروا بياناً يعلنون فيه عدولهم عن المضى فى هذا الطريق الذى يؤدى بمجتمعنا وإقليمنا إلى الهاوية.
و/ نناشد قيادات القبائل وزعمائهم المعنيين مباشرة بهذه المذكرة أن يتولوا نصح الذين أصدروها ونرجو منهم تبيان خطورة مثل هذا السلوك وأن تتم العودة لرفع شعارات أجمع وأوفق.
التحليل:
بداية, وكإبن من أبناء دارفور, أؤمن تماماً بأنَّه إن كان هناك خير لدارفور فإنَّ هذا الخير سينتفع به جميع سكانها دون عزل أو حرمان لأحد, وإن كان هنالك من شر فسيصيب ذلك كل أهل دارفور قاصيها ودانيها, ولعلَّ مذكرة التجمع العربى أعلاه يؤكد ذلك فى جانب منها هو أن القبائل العربية منتشرة فى معظم أنحاء الإقليم, وتلك حقيقة يدركها أهل الإقليم جميعاً, بل ومن خلال ذلك الإنتشار والتداخل فيما بينهم وبين القبائل الأفريقية المتوطنة خرج لنا هذا التباين المميز لأهل دارفور, وأذكر أننا عندما كنا طلاباً فى جامعة الخرطوم نهاية السبعينات كانت رابطة طلاب دارفور بالجامعة هى الرابطة الوحيدة التى تمثل إقليما كاملاً بحاله, وذلك بخلاف روابط المناطق الأخرى التى تتعدد فى داخل المنطقة الواحدة ناهيك عن الإقليم الواحد, وكان عميد الطلاب البروفسير التجانى حسن الأمين فخوراً بذلك, ولذلك كان عندما يجتمع بمناديب الروابط لتوزيع دعم الجامعة المالى للروابط لتنفيذ برامجهم الصيفية كان ينادى على مناديب رابطة دارفور للجلوس بجانبه على المنصة الرئيسية كرمز للوحدة والتضامن بين أبناء الإقليم الواحد, وأذكر أنَّه فى إجتماع سنوى للجمعية العمومية للرابطة أن قام أحد الطلاب وإقترح تقسيم الرابطة لرابطتين تمثلان شمال دارفور وجنوب دارفور, كل على حدة, فزجره الطلاب المجتمعون زجرة لم يقم بعدها صاحبنا من مقعده.
إنَّ الشاهد فى المسألة هو أنَّ وحدة أهل دارفور تمثل مصدر قوتهم وتتمدد بجذورها إلى قيعان تاريخ مجتمع دارفور, ولذلك فإنَّ الخطأ القاتل الذى وقع فيه إخواننا موقعى ومناصرى التجمع العربى هو محاولة شق ذلك المجتمع المتراص عبر التاريخ, بجانب محاولة التمييز والمبالغة الممعنة فى "تكبير الكيمان" بطريقة تشى بإلغاء الآخر, وتفتح أبواب اللغة غير التوافقية وجدل بيزنطى حول الأصيل والغريب ليس له محل فى عالم اليوم.
إنَّ قول التجمع العربى بتبعية 80% من مساحة مديرية جنوب دارفور لهم بجانب 55% من مساحة مديرية شمال دارفور, وأنَّهم يمثلون أكثر من 70% من مجموع سكان دارفور حالياً لقول هراء لا تسنده أى من الإحصائيات قديمها وحديثها, وقد كان بإمكانهم ترديد مبالغاتهم هذه فى محاولة لتضخيم الذات فى مجالسهم الخاصة ومراقص فرقانهم, أمَّا توجيه ذلك لرئيس الوزراء فلا يعنى شيئاً إذ أنَّ بأمكانه الحصول على ذلك بنقرة من تلفونه للأجهزة المختصة بذلك فى حكومته. وإذا كان الأمر كذلك فى أنَّهم يملكون كل تلك المساحة من الأرض فماذا بقى للآخرين؟ ثمَّ لماذا يقتلونهم الآن ويهجرونهم قسراً ليستولوا على المزيد من الأراضى, أو لم يكفهم تلك النسبة 80% من المساحة إن كانت حقيقة تعود إليهم؟
إنَّ الشيئ الأخطر فى رسالة التجمع العربى هو أنَّها قسمت أهل دارفور إلى قسمين بائنين: عرب وزرقة مما فتح باباً للفتنة العرقية, تساهلت معها الحكومة المعنية وسكتت عن الرد عليهم فحسبها موقعوا البيان ومناصروهم علامة الرضا وراحوا فى غيِّهم يعمهون, ولعلَّهم قد توقعوا ذلك من خلال تذييلهم لتلك الرسالة بعبارة أنَّ ظلم ذوى القربى أشدُّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند, وهم عبر هذه العبارة وكأنَّهم أرادوا أن يقولوا للصادق المهدى بأنَّه عربى وأنَّهم عرب ولذلك من الحسرة ألاَّ ينصفهم من غير العرب, مما يعنى بلاهة سياسية نخشى أن يكون رئيس الوزراء قد صدقها إذ ظلت سياسته تجاه ذلك تسكن فى بقعة رمادية حتى ذهبت به رياح التتر الجدد من أهل الإنقاذ.
