السودان بين الأمم: مؤشر السلام في العالم … بقلم: د. أسامة عثمان، نيويورك
12 June, 2009
السودان لا يزال في ذيل القائمة
صدر في الرابع من يونيو 2009 ، في احتفال أقامه معهد الدراسات الإستراتجية والدولية في واشنطن مؤشر السلام في العالم في دورته الثالثة. ومؤشر السلام في العالم يصدرعن مؤسسة "الاقتصاد والسلام الامريكية" ويصنّف بلدان العالم بحسب درجة اقترابها من السلم والسلام داخلياً وخارجياً وفقاً لمعايير كمية ونوعية محددة، منها عدد الحروب التي خاضها البلد داخلياً أو خارجياً في السنوات الخمس الأخيرة، ونسبة انفاقه على العتاد والمعدات العسكرية من إجمالي الدخل القومي ومساهمة ذلك في الدخل القومي إن كان من البلدان التي تنتج أو تصدر العتاد العسكري. ومن بين المؤشرات حجم الجيش مقارناً بعدد السكان وعديد الشرطة وقوات الأمن مقارنة بعدد السكان. والمشاركة في نفقات حفظ السلام، ونشر قوات خارج الحدود من غير أن تكون تحت إمرة الأمم المتحدة، إلى جانب مؤشرات نوعية أخرى لقياس الاستقرار الداخلي من بينها معدّل الجرائم، وعدد السجناء، ومقبولية السكان لبعضهم بعضاً وهذا المؤشر يستخدم لقياس الصراعات الداخلية والجهوية وما يصاحبها من توتر، إلى جانب احترام حقوق الإنسان، ومن مقاييسها كفالة حق التظاهر ومدى احتمال مواجهة مظاهرة سلمية بالعنف وحرية التعبير عن الرأي في وسائل الإعلام. وعدد ضحايا الحروب وعدد النازحين واللاجئين بسبب الصراع ومدى سهولة حصول الأفراد على السلاح. مما يذكر أن المؤشر قد عهدت به المؤسسة التي تصدره لجهة ذات اختصاص وسمعة طيبة هي وحدة المعلومات الاقتصادية صاحبة مجلة (الايكونومست) الأسبوعية.
وفقا لهذا التصنيف فقد احتلت نيوزيلندة المرتبة الأولى من 144 بلدا باعتبارها أكثر بلدان العالم سلما وسلاما تلتها ترتيبا الدانمارك والنرويج وأيسلندا وأستراليا والسويد واليابان ولقد ظلت هذه البلدان تتبادل مواقع الصدارة في رأس القائمة حيث كانت النرويج هي أول القائمة في عام 2007، تلتها الدنمارك ثم آيسلندا فنيوزيلندة فاليابان. وفي عام عام 2008 احتلت آيسلندا المرتبة الأولى وجاءت بعدها الدانمارك فالنرويج ثم نيوزيلندة.
ولقد جاء ترتيب السودان، كما هو الحال منذ إنشاء المؤشر في عام 2007 وحتى الآن، بين الدول الخمس الأخيرة حيث احتل الموقع (140) بعد العراق الذي ظل محافظا على الموقع الأخير منذ صدور المؤشر في عام 2007، (الموقع 144) ويليه من أسفل القائمة لهذا العام أفغانستان (143) ثم الصومال (142) فإسرائيل (141)، وتأتي الكنغو الديمقراطية بعد السودان في الموقع (139) تليها تشاد (138) وباكستان (137). وكان عدد الدول التي توفرت عنها معلومات يعتمد عليها في التصنيف في النسخة الأولى للمؤشر في عام 2007، 121 بلدا جاء ترتيب السودان في المرتبة 120، ثم انتقل إلى الموقع الثالث قبل الأخير في عام 2008 حيث جاء بعد العراق والصومال وقبل إسرائيل وهذا التغيير في التصنيف ليس بسبب تحسن درجات السودان وفقا للمؤشرات المعتمدة ولكن بسبب إضافة بلدان لم تكن قد توفرت عنها معلومات كافية في السنتين الأوليين وهما أفغانستان والصومال.
ولقد ظلت دول غرب أوروبا على رأس الدول العشرين الاولى على الرغم من تأخر بريطانيا وفرنسا نسبيا في التقييم العام بسبب نصيب مبيعات الأسلحة من الدخل القومي وبسبب اشتراك بريطانيا في الحرب على العراق. ولقد تحسن وضع الولايات المتحدة في الترتيب العام هذه المرة وإن ظل متأخرا حيث لم تعد من بين البلدان الواقعة في الثلث الأخير من القائمة حيث أنها احتلت الموقع 83 عالميا بعد أن كانت في الموقع 97 في العام الماضي وربما كان إلغاء مؤشر المشاركة في قوات حفظ السلام واستبداله بمؤشر المساهمة في نفقات قوات حفظ السلام هو الذي حسن من وضع الولايات المتحدة لمساهمتها الكبيرة في هذا المجال.
