روّاس مراكب القدرة “ضو البيت”: وداعا أيها الزين (4) … بقلم: د. محمد عثمان الجعلي

 


 

 

 

 

 (Jaaly1999@yahoo.co.uk)

الجزء الرابع

(دبي :يوليو2009)

المدارج والعتبات:

 

رواس مراكب القدرة:

يقول الطاهر ود الروّاس إن  الاسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمة الله، كان ود رحمة الله يقول إن بلال روّاس ويسألونه روّاس ماذا؟ فيجيب:"بلال روّاس مراكب القدرة". ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر. ويقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعًا معه. كأنه كان بالفعل روحًا مفردًا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض".

(مريود : طبعة دار العودة: الصفحة 48)

 

العشق:

 

"وملْ إلي البان من شرقّي كاظمة        فلي إلى البان من شرقيِّها أربُ
وكلما لاح معنى من جمالهم               لباه شوقٌ إلى معناه منتسبُ
أظلُّ دهري ولي من حبهم طربٌ       ومن أليم إشتياقي نحوهم حَرَبُ""

(إبن الخيمي)

 

المحبة :

"الإنسان يا محيميد ... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين... الصداقة والمحبة. ما تقولي حسب ونسب، لا جاه ولا مال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد.. يكون كسبان".

(الطاهر ود الرواس : مريود الصفحة 432، الأعمال الكاملة ، طبعة دار العودة)

 

الإنتماء:

"السَمكةُ،

حتَّى وهي في شباكِ الصيادين

تَظلُ تحملُ

رائِحة البَحر"

(مريد البرغوثي: رأيت رام الله،  الصفحة 181)

 

إهداء وعزاء خاص:

 

إلى أستاذيَّ وشيخيَّ:

إبراهيم حسن عبد الجليل ومهدي أمين التوم 

 

في رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة لقيم إنسانية رفيعة، موروثة ومكتسبة، تربيا وعاشا عليها وكانا، وما زالا، مهمومين بإشاعتها وترسيخها في وجدان وسلوكيات من أحبوهم:

الأطر والضوابط الأخلاقية غير المساومة نبراسها

والتعفف ممزوجاً بالتواضع الحقيقي رمانة ميزانها

وزجر النفس ولجمها عن وعند الهوى صمام أمانها

 

وإلى روح أخينا وأستاذنا العميد حقوقي "م" عبد المنعم حسين عبد الله:

آمن بما رأى أنه الحق فكان عقله وقلبه حيث آمن.. 

ثبت على عمله والتزم الجماعة..

كما الطيب ...كان إنسانا نادرا على طريقته.. 

اتخذ من المحبة "جلابية" ومن النقاء والبراءة "عِمة" و"شال"... 

داره  بحي النسيم بمدينة الرياض السعودية وبحلفاية الملوك بالخرطوم البحرية كانت واحة إنسانية وقبلة وطنية...

رحل موفور الإباء ليختال بإذن ربه زاهياً في بساتين البهاء..

رحمة الله تغشاك يا أبا محمد

 

"الياقوت في فصوص منظومة "ضو البيت": المتنبيء واللورد بتلر يترنمان مع التاج مصطفى في حضرة حاج الماحي والحاردلو وود الرضي"  (2)

 

"وكان للموصليين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس. فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات وأحله من دولته وندمائه بمكان. فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف. وطما منها بإشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب. وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها".  

 (العلامـِّة عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة :الفصل الثاني والثلاثون في صناعة الغناء)

 

الطيب صالح يقدم شهوده على إبداع اهل السودان لضيفيه:

 ضيفا الطيب اتخذا مجلسهما، المتنبي اتكأ على يمين الطيب مزهواً بما أنشد الطيب من شعره العبقري، واللورد بتلر على يسار الطيب جلس شامخا والطيب يتلو جوانب نضرة من سيرته ومسيرته سياسياً مرموقا ورجل دولة من الطراز الأول ...جلسا والطيب يرتب أوراقه لإستدعاء شهوده على رفعة الادب السوداني وقيمته الكبيره وتفاعله مع المحيط الثقافي العربي أخذاّ وعطاءً...الشهود يعلمون ضخامة المسئولية ومكانة الضيوف وندرة السانحة ..يتهيأون وجدانياً ...يرتبون مقالتهم ويحسنون حرفهم...يجلون كلماتهم ويدوزنون آلاتهم الموسيقية. ..يستعدون فيبدأ المجلس بحديث المعاني وطرب المغاني.

 

في سوح الغناء السوداني : محمد ود الرضي والتاج مصطفى

 

"بقول غِنواتْ وأقول غِنواتْ
    فى البلد البسير جِنياتْها لى قِدامْ
          ولى الولد البِتلْ ضِرعاتو فى العرضة
ويطير فى الدَارة صَقرية
     ولو السمحة تلتْ إيد ومدتْ جيد

يقوم شايلاهو هاشمية
        ويشيل شَّبال خَتَفة ريدْ وفرحة عيد
    وريدة روح وحُمرة عين وايدية"

(الشاعر الفحل محمد طه القدال :حليوة ليلة المولد)

 

هل يمكن التعاطي مع روايات ومقالات الطيب صالح وقراءتها سمعياً؟..هل توحي "موسم الهجرة" أو "مريود" أو "بندر شاه" أو "عرس الزين" أو "المختارات" بغناء معين؟ وهل يختلف هذا الغناء باختلاف الرواية أو المقال الذي نطالعه؟..في الجزء الثاني من هذا العمل أشرت إلى أنني أحيانا أوازن بين بعض مقاطع رواية "مريود" وبعض قصائد الإنشاد الديني..في ذات السياق تجدني احيانا يسري إلى مسمعي صوت فيروز البهي البهيج من بعض أجزاء "موسم الهجرة" و"بندر شاه" ومن ثنايا بعض مقالاته المتفردة وخاصة حين يغوص في بحور وسير المتصوفة يجيئني حرفه منساباً رائقا كالبلور النقي يحاكي مزيج أصوات ملائكية تتنزل من بعيد البعيد... في مثل طقس الاستماع الذي يمازج بين الإطلاع المقروء والمسموع تجيئني أصوات تشابه أصوات فاطمة الحاج السودانية والمعلومة بنت الميداح الموريتانية واستير أويكي الإثيوبية.

