العدالة أم السلام (2-2) … بقلم: د. أسامه عثمان، نيويورك

 


 

 

Ussama1999@yahoo.com

 

 بيَّنا في مقال الأسبوع الماضي جدلية «العدالة أم السلام» من خلال تأثيرها على اتفاقات السلام الشامل التي تعقد لإنهاء حالات الحرب والنزاع المستمرة واستشهدنا بنماذج سيراليون وليبريا وكيف أن إصدار أمر توقيف في حق الرئيس الليبيري شارلس تيلور من المحكمة الخاصة بجرائم الحرب في سيراليون لدوره في تلك الحرب التي وقعت خارج بلاده قد أسهم بشكل إيجابي في دفع المفاوضات لتحقيق اتفاق سلام في ليبريا قدماً بتحجيمها لدور تيلور الذي صار مطالباً للعدالة دولياً مما اضطره للاستقالة واللجوء إلى نيجيريا التي آوته إلى بعض حين ثم انتهت بتسليمه للمحكمة ونقله إلى لاهاي في انتظار المحاكمة. وقلنا إن أوامر التوقيف لا تلعب بالضرورة ذلك الدور الإيجابي في كل حالة. وسننظر في نموذج يوغندا وجيش الرب لنرى تأثير ذلك على مفاوضات السلام في جوبا.في أول سابقة من نوعها طلب الرئيس اليوغندي يوري موسفيني في نهاية عام 2003 من المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق في انتهاكات جيش الرب لحقوق الإنسان وارتكاب جرائم حرب في شمال يوغندا، وذلك بعد فشل (40) محاولة للتوصل لحلٍّ في الصراع بين الحكومة اليوغندية ومليشيا جيش الرب. وربما كان ذلك أيضاً بدافع إحراج حكومة السودان التي كانت تدعم جيش الرب في إطار حربها مع حركة التمرد في جنوب السودان. تصدى المدعي العام للمحكمة الجنائية أوكامبو للأمر بهمة كأول طلب تحقيق في تاريخ المحكمة الوليدة وفتح تحقيقاً قاد إلى إصدار أمر توقيف بحق جوزيف كوني قائد جيش الرب وأربعة آخرين من رفاقه من القادة في أكتوبر 2005، وطلب المدعي العام من جميع الدول الأعضاء التعاون في القبض على المطلوبين وأصدرت منظمة الانتربول وفقاً لاتفاقها مع المحكمة الدولية «بطاقة حمراء» تحوي بيانات وصورة كل متهم ووزعت على (184) دولة هي مجموع الدول الأعضاء. وطلبت المحكمة من ثلاث دول على وجه التحديد التعاون في القبض على جوزيف كوني ورفاقه، والدول هي يوغندا والسودان وجمهورية الكنغو الديمقراطية لأن المتهمين يعتقد أنهم يعيشون في حالة تنقل بين هذه الدول. وما أن مضى شهر على صدور القبض حتى أعلن نائب رئيس جيش الرب لهيئة الإذاعة البريطانية عن رغبتهم الجادة في التوصل لاتفاق سلام، وقد اعتبر ذلك نتيجة مباشرة لصدور أمر التوقيف وخشية المطلوبين من أن يلقى القبض عليهم خصوصاً وأن مصدر الدعم من الخرطوم قد انقطع بعد توقيع اتفاق السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. وافقت الحكومة اليوغندية بعد تردد على الدعوة لإجراء مباحثات سلام برعاية من حكومة جنوب السودان وعين رياك مشار نائب رئيس الحكومة الإقليمية كبير مفاوضين واستضافت مدينة جوبا المفاوضات. استمرت المفاوضات لمدة (18) شهراً وأفضت إلى اتفاق سلام شامل ظل ينتظر التوقيع حتى الآن. كان شبح محكمة لاهاي حاضراً طوال المفاوضات وكان الافلات من المحاكمة هو الهاجس الأول للقادة المعنيين..ومثلت حالة يوغندا هذه أول اختبار عصيب للمحكمة الجنائية الدولية حيث طرحت أثناء مفاوضات جوبا مسألة العدالة أم السلام وتساءل البعض عن ضرورة أن تعلق المحكمة إجراءاتها دفعاً للسلام بينما طالب البعض الآخر بفصل المسارين وضرورة اخضاع المتهمين للمحاكمة حرصاً على إقامة العدالة وترسيخ فكرة المحكمة. روى لنا السيد يان إيغلاند، وكيل الأمين العام ومنسق الشؤون الإنسانية السابق في الأمم المتحدة بأنه لم يصدق أذنيه عندما ذكر له أحد قادة المعسكرات في شمال يوغندا في سبتمبر 2006، «إننا لا نريد المحكمة الجنائية، بل نريد السلام!» وكان