إنَّ أبناء وأهل دارفور يثمنون كل جهد لتنمية إقليمهم بصورة متكاملة, وهو إقليم حساس من الناحية الإيكلوجية إذ تتفاوت نسبة هطول الأمطار فيها من منطقة لأخرى وتتحكم تلك النسبة فى كل ضروب الحياة من زراعة أو رعى, المهن الأساسية للسكان. فإذا إختلت هذه المعادلة فى جزء منها أو تأثرت منطقة فيها بالتصحر أو الجفاف ستتأثر بها بقية المناطق مباشرة, ولعلَّ إحتكاك الرعاة بالمزارعين لدليل واضح لتلك العلاقة الهشة ما بين الموارد الإيكلوجية ودرجة التناغم الإجتماعى والتعايش السلمى, وبناء على ذلك فإنَّ لأفراد التجمع العربى الحق كل الحق فى المطالبة بحقوقهم المشروعة, الوطنية منها والدستورية, تماماً كالآخرين, لكن دون وصم ذلك بالعرقية وتمييز الذات ومحاولة نفى الآخر, وهم إذا ما طالبوا بذلك تحت لواء قومية دارفور فسيجدون كل الدعم من كل أبناء دارفور والذين تربوا دون أن يعرفوا تمييزاً فيما بينهم أو يمارسوه بوعى إذ ظلَّ إقليمهم فى كل تاريخها ميداناً للتسامح وتقبل الآخر وإلاَّ لما عاشت كل تلك القرون دون أن تتعرض لمثل هذه الفتنة التى ضربتها فى خلال هذه العقود الأخيرة.
ولذلك كنا نتمنى لو أنَّ أهل التجمع العربى صاغوا رسالتهم, أو حتى إعادة صياغتها, بما يراعى الإنسجام الإجتماعى فى إقليم متعدد بقبائله وخلفياته الإثنية, كنا نود لو أنَّهم تحدثوا عن "كيان دارفور", كما يفعل أهل بعض الأقاليم الآن, دون عزل لأحد أو تصغير من شأنه, ودون تضخيم للذات والإنتفاخ كما البالون, كنا نحلم لو أن إخواننا فى التجمع العربى نظروا لدارفور من أعلاها إلى أسفلها وإستوعبوا تنوعها وأدركوا معنى وجودها لأكثر من 7 قرون مستقلة ومتناغمة مع نفسها قبل أن يطلقوا المداد لأقلام كتابهم, كنا سنشكرهم لو كانوا دارفوريين فى داخل قلوبهم ووشائج نفوسهم, إذ لو أدركوا ذلك لكانت الأوضاع الآن فى ربوع دارفور مختلفة عمَّا هو موجود.
يإخواننا فى التجمع العربى وفى غير التجمع العربى تعالوا إلى كلمة سواء فما عاد فى الوقت ما يكفى لإستمرار هذه الفتنة اللعينة, وها أنتم ترون أن الشيطان زارع تلك الفتنة قد فرَّ ناجياً بجلده, يظن كذلك ولكنَّ أمر الله غالب فليس من مخرج لحكمه أحكم الحاكمين.
والآن بعد مرور نحو ستة عشر سنة من صدور هذه المذكرة هل تغيرت عقلية أهل التجمع العربى؟ وهل قاموا بتنقيح رسالتهم لرئيس وزراء ذلك الزمان القديم أم أنَّهم زايدوا عليها فى رسالتهم الجديدة لرئيس وزراء هذا الزمان الجديد!! ذلك ما سنطالعه إن شاء الله فى الحلقة المقبلة من هذا المقال.