 

حين يروق الخاطر ويصفو الذهن على وقع حكايات مريوم مع مريود وهما يتناشدان أحاديث الصبابة ويسترجعان تباريح الهوى الفياض تأتيك على أثير نسمات ليل ود حامد من التخوم البعيدة فيوض أصوات ريانة بعبير العنبر الفوّاح فيها صدى من ترجيع مزامير داؤود الشامية إذ تغني فيروز بصوت لا شبيه له كلمات وألحان الرحبانية:

يا حبيبي كـلما هب الهوى وشدا البلبل نجوى حبه

لفنى الوجدُ وأضناني الهوى كفراش ليس يدري ما به

وحين أغوص في معاني كلام الطاهر ود الرواس الشفاف وتستعمرني مضامينه الآسرة حول المحبة والعشق ينبعث من بين حروف وسطور الطيب مضمخما بأريج المسك صوت فاطمة الحاج.. صوت نادر متفرد عبقري يرِفُّ إلى أذني وهي تسجع كيمامة على فنن الشوق والهوى صادحة:

يستحيل صدك لاني حبيتك

يجاوب صوتها الأخاذ المعجز، وانت تقلب صفحات "ضو البيت" صوت الموريتانية رائعة الجمال ذات الموقف السياسي،عاشقة أعمال الطيب صالح المعلومة بنت الميداح وهي تصدح ب "مليح القد" كعندليب أشرقت عليه أنوار الصباح :

جئت تخطو في حياء ودلال وخفر

جئت والأهداب غطت حورا يسبي الحور

يا مليح القد مهلا إنما الناس بشر

 

على صدى الصوتين العبقريين، ومن بين طيات صفحات "عرس الزين" ينبجس صوت أستير منساباً بشلالات الشوق والوداد منهمراً من "تانا"، من الهضبة كما الأزرق الدفَّاق...هكذا اتسمع بعض أجزاء أعمال "ضو البيت" أو هكذا يخيل إلىَّ. 

 

الطيب، كغيره من الإعلاميين، لا يفصح كثيراً عن مرغوباته ومكامن جذبه واهتزازته الغنائية وهذه من أضرار المهنة حيث الحياد عنوانها...قال مرة عندما سئل عن أغنيته المفضلة إنه يهوى اغنية شعبية تقول:

طلعت القمرا واخير يا عشانا تودينا لي اهلنا بسألوك مننا

 

في ظني أن ما أعجب الطيب هو القيم السودانية السامية التي تدعو لها الأغنية من وصايا رعاية اليتيم وحفظ الحقوق وإكرام الضيف وإيقاف المتجاوز عند حدوده ...ولكن لو قدر للطيب أن يدعو لمجلسه من أهل الغناء السودانيين لما تردد، في تقديرنا، من دعوة محمد ود الرضي والتاج مصطفى ليرافقاه في مجلسه المحضور.

 

محمد ود الرضي: في مكر التصوير الشعري وخداع الأقنعة

محمد ود الرضي من المبدعين الذين تناول الطيب بعض أعمالهم في سياقات ووجوه متعددة..في تنقيبه الدائم في "مطامير" الموروث الشعبي السوداني وكنوز إبداعه توقف الطيب عند بعض أبرز إبداعات محمد ود الرضي..لعل ما استرعى انتباهه في شعر ود الرضي وكان سبباً في دعوته لحضور المجلس هو مكر التصوير الشعري وخداع الأقنعة ...تحت هذا العنوان يتخذ ود الرضي مقعده في المجلس المحضور متكئاً على "شغل الطمبرة"، وزمن "الرق" و"لوحة الاحلام". 

 

 

شغل "الطمبرة": "الطابق البوخة"، "غمائم الطلح" ومعلقة الحارث بن حلزة اليشكري:

يقول المهتمون بتاريخ الغناء في السودان إن الغناء المديني بدأ بغناء الطمبور..غناء بدائي اعتمد فيه المؤدون على كلمات الشعراء كقيمة أساسية للعمل حيث لا ألحان بالمعنى المتداول ...لا نعرف كثيراً عن طبيعة الألحان ولكن بقيت بعض كلمات تلك المرحلة ك"ايقونات" قاومت الزمن لتتوارثها أجيال وأجيال..ود الرضي رمى بسهم وافر في تلك المرحلة فحفظ له تاريخ الغناء السوداني العديد من أعمال و"شغل" الطمبرة الشامخة المعبرة...."فاح لي كَبََريْته"،"جاري"، "جلسن شوف يا حلاتن"، "نادت منادى قلوبنا صاح"، "طابق البوخة" ،"الله يكبرن"...في مجلس الطيب المحضور أنشد ود الرضي أصواتاً من هذا الضرب من الغناء:

مربع:

"فَاحْ لي كَبَريْته

كبدي كالبنزين قادحة كِبريتة

أصلو هالكني منو ما بِريته

يا جرح غَوِّرْ إنشا الله ما شفيته"

مربع:

"الكِتوف وَاقعة والعيون يا ناس مويتن ناقعة

الوِجن قَادحات   في الظلام فاقعة  راجي شَبَّالة

وراضي بي صاقعة"

 

مربع:

"يَعايننْ تُوبتي في كأمن ضميرِي ويَمْحن

والشِاف فاتن جَمَالِنْ وإنتشارنْ يَمحنْ

قلُوباً مَا أنشونْ بَي نَار حَسَارِن قمْحنْ

الله يَكبرِن الكبرَني وسِمحن""

 

من "شغل الطمبرة" ذاك علق في الذاكرة الثقافية للسودان مربع احتفى به الطيب ايما احتفاء وعقد له مجالس للمقارنة والتداول...مربع ود الرضي الذي شغل الطيب وأسر وجدان أهل السودان جعل من طقس "الدخان" عند المراة السودانية موضوعاً:

"طابِقْ البوخة   قام نَدا يَهَتِف  نام من الدوخة

إيدُو عَاقْبَاهو

الجَدْلة مَملوخة لي معالق الجوف موسو مجلوخة"

 

"نار الطلح والدخان" تلك أثارت كوامن الطيب واستدعت مقارنة بين عمل ود الرضي وأعمال شاعرين عظيمين نادرين...واقفاً أمام كلمات ود الرضي نظر الطيب في أبيات لمحمد المهدي المجذوب..شيخ مشايخ شعراء السودان..نابغة زمانه وشاعر عصره واوانه ..يقدم المجذوب وصفا رائعا (رغم انه، كود الرضي، لم يمعن!): 

"وحفرة بدخانِ ِ الطلح ِ فاغِمة ٍ
ُتندي الرَوَادِف َ تلويناً و تعطيرا
لمحتُ فيهِ- وما أمعنتُ - عاريةً ً
تخفَىَ و تظهَرُ مثل النجم مذعورا
أرخى الدخان لها سِتراً فبعّدها
كدُّرةٍ في ضميرِِ البحرِ مسجورا"

"نار الطلح والدخان" تلك استدعت عند الطيب أيضاً شعر أحد ملوك الشعر الجاهلي الصميم ..الحارث بن حلزة اليشكري ...حفظ الناس المعلقة المذهبة:

آذَنَتنَـا بِبَينهـا أَسـمَــاءُ

رُبَّ ثَـاوٍ يَمَـلُّ مِنهُ الثَّـواءُ

الحارث بن حلزة اليشكري عظيم قبيلة بكر بن وائل، كان شديد الفخر بقومه حتى ضرب به المثل فقيل "أفخر من الحارث بن حلزة" ..أنشدها في حضرة الملك عمرو بن هند رداً على عمرو بن كلثوم.. ينشد الشاعر الضخم..فينتبه الطيب صالح لبعض ملامح النار التي أوقدتها هند في المعلقة المذهبة..أي نار هي؟: يتسمع الطيب قول الشاعر الفحل:

وبِعَينَيـكَ أَوقَدَت هِندٌ النَّـارَ

أَخِيـراً تُلـوِي بِهَا العَلْيَـاءُ

 

فَتَنَـوَّرتُ نَارَهَـا مِن بَعِيـدٍ

بِخَزَازى هَيهَاتَ مِنكَ الصَّلاءُ

 

أَوقَدتها بَينَ العَقِيقِ فَشَخصَينِ

بِعُـودٍ كَمَا يَلُـوحُ الضِيـاءُ

من غير الطيب صالح اللَّماح موسوعي الموهبة قادر على اجتراح إطار عبقري يجمع في تناسق ووئام آثار نارٍِ كنار المجوس أوقدتها "هند" بجزيرة العرب و"علبتها" وزادتها أوارا صويحبات المجذوب وود الرضي بنواحي الدامر وشرق النيل في بلاد السودان!.

 

زمن الرق: ود الرضي والطيب صالح:

حين انتقل الغناء المديني لمرحلة ما بعد الطمبور كانت أدوات ود الرضي قد اكتملت...كان الفتي قد اكتهل في دنيا الغناء وجود ادوات صنعته...بالإضافة لمفرداته الخاصة استلهم الصور والمفردات الدينية من بيئته الاولى في أم ضبان.. طَّور أسلوبا يقوم على الأقنعة..إبان عمله (منتدبا) كمدير للإذاعة السودانية أجرى الطيب صالح لقاءاً فريداً نادراً مع الشيخ محمد ود الرضي... في ذلك اللقاء استطاع الطيب استنطاق الشيخ الذكي حول العديد من جوانب مرحلة الغناء السوداني خلال فترة ما بين الحربين والتي اصطلح على تسميتها جوازا باسم "حقيبة الفن".

من أطرف ما ورد في ذلك اللقاء ان الطيب أصرعلى أن ود الرضي يعمد في شعره إلى إعادة إنتاج الماضي (أي ما حدث فعلا) في صيغ المستقبل أو التمني او حتى في أرتداء قناع الأحلام و"التناوم"  ...وعندما رفض ود الرضي ذلك الاتهام فجأه الطيب قائلا:

"يا شيخ محمد زول بيقول:

"داير أشوف حبيبي اليوم داك شفتو رايق ودمعه ناقع

أســود شـعـرو حـالـك أمـا صـفارو فـاقع
تـتـلاصف خــدودو لا حـجـاب ولا بـراقـع
أشـوف لـعسو ونـواعسو جـلَّ الـباري صانع
أشـوف فـي خـدو شخصي وفي صدرو المصارع"

 

 يا شيخنا انت ما شفت خلاص!..وصفا زي دا وما شفت يا شيخ محمد؟ ..يعني يا دوبك داير تشوف؟".