يتحدث باسم (25) ألف لاجئ في ذلك المعسكر من النازحين هروباً من هجمات جيش الرب. وسأله إيغلاند «أولا تريدون العدالة والقصاص؟» أجابه قائد المعسكر «بلى، ولكن كيف تعيد لنا محاكمة خمسة أشخاص الآلاف الذين قتلوا من أهلنا»، قبل أن يضيف «هل ستجلب المحكمة الجنائية السلام أم ستزيد الحرب وقوداً"ولقد اتسع الجدل بشأن دور أمر التوقيف في محادثات السلام، بل إن الجدل كان قد بدأ قبل مباحثات السلام نفسها عن دور المحكمة التي دعتها الحكومة اليوغندية لتفتح مكتباً صغيراً في كمبالا في عام 2003، وظلت تبذل جهداً في شرح مهمتها للصحافيين وجمعيات المجتمع المدني في شمال يوغندا على وجه الخصوص. ولقد وجدت المحكمة نفسها في حالة تجاذب بين كل الأطراف، فالحكومة حاولت استغلالها كوسيلة للضغط على قادة جيش الرب عندما أعلنت في عام 2004 وقبل انتهاء التحقيق أنه سيقود إلى توقيف بعض القادة المعروفين، ثم سارعت بإعلان الاسماء عندما كان القرار لا يزال طي المظروف المختوم. ونسبة لأن الجيش اليوغندي لم يحقق انتصارات كبيرة على جيش الرب طيلة عشرين عاماً بدا أن الحكومة قد فكرت في استغلال المحكمة حليفاً ضد أعدائها في أي مفاوضات قادمة. فعندما بدأت أولى الخطوات نحو مفاوضات جوبا أشار رئيس الوفد المفاوض لاحقاً إلى أن الحكومة يمكن أن تطلب من المحكمة الجنائية تعليق الإجراءات إذا ألقى المتمردون السلاح. ومن جانبهم حاول قادة جيش الرب استغلال أمر التوقيف عندما تقدمت مفاوضات جوبا ووصلت إلى نقطة حاسمة سرعان ما أعلنوا تعليق المباحثات حتى تعلق المحكمة إجراءاتها ليظهروا المحكمة بأنها السبب في تعطيل توقيع اتفاقات السلام. من جانبه أضعف كبير المفاوضين موقف المحكمة عندما ظهر وهو يقدم مبلغاً من المال وبعض المؤن لجوزيف كوني عند خروجه من مخبئه في الغابة  بعد عشرين عاما بضمانات من حكومة جنوب السودان التي كانت المحكمة تتوقع أن تسارع بالقبض عليه تنفيذاً لطلب التعاون الذي قدمه المدعي العام لحكومة السودان وبناءً على بطاقة الانتربول الحمراء التي تطلب من الدول الأعضاء، إنابة عن المحكمة، التعاون في توقيف أي متهم يكون لحظة وصوله أراضيها.  استند المطالبون بتعليق أمر التوقيف بأنه يمكن تحقيق العدالة والسلام معاً دون تقويض لفكرة المحكمة بأن تشتمل اتفاقية السلام على تدابير محددة للمحاسبة تشمل تتمثل في المحاكم المحلية، ولقد اتفق في جوبا على تخصيص دائرة خاصة في المحكمة العليا لذلك الغرض، ولجان المصالحة والحقيقة إلى جانب بعض تدابير العدالة الانتقالية الأخرى المتمثّلة في تطبيق نظام القصاص التقليدي عند قبيلة الأشولى التي ينتمي إليها جميع قادة جيش الرب ومعظم ضحاياهم أيضاً ويشتمل على حفل اعتراف طقسي تتبعه طقوس أخرى للعفو من أقرباء الضحايا ثم يتبع ذلك نظام لجبر الضرر. وقعت اتفاقية من هذا النوع في جوبا وضمنت اتفاق السلام الشامل الذي ينتظر التوقيع وطلبت حكومة يوغندا رسمياً من المحكمة الجنائية إسقاط الإجراءات في حق قادة جيش الرب لأنها ستتولى معالجة الأمر وفقاً لهذه الاتفاقية. ويرى من يطالبون بالتعليق بأن ذلك أمر مفيد وقانوني يمكن أن تقوم به المحكمة إذا أصدر القضاة قراراً بإيقاف الإجراءات وفقاً لنظام المحكمة نفسه. ذكر مورينو أوكامبو في مقابلة مع الواشنطون بوست في الصيف الماضي «إن قادة جيش الرب الخمسة مسؤولون مسؤولية شخصية عن الجرائم موضع التهم - يواجه جوزيف كوني وحده 33 تهمة جرائم حرب» ثم أضاف «لأن المحكمة لا تملك جهازاً لتنفيذ قراراتها أوجدت آلية دولية بديلة لمواجهة تحديات توقيت إصدار الأحكام أو الدعوة لإصدار قرارات بالعفو باسم السلام ربما»، ثم أضاف «لا يوجد تناقض بين العدالة