أما الدول العربية فقد جاءت ضمن مجموعة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وضمت (16) بلداً عربياً إلى جانب إيران وإسرائيل. واحتلت قطر المرتبة الأولى عربيا (16 عالميا) تبعتها عمان (21 عالميا) ثمّ الإمارات العربية المتحدة (40 عالميا) والكويت (42 عالميا). وجاءت ليبيا خلف تونس في المرتبة السادسة (46 عالميا) وجاءت مصر في المرتبة السابعة عربيا (54 عالميا)، ثمّ المغرب (63 عالميا)، فالأردن (64)، فالبحرين (69)، ثم سوريا (92 عالميا) والسعودية في المرتبة 12 عربيا (104 عالميا). وجاء ترتيب قطر متقدماً في المؤشر العام، حيث أنها قد دخلت ضمن البلدان العشرين الأولى بنيلها الموقع (16) عالميا وذلك ليس بعيدا عن مساعيها لإحلال السلام في أكثر من موقع ابتداء من لبنان ومررورا بمحاولاتها لإنهاء الصراع في دارفور. وكان في مقدور بلدان الخليج أن تحتل مراكز متقدّمة في مؤشر السلام لولا انفاقها الكبير على العتاد العسكري وتدني مؤشرات حقوق الإنسان فيها لا سيما حقوق العمال الأجانب. وجاء في ذيل قائمة الشرق الأوسط العراق فإسرائيل ثم لبنان. وأشار التقرير إلى أن تصنيف إسرائيل في ذيل القائمة قبل العراق والسودان يعود إلى حالة العداء مع دول الجوار وحربها على لبنان في صيف 2006، والحرب على غزة في نهاية عام 2008، وارتفاع عديد جيشها مقارنة بعدد السكان فهو الأعلى في العالم، إلى جانب قابليتها لأن تكون هدفاً لأعمال إرهابية وهذا واحد من المؤشرات المعتمدة، وأهم ما في الأمر هو امتلاكها لأكبر ترسانة أسلحة ثقيلة حيث تفوق ترسانتها ترسانة الولايات المتحدة الأميركية أربع مرات وسجل لصالحها الاستقرار السياسي النسبي والممارسة الديمقراطية الراسخة وانخفاض معدل الجريمة العادية.
وعلى عكس عدم الاهتمام الذي حظي به المؤشر في البلدان العربية في نسختة الاولى فقد انتبهت معظم البلدان العربية لأهمية المؤشر. وقد قلبت صحف اليوم الذي تلى صدورالمؤشر على الأنترنت ولقد وجدت تقريبا تنويها بإعلان نتائج المؤشر لعام 2009 في جميع الصحف العربية وتناولت كل صحيفة موقع بلدها من المؤشر العالمي وماذا يعني ذلك على مقام البلد بين الأمم صعودا وهبوطا إلى جانب تأثيره على الاستثمارات وجذب رءوس الأموال. ولقد أولت الجهات الاقتصادية في معظم البلدان العربية اهتماما بالمؤشر لانعكاسه على قطاع الأعمال والحياة الاقتصادية خاصة في إطار الأزمة المالية والاقتصادية الحالية.
لم أجد ذكرا لصدور المؤشر في الصحف السودانية أو في موقع موقع الإذاعة السودانية أو وكالات الأنباء. ولقد قادني البحث إلى مقال كتبته في هذه الصحيفة عند صدور المؤشر لأول مرة في عام 2007 وآخر في العام الذي يليه إلى جانب ذكر لصدور المؤشر في عام في سودانييز أون لاين بقلم صلاح بندر. وما دون ذلك لم أجد شيئا يخص السودان والمؤشر وذلك رغما عن الاحتفاء الكبير بصدور المؤشر من قبل شخصيات عالمية مرموقة في مجال السلم والسلام من أمثال القس ديزموند تيتو، والدالاي لاما وجيمي كارتر وعالم الاقتصاد اشبينغز وجميعهم من الحائزين على جائرة نوبل.