ود الرضي اختلف عن زملائه ومجايليه من شعراء تلك الفترة من "الأمدرمانيين" بأنه اتاهم من الريف...أتاهم من شرق النيل ..من طرف "أبوي" الشيخ ود بدر ..جاء "العربي" بثوبه و"قرعه" وقريحة شاعر نابغة فأشجى السودان ولا يزال...عندما حضر ود الرضي لامدرمان لم يجد مرتعه سهلاً ولا ميدانه سوياً ..كان عمالقة الكلم الغنائي قد استقروا بالميدان... إبراهيم العبادي كان مقلاً ولكنه كان عبقرياً موهوباً..سيد عبد العزيز وعبيد بلغا شأواً بعيداً في فنون التصوير والصور الغنائية ..يكفي سيداً أنه أنشأ "مداعب الغصن الرطيب"...هذا شعر معتوه يزدان بصور مجنونة:

أنـا وإنت في الروض ياحبيب رق النسيم حٍلى للمرور

بـقي احـلي من ساعة السرور وأدقَّ من فهم  اللبيب

 

هذا شعر يرفع من قامة سيد، الذي نعته أكثر من خبير بدروب الغناء "الحقيبي" بانه بحتري ذلك الضرب من الغناء..اسمع:

هل أتاك حديث الـــكوكب النضَّاحْ
قَمَره تمطر خُـمره وحارسها الفضَّاحْ
لو تحيجنا مــحاسن الشمس للإيضاح
مابتحيجنا مـــحاسن محيها الوضَّاح


كان بالميدان العمرابي والعمري ومصطفى بطران وعمر البنا صاحب أعظم قصيدة غزل في تاريخ الغناء السوداني "نعيم الدنيا"...كل هؤلاء على رأسهم أمير الشعر الغنائي السوداني سابقاً ولاحقاً... صاحب "يا رشا يا كحيل" و"بدور القلعة" و"جوهر صدر المحافل" صالح عبد السيد أبو صلاح....جاء ود الرضي ونثر بضاعته ..لم يكن "هيناً ولا ليناً"...جاء صغيراً في سنه كبيراً في شعره ومعانية و"أقنعته"....رموا بدررهم فرمى بدرره..."أحرموني"، "ليالي الخير"، "متى مزاري"، "نسايم الليل"، "البريق العاتم سماه"، "تيهي فوق العز والنفل"، "السلام يا روح البدن"، "الناحر فؤادي"، "يلوحن لي حماماتن"، "يا حمام الأيك"، "تيه واتاكا"، "من الأسكلا" "أنا في التمني" "بدور لو مرة"، "نجم السعد" .. غيض من فيض وبعض جميل من كل متكامل من القصيد الشجي البهي الذي رقصت على وقع غنائه نساء السودان منذ العشرينات وحتى يوم أهل السودان هذا...على حناجر حاج سرور وعبد الله الماحي والامين برهان وعوض وإبراهيم شمبات ومبارك حسن بركات وعبد العزيز داؤود وبادي محمد الطيب وعوض الكريم عبد الله وخلف الله حمد وعبد الكريم الكابلي وعقد الجلاد رقصت الحسناوات وتمايلن طرباً وشيخنا ود الرضي يبعث الغناء نشيداً حلواً كطعم البركاوي الأصيل.

بمناسبة صدور ديوانه الأول ، كتب الوزير المثقف عمر الحاج موسى مقدمة لطيفة دالة:

""محمد ود الرضي ...فنان كتب وغنى..

نظم الشعر يافعاً فرجلاً ، ونظمه كهلاً فشيخاً..

 هو جزء من تاريخ شعرنا القومي الغنائي، بل هو الجزء الاكبر من تاريخ شعرنا القومي الغنائي.

طرز محمد ديباجة الشعر بإِبر الإبتكار والخلق والإبداع، أسعد به قلوباً وأشقى به قلوباً..ورغم ذلك فقد طرب له من سعد به ومن شقي به...

على أوزان ود الرضي وخياله همست الشفاه وترنَّمت الحناجر وتغنَّت الصبايا الجميلات ورقصت العروس و"شِيل الشَّبال"، فإذا المغنون بشعرِهِ قيثارةٌ حرَّك أوتارها الجمال، ورَّهف أنغامها الشوق، وانسكبت في أصدائها تراتيل الصبابة وترانيم الشوق".

 

ود الرضي: لوحة الأحلام: هدية ود الرضي لمجلس الطيب

"لَيالي الخير جَادَنْ                 مِنْ المحَبوب

نَسايم الليل عادنْ                   من المحبوب

شُفْتَ في الأحلام ظِبى يتهادنْ    برخيمْ نَغَمات خِلْي تَنادنْ

عَبرات الشوق بيْ إزدَادنْ        تِلكُم أحلام لَيتَ تَمَادنْ


شُفْتَ الحُسن الحافل رَافلْ

في ثياب العِزْ و العِزْ كَافل
رانع واحل تايه غافل

لادن هادل ضامر كافل

رَنَا مِتَخاوف بَارِق لَجَ

بَعضُه في بَعْضُه تَرَادفْ لَجَ
نِصفُو تَثَني وأخَرْ لَجَ

لاطَم أمْواجْ من غِير لُجَّ""

فِيِه تَأملْ أيْسَرْ بَندِ             لدِْن المُثمر غُصْنُه البنْدي

مايقُه تَرَقْرق شَهَرْ الهِندي      فَوَّحْ مِنو العَرف الرّندي

 

وصحيتْ نَدْمانْ نُومي إنقلَّ  تَرخْرخ جِسمي وقُواي كلَّ

اتناوم غِش لكن كلا        هَيهات يَعود الكَان وَلّى"

 

الشادي: التاج مصطفى: ترانيم الصوفية بألحان الفالس:

عندما يتصدى مؤدي للغناء في مجلس يتشرف بحضوره المتنبي فلا بد أن يكون للفنان المؤدي من المواهب والقدرات الإبداعية التي تجعل الطيب صالح منتبهاً وفخورا في آن معاً ..أبو الطيب المتنبي خالف الشعراء قبله وبعده ليس في صياغة المعاني والعبث بالمفردات والتراكيب بل أيضاً في إخراج العملية الإبداعية وتحديد العلاقة بين الشاعر والسلطان..باختصار لم يكن المتنبيء يلقى شعره إلا جالساً بموازاة سيد الزمان ..بموازاته تماماً..لم يكن ليدفع بكل شكره للممدوح بل يجتزيء لنفسه قدراً معتبراً ..شاعر بمثل هكذا مواصفات من يتهور ليتغنى أمامه؟...التاج ذلك الفنان المبدع.    

