محمداني والجنائية الدولية … بقلم: د. أسامه عثمان، نيويورك

 


 

 

Ussama.Osman@yahoo.com

  يلخّص محمود محمداني رأيه في المحكمة الجنائية الدولية في كتابه الأخير « المنقذ والضحية» عن مشكلة دارفور، الذي استعرضناه في المقال السابق على صفحات هذه الصحيفة،  إلى جانب بضع مقالات متفرقات نشرت في دوريات مختلفة، كما أنه كثيرا ما يكرره في الندوات واللقاءات العامة عند تناوله لقضية دارفور. ويسوق محمداني اعتراضه على المحكمة من منصة المناضل الأفريقي اليساري الذي كانه منذ أن كان طالبا وظل يسم كتاباته بعد أن صار أستاذا كبيرا في أحد أعرق الجامعات الأمريكية ولا غبار على ذلك من حيث المبدأ ولكن في الكثير من الأحيان يتداخل عنده  الباحث بالمناضل من أجل القارة وتحررها من هيمنة الاستعمار ولقد مثل له صدور قرار بتوقيف الرئيس البشير من قبل المحكمة مناسبة للعودة لانتقاده للمحكمة الذي ظل يكرره في كل مرة يصدر مدعيها أو قضاتها  أمرا في حق متهم ما وبما أن جميع القضايا  في ملف المحكمة حتى الآن من أفريقيا فإن دعواه بالاستهداف تجد وقودا في كل مرة.ويرى   محمداني أن المحكمة منذ نشأتها لم تكن إلا تنفيذا لإرادة القوى الغالبة في العالم التي دفعت بقضية الحقوق الأساسية وحقوق الإنسان في اتجاه العالمية وتتطلع حاليا لتقيم نظاما قانونيا دوليا، وأنه ليس من الممكن من حيث المبدأ وضع نظام قانوني موحّد لمراعاة الحقوق الأساسية لا يراعي الخصوصية والإطار السياسي لتمكين تلك الحقوق، ويستشهد بتجاوز إدارة بوش للقوانين والحقوق الأساسية وتجاوزها لحريات المواطن بدعوى الدفاع عن الوطن ضد الإرهاب. كما أنه يستشهد باعتراض الولايات المتحدة الأمريكية نفسها على الانضمام للمحكمة ومحاولتها في عهد إدارة بوش لتقويضها على الرغم من توقفها عن ذلك الاتجاه في الجزء الثاني من ولاية بوش والنظر إليها بشكل أكثر إيجابية بعد أن تنظر في الجرائم المتعلقة بمأساة دارفور. .ويستشهد محمداني بعدم انضمام روسيا والصين للمحكمة، كما يستشهد بعدم انضمام بلد كبير من العالم الثالث، مثل الهند، بدعوى غلبة السياسي على القانوني في نظام المحكمة، لأن مجلس الأمن يمكن أن يحيل إليها قضايا أو يعلق النظر في بعض القضايا مما يجعلها خاضعة لهيمنة الدول الكبرى. والواقع أن للهند أسبابها غير المعلنة هي أنها تخوض صراعا مفتوحا في كشمير وتخشى أن تطالها سلطة المحكمة في إطار ذلك الصراع. وعلى الرغم من الموقف الأمريكي الرسمي في عهد بوش فإن الإدارة التي سبقتها كانت هي من أنشط الوفود في مفاوضات إنشاء المحكمة وتمويلها كما أن المجتمع المدني في الولايات المتحدة يضم أنشط تحالف من أجل المحكمة وبسبب نشاطه بدأت إدارة الرئيس أوباما في النظر في علاقة الولايات المتحدة بالمحكمة وربما انضمت إليها في آخر المطاف. يقرر محمداني أنه ما لم ينشأ  نظام عدالة جنائية يخضع له الكبير والصغير على قدم المساواة فإنه لا يرجى إقامة عدالة دولية فعالة. وينضم بهذا الموقف الإطلاقي إلى قائمة المرجئة  في مسيرة البشرية نحو الأفضل بدعواهم أن ما لم يدرك كله يترك جله. يشير محمداني إلا أنه في إطار العلاقة بين السياسي والقانوني تكون الغلبة دائما للسياسي. ولأن الصراع من أجل الحقوق صراع سياسي بالضرورة فإن  دعاة تعزيز الحقوق، وليس منتهكي هذه الحقوق فحسب،  ينبغي أن يخضعوا لمحاسبة سياسية، وإلا لتحول النظام لنوع من الانتقام والتأديب للدول المارقة في نظر الكبار.