ويبدو أن أمر هذه التقرير كشأن غيره من مثل هذه التقارير التي تصدر عن جهات عالمية رصينة في معظمها وينبغي أن تكون معينا لأصحاب القرار ورجال التخطيط كما عبر عن ذلك صاحب فكرة المؤشر رجل الأعمال الاسترالي استيف كليليا الذي أنشأ مؤسسة خيرية إلى جانب أعماله في مجال تكنولوجيا الحاسوب قائلا أن ثمة صلة بين ثراء الأمم والاستقرار والسلام، لذا يرى أن مصلحة البشر وعالم الأعمال أن يعم السلام. ولكن يبدو أن كل ذلك لا يشغل أهل القرار في بلادنا أو يمنعهم من النوم. فهو تقرير كغيره من التقارير وأن نكون في ذيل القائمة فذلك أمر قد صار مألوفا ولم يعد خبرا. ولقد تعود المسؤولون في بلادنا عدم الاهتمام بهذه التقارير سواء كانت لقياس درجة الفساد أو ضيق الحريات العامة أو حرية الصحافة ويكابر البعض ويصفها بأنها مؤامرة غربية صليبية صهيونية إلى آخر ما في قاموس المكابرة. وكثيرا ما يرد حديث عن موقعنا بين الأمم في هذا المجال أو ذاك مع الكثير من عبارات الفخر والرضا عن الذات دون أن يصحب ذلك دليل ملموس على سبب هذا الرضا. كما أن بعض المسؤولين كثيرا ما يشيرون إلى المكانة التي نالها السودان والتطور الذي حظي به في هذا المجال أو ذاك دون أن يحددوا لنا ماهي نقطة الانطلاق حتى يقاس هذا التطور. فلا يكفي أن تقول أننا نفوق العالم أجمع لتعقد لك الدول الأخرى لواء الصدارة. وربما يذكر الكثيرون الملاسنة التي وقعت بين مندوب السودان للأمم المتحدة ومندوب كوستاريكا في المنظمة الدولية عندما وصف مندوبنا بلاده بأنها "جمهورية موز" فلم يرد عليه قائلا أن بلاده أحسن من السودان ولكنه أحاله بهدوء إلى مؤشر تقرير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكما هو معروف عنه هو مؤشر رصين يقوم على منهجية محكمة لتقييم أداء البلدان في مجال التنمية البشرية وهي مفهوم يتجاوز النمو الاقتصادي ويتناول مختلف جوانب التقدم لدى الأمم وقد كان ترتيب كوستاريكا في ذلك المؤشر (47) من بين 172 بلدا بينما كان ترتيب السودان (146). وترتيب كوستاريكا في مؤشر السلام في العالم هو (34).
وإن كان التجاهل والمكابرة هو ديدن أهل الحكم حتى الآن فإن الوضع لا بد أن يتغير مع احتمال دخول البلاد في فترة انتخابات حرة لأول مرة منذ أكثر من عقدين من الزمان، لأن من ظلوا يحكمون على مدى عشرين عاما بشرعية الأمر الواقع يبدو أنهم قد أدركوا مؤخرا وفقا لشرعية تسوية نيفاشا أنهم يحتاجون إلى الشرعية التي يعرفها العالم والتي هي الشرعية الوحيدة التي يمكن أن تكفل لك مكانا بين الأمم ولا أحسب أن في هذه البلاد من يسعى لانتخاب من لا يضيره أن يكون السودان دائما من دول الذيل. ولن يكتفي الناخب من الآن فصاعدا بأن يقال له إن ما أنجزته "ثورة الإنقاذ" لم تنجز مثله أي حكومة وطنية منذ الاستقلال وأنه لولا الانقاذ لظل الشعب السوداني متسولا كما كان قبل أن تنقذه الإنقاذ كما قال أحد المسؤولين مؤخرا لا فض فوه. كما أن من يتطلعون إلى تغيير الواقع ويمنوننا بغد أفضل وبأن صبحا سيسفر بعد ليل الانقاذ البهيم الذي تطاول على أهل السودان عليهم الاهتمام بموقعنا بين الأمم حاليا ليكون نقطة إنطلاق نحاكمهم بترقي أو تدني وضعنا بعد أن يتولوا زمام الأمر.
كن قد أشرنا من قبل في مقال كتبناه قبل عامين عن ضرورة أن يكون صدور مثل هذه التقارير مدعاة لفتح نقاش حر وبنّا في القضايا الكبرى يشترك فيه الجميع عن الموضوعات التي يثيرها صدور تقرير. وعن صدور مؤشر السلام في العالم في طبعته الأولى واحتلال السودان الموقع قبل الأخير كنا قد دعونا لنقاش الخيارات الاستراتيجية للبلاد وطرح الأسئلة الكبرى للتشاور العام ومن تلك القضايا الكبرى على سبيل المثال: ما هو مقدار ما يصرف على المجهود العسكري والحربي حالياً من إجمالي الدخل القومي؟ ومن قرر ذلك؟ وهل يتناسب ذلك مع الاحتياجات؟ ما هو حجم الجيش الحالي وما هو الحجم المناسب على المدى المتوسط، وهل الدفاع الشعبي جزء من الجيش أم هو قوات منفصلة وهل من ضرورة لاستمرارها؟ هل التصنيع الحربي ضرورة حيوية فعلاً والبلاد تستشرف عهد سلام وبناء؟ قررت النرويج خفض قواتها بنسبة الربع وأعادت ثلت ممتلكات الجيش للدولة للإستفادة منها في استخدامات مدنية. كما أن كوستاريكا قد اتخذت قرارا قبل خمسين عاما بالتخلي عن جيشها تماما والاحتفاظ بقوات للشرطة فقط. أرجو أن لا يهب أحدهم من خطباء الأعمدة اليومية ودعاة حبس الأنفاس ليحاضرنا في أن الخوض في مثل هذه الأمور يعد من المحرّمات. ما الذي يجعل مناقشة ميزانيات الجيش والمخابرات والإنفاق العسكري أمراً يهم كل المواطنين في كل البلدان الديمقراطية ويجعله «تابو» لا يجوز الخوض فيه عندنا؟ إن شموخ الوطن لا يقاس بمقدار عدد ما يملك من دبابات كما أبان لنا «موشر السلام في العالم».