عندما شرعت للكتابة عن التاج في إطار تناول موسوعية الطيب صالح وجدت أن من كرامات التاج وعترته الشريفة من إعلام الصوفية أن النابهين و"الشطار" من أهل الادب الرفيع والذائقة الفنية السامية كان لهم السبق في تولي الأمر..حين يتصدى للكتابة عن هرم كالتاج مثقفون و"وراقون" من طبقة الدكتور عبد القادر الرفاعي يعاونه العصبة من أولى الفكر الثاقب والبصر النقدي الحديد كالدكتور مرتضى الغالي والأساتذة مصعب ومصطفى الصاوي والدكتور نصر الدين شلقامي فالأولى بنا ان نجلس في مقاعد التعلم والتلمذة ..هؤلاء من أفاضل الناس وأكثرهم خبرة ودربة بشؤون ودروب الكتابة العالمة العاملة ..هم مكان تقدير وإجلال المهتمين بالشان العام السوداني والثقافي منه على وجه الخصوص...كتابة هذا النفر المحب من بركات التاج ومن فيوض شيوخنا السمانية من لدن شيخنا الكبير سيدي أحمد الطيب البشير "راجل ام مرحى" الذي أخذ الطريق كفاحاً عن سيدي القطب الأكبر محمد بن عبد الكريم السمان وحتى شيوخنا الأجلاء من خلفاء الطريقة السمانية الطيبية: سيدي الشيخ قريب الله بن أبي صالح، المُجاز من ابن عمه سيدي الشيخ عبد المحمود بن نور الدائم وسيدي الوالد الشيخ زين العابدين بن سيدي الشيخ الحسن بن سيدي الشيخ عبد الرحمن وحتى تاج رأسنا وغرة أيامنا باسم الثغر وضَّاح المحيا سيدي وأخي الشيخ الحبيب الودود عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله بعلمه.

يقول الأستاذ مصعب الصاوي في كلمة له جامعة مانعة رشيقة العبارة "محفلة" بالمعاني عن خلفية التاج ونشأته :"الفنان التاج مصطفى هو تاج الارومة الطيبية صداحها ووارث اصواتها القديمة الصادقة المشبعة بانفاس الرضوان. والده الشيخ مصطفى محمد احمد عبد الدافع عبد اللطيف ابن الفقيه البشير والد الشيخ الطيب قدس الله سره ونفعنا بعلمه وسيرته. وعبر الشيخ الفقيه البشير يتصل نسبه بأصل الشجرة السمانية المباركة. ليتصل موكب الذكريات من "ازاهير الرياض الى شرب الكأس رشفات المدام"(انتهى).

التاج مصطفى جاء للغناء على خلفية سجادة صوفية عرفت التواشيح الدينية والقصيد النبوى والأصوات الذاكرة التي تترنم بالنشيد فيجلجل صداه في الآفاق البعيدة ...حين يغني التاج تستريح القوافل من وعثاء الترحال وحين يصدح تستجم الترابلة والفعلة من مشاق العمل وحين يترنم بالتواشيح والموشحات يتمايل أهل الإشراق والفكر وحين "يكسر" التاج ب"السادة لونو خمري" يتراقص "الأفندية" كالسكارى وما هم بسكارى إن ذاك إلا خمر الأداء وبابلية الشجو المقيم على حنجرة الصوفي الراقي.

 

تدرج التاج في سلك الغناء ثم كان قدره أن يلتقي بهرم الغناء السوداني الشامخ عبد الرحمن الريح...عبد الرحمن الريح هو، بلا جدال، زرياب الغناء السوداني الحديث ..هو قنطرة تحديث الغناء من حقيبة الفن إلى الغناء الوتري الحديث..عبد الرحمن الريح وكرومة يقفان كقمم سامقة ومنجمان للإبداع لا ينضبان ...على مطايا كلمات عبد الرحمن الريح وألحان كرومة تمخر زوارق الإبداع في الغناء السوداني منذ حسن عطية في "خداري" وحتى "عافية حسن" والمتسابقون في برنامج "نجوم الغد"...حينما التقى التاج بعبد الرحمن الريح شهد غناؤه، بل الغناء السوداني كله، نقلة نوعية غير مسبوقة..أنتج اللقاء "الراجمات" في ديوان غناء التاج..."سحروك ولا مالك"، "إنصاف" و"الملهمة" هذه لم تكن أغاني وحسب كانت فتوحات غنائية حقيقية تركت بصماتها على مجمل ساحة الغناء السوداني.."الملهمة" كانت المظلة التي تحتها جاءت عناوين التجديد الغنائي وحسبك "الفراش الحائر" التي تولدت عنها تماماً....أغاني عبد الرحمن الريح التي صدح بها التاج أضافت خيوطا حريرية لا تخفى في منسج الغناء ..."الملهمة" جدد بها التاج عالم الشعر واللحن مفجراً إمكانات غير مسبوقة للغناء السوداني ومكتشفا القدرة على توسييع شرايين وحمولة الجمل اللحنية مبتدعا قوالب للغناء جديدة رائعة ومدهشة:

صوت:

سحروك يا حبيب    أظنك كنت خايف    من عين الرقيب
وإلا يا حبيب ..
كيف خاطرك يطيب؟  وكيف موعد زيارتي   عن بالك بغيب؟!