و إلى جانب السبب النظري أعلاه يرى محمداني سببا آخر لعدم اللجوء إلى المحكمة الجنائية وهو أنه ينبغي الموازنة بين العدالة والسلام. و قبل أن يبادر أحدهم ويتهمه بالتضحية بالعدالة على من أجل السلام يمضي بنا في درس في تاريخ القارة الأفريقية الحديث ويستشهد من الدروس التي تعلمتها القارة في العقود الأخيرة هو أنه لا يدعو للتضحية بالعدالة من أجل السلام ولكن التضحية المطلوبة هي التضحية بشكل معين من أشكال العدالة المتعددة وهو العدالة الجنائية. ويسوق دليلا بارزا من تجربة كان حاضرا لفصولها وكتب عنها الكثير وهي تجربة جنوب أفريقيا، حيث يؤكد أنه قد تم القضاء على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لأن القيادة السياسية لمناهضة نظام الأبارتايد غلّبت العدالة السياسية على العدالة الجنائية. ومنطقه في ذلك هو أنه عندما يتعذر تغلب طرف ما في صراع مستمر ينبغي الاستفادة من قادة الصراع أنفسهم في التعاون من أجل إنهاء القتال وابتدار حوار سياسي يؤدي لإنهاء الصراع بدلا من التلويح بمحاسبتهم أمام المحاكم مما يجعلهم يترددون في أي تسوية سياسية. ولقد  تلخصت الحكمة السياسية التي خرجت بها الوفود من  كامبتون بارك، المقر الذي انعقدت فيه المباحثات لإنهاء نظام الأبارتايد، في مقولة «علينا أن نتسامح ولكن علينا أن لا ننسى» وذلك يعني بصريح العبارة،  على حسب قوله، الصفح عن كل جرائم الماضي والحصانة ضد الملاحقة القضائية،  شريطة أن يوافق الطرفان على تغيير القوانين لضمان العدالة السياسية للمستقبل. ويسوق مثالا آخر من القارة هو أن جبهة رينامو المتعاونة مع الاستعمار في موزامبيق هم أعضاء في البرلمان بدلا من أن يكونوا قابعين في قاع السجون.   ويسوق مثال جنوب السودان كتجربة أخرى حيث لم يكن من الممكن الوصول لتسوية سياسية لإيقاف الحرب وإصلاح النظام السياسي دون الاتفاق على عدم الملاحقة القضائية لأي من جرائم الحرب التي ارتكبت طيلة سنوات الحرب في الجنوب. ولو اطلع على التعسّر الذي يلازم تطبيق اتفاق السلام والمماطلة في تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي ينظر للمستقبل بدلا عن الماضي لأدرك أن تجربة جنوب السودان لا تصلح للتدليل على حجته. يذكّر الكاتب بحقيقة تغيب عن الكثيرين هي أنه في إطار العدالة السياسية فإن المتهم مدان في نظر الرأي العام حتى يثبت العكس على غير ما عليه الحال في المحاكم الجنائية حيث أن المتهم برئ حتى يثبت العكس. فقادة الأبارتايد الذين سجلت شهادتهم للتاريخ أمام لجنة الحقيقة والمصالحة تواروا من الحياة السياسية من بعد ليس لأنهم في سجن جزيرة روبن يقبعون ولكن لأن الرأي العام قد أصدر حكمه عليهم. و يرى من منظور محكمة الرأي، أنه ينبغي النظر في الوقائع التي ساقها المدعي العام للمحكمة الجنائية في حق رئيس جمهورية السودان والتي قبلت بها الدائرة التمهيدية حتى يتم اختبارها واخضاعها للتحليل والاختبار لمعرفة مقدار ما فيها من الحقيقة قبل الحكم على المتهم والمطالبة بتوقيفه ومثوله أمام المحكمة حيث لا يمكن للمحكمة أن تحاكمه غيابيا ولكن يمكن ذلك للرأي العام. وانطلاقا من هذه المقولة يشن محمداني  هجوما على  أوكامبو ويبدأ في تفنيد دعاواه لتوقيف رئيس جمهورية السودان حيث يورد التهم كما ساقها المدعي العام وقبلت بها الدائرة التمهيدية ثم يبدأ في الرد عليها كأنه يترافع عن البشير في محكمة الرأي العام التي لا تشترط مثوله أمامها. حيث يذكر من جديد بأسباب الصراع التي فصّلها في كتابه من حيث أن مسألة الهوية القبلية تجد جذورها في السياسة الإدارية على عهد الاستعمار البريطاني في العشرينيات عندما قسمت القبائل إلى مستوطنين ورحّل وقنن نظام الحواكير . ثم يذكّر بأن العرب في السودان، ما عدا قلة قليلة، ليسوا عربا من الناحية الإثنية ولكنهم مجموعات محلية استعربت في وقت متأخر لذا يجد الغربيون صعوبة في استيعاب  المفهوم عندما يطبق في دارفور فالجميع حالك السواد في نظرهم! ويبين أن القبائل المسماة عربا،  هم عرب ثقافيا وأن من يسمون بالعرب في الخرطوم والوسط مرتبطون بالسلطة ولكن العرب في دارفور هم أكثر القبائل فقرا وهامشية ويعيشون في أفقر المناطق. ثم يشير إلى أن أكبر القبائل العربية وهم بقارة جنوب دارفور ليس لهم دور في الحركات المسلحة أو في خطة الحكومة وجهودها لقمعها.   