والسلام، أوقفوا هؤلاء المتهمين اليوم وستصبحون غداً على العدالة والسلام معاً». وعلى الرغم من ذلك، فقد أضاف «إذا طلب مني مجلس الأمن تأجيل الأمر لمدة 12 شهراً سأمتثل للقرار الذي يمكن تجديده خمس مرات فقط» ولا يمكن إلغاء الإجراءات إلا عن طريق القضاة الذين أصدروا مذكرة التوقيف لوجود بينات قضائية جديدة تشكك أو تدحض البينات السابقة على أن يكون كل ذلك بطلب من المدعي العام. وهذه من النقاط التي تؤخذ على نظام المحكمة الذي يكاد يعطي المدعي العام صلاحيات مطلقة. وكانت الحكومة اليوغندية تفكر في اللجوء لمجلس الأمن لإعمال المادة 16 إذا تم توقيع اتفاق سلام جوبا ولكن جوزيف كوني أخلف وعده بالحضور للتوقيع أكثر من مرة مما جعل الحكومة اليوغندية بمساعدة حكومات الدول المجاورة تقود عملية لاصطياده لم تكلل بالنجاح. ومما يذكر أن ثلاثة من بين القادة الخمسة المتهمين قد قتلوا من قبل الجيش اليوغندي أو بأمر من جوزيف كوني. ويدعو أصحاب الطريق الثالث إلا إيجاد نظام بديل بضمانات محددة تتمثّل في تحقيق مستقل ومحايد ذي مصداقية، والالتزام التام بمبادئ المحاكمة العادلة المعروفة دولياً وتوقيع عقوبات تتناسب وعظم الجرائم المرتكبة. ولكن الكثيرين يشككون في توفر هذه الشروط في الكثير من دول العالم الثالث ويشككون في توفر الإرادة السياسة التي تحرص على العدالة حرصها على السلام. يقال إن جوزيف كوني قد عبّر لكثير من الوسطاء عن رغبته في أن ينفى إلا بلد غير موقع على نظام روما ليعيش ما تبقى له من حياة (كوني من مواليد 1962) وربما مثّل له السودان ذلك الملاذ الآمن في الوقت الحالي. يبدو أن كوني لم يعد يهتم بشيء غير مصيره الشخصي، ولقد قدم له عمدة قولو، في شرقي يوغندا، بناءً على طلبه، شريطاً لمشاهد اعدام صدام حسين. وربما فات عليه أن المحكمة الجنائية الدولية ليس فيها أحكام بالاعدام وإنما قد يواجه حكم الاعدام إذا امتثل لعدالة بلاده التي يدعو الكثيرون لتطبيقها. ومما يجدر ذكره هنا أن مهزلة محاكمة صدام حسين وطريقة إعدامه المخزية كانت قد دفعت من قضية المحكمة الجنائية الدولية وأعطت دعاة العدالة الدولية حجة قوية على عدم ترك أمر الجرائم الكبرى للمحاكم المحلية حتى لا تتكرر مثل مشاهد الانتقام التي جسدها إعدام صدام حسين.وبعد، نعتقد أن تجربة يوغندا مع المحكمة تجربة غنية ومفيدة في النقاش المحتدم حول جدلية العدالة والسلام ونتمنى أن يطلع عليها كل من يتصدى لأمر قضية المحكمة الجنائية الدولية التي صارت، رضينا أم أبينا عنصراً أساسياً في تشكل المسار السياسي والمستقبلي في بلادنا.  ويمكن لحكومة جنوب السودان أن تقدِّم مساهمة مقدَّرة في كيفية التعامل مع المحكمة وفقاً لما اكتسبت من خبرات في تجربة مباحثات السلام في جوبا على الرغم من صدور أمر توقيف في حق أحد الأطراف. كما نتمنى أن يرضى أهل المؤتمر الوطني الذين شكلوا الرأي الرسمي السائد حتى الآن في قضية المحكمة بأن يكون لغيرهم رأي مخالف وأن يسمحوا لشركائهم في الحكم بالتعبير عن فكرة عدم الموافقة على توقيف الرئيس مع ضرورة التعاون مع المحكمة، كما أن للوسطاء من الدول العربية والأفريقية آراء ليست بالضرورة تتفق مع الرأي الرسمي آمل أن يكون في مقدور الصحافيين وناشطي منظمات المجتمع المدني وكتاب الرأي والأحزاب السياسية الأخرى الحق في مناقشتها بحرية ودون ترهيب، ولقد انتهى زمن التعبئة والهتافات وصار الوقت للعمل لمواجهة مأزق البلاد بعقلانية وحكمة والحكمة ليست ملك فرد أو جماعة أو ليس السودان سوادان الجميع؟ 

نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 7 أبريل 2007

  لمقالات سابقة للكاتب في سودانايل اضغط هنا 

 

آراء