صوت:

غرامي بيك يا فاتن مصدرو الانصاف
أنصفت حسنك حب.. وانصفت حبي عفاف
دوبت روحي معاني دقيقة في الأوصاف
هومت نفسي خيال في معبدك طواف
سكبت روحي على كأس المحبة سلاف
..
هل بعد هذا أكون لسهام نواك أهداف؟!

صوت:

نور العيون

أنت الأمل وأنت الرجا
والفرحة يا نور الدجى
أضمن إلى روحي النجا
لو طيف خيالك لي جا
في الكرى .. هل أرى..
شخصك قريب يا هل ترى؟!

 

التاج مصطفى: الأخطل الصغير وابن زهر: الشامي على المغربي:

والطيب يقدم التاج لجلسائه يعلم يقينا إن سليل الشيوخ العارفين قد نهل من معين اللغة منبعاً ومرتعاً ..بيتاً ومعهداً ..تشرب من فراديس اللغة الفصحى كما ارتوى من فيض اللغة السريانية في حلقات عترته الشريفة.. كما تقول سيرته فالتاج عبر من المعهد العلمي...عند تناوله لقصائد الفصحى لم يأخذ من المبذول للكافة على الاطراف ..ذهب إلى حيث المسالك الوعرة مرتقياً إلى سدة العربية الفصحى في لبنان ليأخذ من كنانة الشاعر الضخم بشارة بن عبد الله الخوري (الأخطل الصغير) إحدي درره الباقية "المها أهدت إليها المقلتين":

المها أهدت إليها المقلتين *** والظبا أهدت إليها العُنقا
فهما في الحسن أسنى حليتين *** للعذارى جلّ من قد خلقا
ورمى في صدرها رمّانتين *** من رأى الرمان فوق الخيزران
فهما في صدرها كالموجتين *** أيّ صبّ ما تمنّى : الغرقا

 

هذا هو الأخطل الصغير وهذه هي الشام وهذا هو التاج مصطفى، يقول الطيب صالح كما نتخيل  ...لتكتمل الصورة يأخذنا التاج غرباً إلى حيث الاندلس "المولود".. إلى حيث عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" وغرناطة وقصر الحمراء وقرطبة وزرياب والمجد العربي الكبير ..ومن ثم الدويلات وبني الاحمر وأبو عبد الله الصغير وهضبة "الزفرة الاخيرة" والموشحات وما أدراك ما الموشحات و"جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمن الوصل بالأندلس" ولسان الدين بن الخطيب..التاج هرم كبير لا يأخذ إلا من كبير..يأخذ من ابن زهر الأيادي الأندلسي "أيها الساقي":

"أيـّها الساقي إليك المُشتكى قد دعوناك وإن لم تسـْمع ِ
ونديم ٍهمتُ في غُـرَّتـِه
وشربتُ الرّاح من راحتِه
كلـّما استيقظ َ من غَفـْوتـِه
جذبَ الزّق إليه واتـّـكا وسقاني أربعا ً في أربع ِ"

ما لعيني عَشِـيَتْ بالنـّظرِ
أنـْكرَتْ بعدَك ضَوْءَ القمر
وإذا ما شِئـْتَ فاسمَعْ خَبـَري
عشيـَتْ عيناي من طول ِ البـُكاء وبكى بعضي على بعضي معي
ليسَ لي صبْرٌ ولا لي جَلـَد ٌ
يا لـَقومي عَذَلوا واجتهدوا
أنكروا شكوايَ ممّا أجدُ
مثلُ حالي حقـُّه أن يـُشْـتـَكـَي كـَمَدَ اليأس ِ وذُلَّ الطمع ِ

 

يغني التاج فيطرب مجلس الطيب، ينشد فيتمايل القوم، يترنم بالموشح فيزداد القوم متعة ويزداد الطيب شموخاً ويزداد مجلسه المحضور ألقاً ورونقاً.  

 

الطيب صالح والقصيد النبوي: من ألواح حاج الماحي:

 

"من أُذن له في التعبير فُهمت في مسامع الخلقِ عبارته وجَليت إليهم إشارته"

(سيدي إبن عطاء الله السكندري: الحكم العطائية"

 

أَمِنْ تذكّر جيرانٍ بذي سلم      مزجتَ دمعًا جرى من مقلـة بـدمْ؟

أم هبت الريحُ من تلقاء كاظمةٍ   وأومضَ البرقُ في الظلماء من إِضَمْ؟

فما لعينيك إن قلت اكففا همتا؟  وما لقلبك إن قلت استفـق يهــمْ؟

(الإمام "شرف الدين  البوصيري: "الكواكب الدرية في مدح خير البرية":"البردة")

 

"لمعتْ نارها وقد عسعس الليلُ

وضلَ الحادي وحارَ الدليــلُ

فتأملتُها وقلتُ لصحبــــي

هذه النارْ نار ليلى فميلــــوا"

(السهروردي المقتول)

                    

لعل الطيب صالح من طلائع المثقفين السودانيين الذين أولوا المديح النبوي اهتمامهم واستبطنت أعمالهم فرائده ومذهباته..هذا الضرب من الشعر وما تصاحبه من إيقاعات كان في صلب الموروث الشعبي للثقافة العربية الإسلامية للسودان الشمالي...إن ديوان الإبداع الشعري السوداني قد حفظ لأجيال من مادحي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم من طبقة ود سعد وود اب شريعة وود تميم وود الحاجة وصالح الأمين وود بعشوم وحاج الماحي وعلى ود حليب وود دوليب وود أبو كساوي واولاد الدقوني وود المتعارض بمثل ما حفظ لأقيال الشعر من طبقة عبد الله عبد الرحمن الضرير ومحمد سعيد العباسي والبنا الكبير. الروح الصوفية العميقة اهدت الطيب مسالك العنبر والريحان في دروب المدائح النبوية وآزرته وهو يوازن ويقارب بين تجليات شرف الدين البوصيري في "البردة" ونهجها عند امير الشعراء شوقي.