وإنما قوام تلك الهجمات هم العرب الأبّالة من شمال دارفور والمجموعات النازحة من تشاد. ويخلص على تأكيد أن فكرة أن العرب في دارفور يمثلون كتلة متجانسة في مواجهة كتلة أفريقية متجانسة هو محض اختراع حديث لأجهزة الإعلام الخارجي تبنته المحكمة الجنائية الدولية والهدف من ذلك، كما يرى، هو «أبلسة» العرب  وإخفاء الأسباب الحقيقية للصراع. لا  شك أن التحليل أعلاه لمحمداني فيه بعض الصحة ولكنه بالطبع ليس كل الحقيقة وربما كان مفيدا الاستناد إلى مثل هذا التحليل في إعداد مرافعات دفاع الرئيس البشير إذ قدر له يوما أن يمثل أمام المحكمة  الجنائية الدولية، وربما دعي محمداني ليكون شاهد دفاع أمام المحكمة ولكنه لا يفيد في محكمة الرأي العام التي لا يمثلها بالضرورة رأي الباحثين علماء الأجتماع أو الخبراء بالمنطقة. ويسوق هجمة الحكومة لمحاربة التمرّد كسبب أخير للأزمة ونتيجة لها حيث أن تطبيق سياسة « تجفيف المنبع لقتل السمكة» كما يقول الفرنجة، تمثلت في أن الحكومة قد استهدفت في حملتها تحديدا ثلاث قبائل رئيسية في دارفور هي منبع حركات التمرّد وهي قبائل الفور والزغاوة والمساليت. ولكنه سرعان ما يرد على ما ذكره أوكامبو للصحفيين في لاهاي عقب إعلان طلب التوقيف بأن الحرب قد بدأت في عام 2003،  فالحرب في واقع الحال، كما يشير محمداني لم تبدأ مع الحركات المسلحة المعروفة حاليا وحملة الحكومة لقمعها باعتبارها تمثل تحديا للسلطة المركزية وإنما بدأت كحرب بين القبائل في عام 1987، بسبب الصراع على المرعى والأرض الناتج عن الجفاف والتصحر وأن الحكومة الديمقراطية التي كانت قائمة برئاسة السيد الصادق المهدي قد فشلت فشلا ذريعا في إدارة نظام احتكار الأرض وتوزيع الموارد بشكل يضمن التوازن المطلوب فكانت أول من بدأ التدخل في هندسة علاقات القبائل وتسليح بعضها لمواجهة قبائل أخرى بعد أن تدفق السلاح إلى دارفور من تشاد وغيرها.  ويشير إلى أن الفترة 2003-2004  كانت قد شهدت فظائع واسعة النطاق ولكنها ليست «إبادة جماعية» بأية حال. وأن سبب الموت لم يكن هو الحكومة السودانية حصرا، ولكن لا مفر من المحاسبة على ماحدث، أما كيف تكون المحاسبة والإطار السياسي الذي تتم فيه فآخر من يكون له صلة بذلك في رأي محمداني، هو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية. ولكنه لا يذكر لنا إن كان يتخيل أن الرئيس البشير سيقف يوما أمام قضاة بلده أو أعضاء لجنة الحقيقة والمصالحة ليدلي بشهادته للتاريخ وينزوي كما انزوى قادة نظام الأبارتايد في التجربة التي يعتز بها كثيرا. وفي ختام الكتاب يدخل محمداني  في مرافعة مطولة عن ضرورة مواجهة الهيمنة الغربية على القارة وأشكال الاستعمار الجديد مع تأكيده على أن ما يهم أفريقيا ليس معرفة إن كان رئيس السودان مذنبا أو غير مذنب، ولكن تسييس المحكمة هو الذي يمثل عنصر انزعاج كبير للقارة.فالعدالة ينبغي أن تكون منصفة وتطبق على الجميع وليس على من يقولون لا لأمريكا. وتتوالي حججه السياسية ويعلو صوت المناضل الأفريقي من طراز السبعينيات على صوت البروفيسور فتصير حججه أشبه بحجج الفضائيات العربية مع استبدال قضية فلسطين في ذلك الخطاب بتحرر القارة من ربقة الاستعمار الجديد باسم العمل الإنساني تارة وباسم العدالة الجنائية تارة أخرى. 

نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 28 أبريل 2009

 

 

آراء