في مجلس يتشرف بالحضور الزاهي لأبي الطيب المتنبي وتطرح فيه عيون الشعر السوداني كان لا بد من حيز للقصيد النبوي وإن كان أبو الطيب هو "عقيد" الشعر العربي كله فإن حاج الماحي هو "مقدم" كثير من هذا الضرب من الشعر في الأقاليم السودانية.      

 

حاج الماحي: الترقي في الإيقاعات ما بين "الدليب" و"الدقلاشي":

إعجاب الطيب صالح بالشيخ المادح حاج الماحي إعجاب قديم ..لا تخلو رواية من رواياته من سيرة مادحي المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم وعلى رأس القوم شيخنا حاج الماحي...حاج الماحي المولود في قرية الكاسنجر قبل أكثر من مائتي عام لا تزال قصائده وأشعاره تعطر سماوات الإنشاد العرفاني ببديع القصيد النبوي ..لا تزال محطات تلفزة وإذاعات ومؤدون بعضهم حقيقي وأغلبهم من العاطلين عن كل موهبة يعتاشون على حداء المادح الكبير...ومن بركاته إن ذريته لا تزال تحافظ على إرثه الضخم العظيم ولا تزال دوائر الحضرات العرفانية تتعطر بكلمات الشيخ والمادحون ينشدون:" شوقي ليك يا أحمد عظيم الشان"، القبة البلوح قنديلا" و"بتين يا عاشقين نحدي الجمال" و"طالبات المدينة ام سور" والليلة الحجاز لاح ضو براقو"، و"اب جاهاً حوانا" و"شوقك شوى الضمير"، و"سمح الوصوفو" ،"أسد الله البضرع" "أم قزاز شامخ بناكي" "مكنوس حرمك المزيون" "القبة المعظم شأنا" "يا رحمن أرحم بي جودك" ...وغيرهن وغيرهن مما طرز هذا العبقري من قصائد نبوية تشجي القلب الخلي وتسعد الروح المعنى ..ورحم الله الشاعر الاديب الفنان عمر الحسين غشت قبره شآبيب الرحمة والغفران بقدر ما أسدى للثقافة السودانية من خدمة عظيمة وقد تحمل عبء جمع وتدقيق ومتابعة إخراج ديوان حاج الماحي فأهدي المكتبة السودانية كنزا نادراً ..المرحوم عمر الحسين جمع بين دفتي الديوان أكثر من مائة وثلاثين من قصائد حاج الماحى.

في مراجعته لمختارات الطيب صالح كتب الأستاذ أحمد بابانا العلوي:" لا تخلو خاطرة من خواطر (الطيب صالح) من نوادر فن القول الجميل..(فقد) حدثنا عن فرقة الإنشاد السودانية التي جاءت إلى معهد العالم العربي بباريس، لتنشد من أشعار "حاج الماحي" المتيم الذي منَّ الله عليه،  فانصرف بعد حياة اللهو إلى مديح الرسول (ص) فأصبح مثل البرعي والبوصيري"( انتهى).

حقيقة الامر إن حاج الماحي عاش حياة اللهو في مطلع شبابه قبل ان يوقف كل إبداعه لمدح المصطفى عليه أفضل الصلاة ..في مقتبل العمر كان مغنياً مجيداً ..حفظ له تاريخ غناء الشايقية:

"يا قِزاز الرومي الرُهاف

والعِطر في بطنو بنشافْ

و"عاشة" حبة دم الرِعاف

وشالا صقراً قالوا ختَّاف

وخلا ناس التوم في سِراف

ومكوي ود داوود كي خِلافْ"

 

الطيب وقف على مديح حاج الماحى منذ بداياته..انظر وصفه لفرقة المديح السودانية وهي تشنف آذان الحضور :"وقفوا على المسرح في جلاليبهم البيض وعمائمهم وعباءاتهم يضربون على دفوفهم وينشدون من شعر (حاج الماحي)..بتلك الأصوات الريانة المعتقة المملوءة بالشجن والحبور والحزن كأنها أنهار تتدفق من منابع سحيقة في أعماق التاريخ" ..ينشدون من المدائح "عيب شبابي الما سرح":

"أعطوه تُفاحاتْ بَلــَـحْ

حين ذَاقا قال دمَّاعو تَـحْ

رادلو الجَليل قلبو إنشرحْ

طَابْ عقلو مَسرُور بالفَرحْ

جابْ لي شفيع الناس مَدَحْ

شَتَمو الهبيش دّقَا ونَبـحْ

السِمعو في جُوفو انْجرحْ

من شوق حبيبو يسوي احْ"

 

ذاك عشق وهذا عشق..من الحبيب الخاص و"عاشة" حبة دم الرعاف" إلى الحبيب الأشمل..إلى سيد ولد آدم الذي حوى كل جمال جُملا.. حاج الماحي في تحولاته وتدرجه في مراقي ومقامات العشق النبوي انتج إبداعاً فنياً عظيماً ...مدرسة متكاملة للمديح النبوي ...تعامل مع فنون الطار كلها ..فنظم القصيد "مخبوتاً"، و"مربعاً"، و"معشراً"، و"حربياً" و"دقلاشيا"...هذا ما علمناه من امر وفنون الطار من المثقف الشاعر الصوفي قرشي محمد حسن ،غشت قبره شآبيب المزن الهطَّال غفرانا ورحمة..فعنده أن المدحة" اي مدحة، لا تخرج من ضوابط هذه الأقسام الخمسة .. رحم الله الأستاذ قرشي محمد حسن الذي أسمع أهل السودان غناءً عاطفياً رقيقاً شفيفاً وأشجاهم بعفيف شعر الغزل فمنه نهل العاشقون بديع كلمات "اللقاء الأول" و"الفراش الحائر" و"خمرة العشاق" و"عتاب" و"نجوى"..تحوله للمدائح والقصيد النبوي كان تدرجا طبيعيا في مراقي ومسالك رهافة الحس والشعور.

 

زوامل مسارات الرحيل إلى منى: ما بين الأظعان و"البوكسي اتنين ديفرنشي":

 

من إبداعات المديح السوداني أن شعراء المديح وهم ينهجون نهج أسلافهم من كبار الصوفية في حنينهم للأراضي المقدسة وشوقهم لزيارتها لم يتوقفوا فقط عند وصف الطرق والمدن والأحياء والقبائل بل أولوا الزوامل والرواحل شأنا كبيرا وتخيروا منها ما يريدون وأبدعوا في ذلك وشقوا طريقا مختلفا .. لعل هذه الخاصية جعلت الطيب صالح يتكيء في مجلسه مزهوا بفرادة شيوخه وشيوخنا من أئمة هذا الضرب من الشعر.

 

إذا كان ديوان الشعر النبوي قد حفظ للإمام العارف سيدي عمر بن الفارض قدس الله سره "سائق الأظعان":   

سائقَ الأظعانِ يَطوي البيدَ طَيْ   مُنْعِماً عَرِّجْ على كُثْبَانِ  طَـيْ

وبِذَاتِ الشّيح عنّـي إنْ مَـرَرْ   تَ بِحَيٍّ من عُرَيْبِ الجِزعِ حَيْ

فإن ذات الديوان قد حفظ للعارف بالله سيدي عبد الغني النابلسي "يا سائق الأظعان":

يا سائق الأظعان  بين البوادي سر بي مع الركبان واحفظ فؤادي

 

في ديوان الشعر النبوي السودان وفي باب الرحيل إلى منى أبدع حاج الماحي والشيخ أبو كساوي في وصف زاملتيهما ...حاج الماحي في "سمح الوصوفو" رسم صورة زاهية جميلة للجمل الذي يتمناه في رحلته للأراضي المقدسة ..يقول الشيخ: 

"يا ربّي سَآلك تقبل لى مّطْلب               تعطيني جَملاً كَبِيلي أصَهب
 مُو الدونْ قِصيرْ وماهُو المَشقلب            أصْهبْ بُشاري طايع مأَدب
  صَدراً مفَجَّج في شوفتو ترغب            سَرجاَ سناري محْكوم مَذهَّب
   والفَروة مِرعِزْ اتنيها واركب               فُوقو إن رفَعْتَ من حينو جَلّب
   قُلتْ يا سلاماً أقبل وقبقب                 تسمع مشيهو رجليهو طَبْ طَبْ
ينسف دوايرو بيناتَ يلعب                 ليهو المسافة تِنْصّرْوتقرب
    الماحي فوقو بي مَدحو يطربْ                  بى زَمزَميتُو والزاد محقَّّب
إن رِدت تاكْل وإنْ رِدتَ تشربْ          هوِّى ومُناي في ام سُور وكوكب
القبة خضراء ونساما هبهب           نَوصلْ نزورو وفي شَفَاعتو نُكتب"

 

إن رأى البعض أن حاج الماحي قد بالغ في تفصيل مرغوباته في خصائص وسمات ما يتمناه في زاملته فإن الشيخ أبو كساوي قد زاد على ذلك تفصيلا ..ولعل مواصفات ذلك الجمل المرغوب تجعله من الندرة بمكان ..وقد أقر الشيخ أبو كساوي بهذه الندرة في مفتتح الجزء الخاص بالجمل في رائعته "قام الحجيج قطع":

جملي البدورو ما أظنه يتوجد
ابيض في لونو وعلى الدبلان يزيد   أفطس قدومو قلماً مبري بالإيد
سمحات عيونو ختماً دق ود تبيد    شارفات رجلينو مكلوفاً ياالرشيد
زمامو الفضة أربع تاواق ويزيد      خناقو الشولق غشيم دهب العبيد
رسنو حريراً بارد لمسك الإيد        إن قلت رقبتو كالروق الفي الحويض
مكوكب زورو والفدعة العند الإيد       ضامر حشاهو ماهو المتين عريض
إن قلت ضنبو فوق الشبرين ما بزيد      مرخي عرقوبو شوتال مدقوق جديد
سمحات سيقانو كاليد الهي حديد         مدور خفو في الوطية مو عريض
شارف سنامو قبة سيدي العبيد           طبعو المؤدب لو عاصي لو عنيد
كدي جيبو ونوخو يالعوض يا العبيد    سو فوقو سرجاً مكسي ومحشي جديد
إن قلت مجدوراً كالفصلة الفي القصيد     إن جاكا ماشي كيف عفرة الصعيد
يا أخوي أرتالوا من كونك ماك جديد       خنق للطارة طالب الرسول السيد
ريس السفينة قال أهلاً مداح السيد        بلاش أدخلو إن شاء الله توافو العيد
ودخلنا فيها وكدي قلنا يا مجيد          في سروة واحدة وصلنا بقدرة السيد

 

وإذا كانت أزمان حاج الماحي وأبو كساوي كأزمان سادتنا المتصوفة الاوائل اعتمدت الظعائن زوامل وحيدة للرحلة الميمونة فإن شيخنا عبد الرحيم البرعي قدس الله سره قد اختار زاملة زمانه..انتقى آخر منتجات "التايوتا" من البوكس الهايلوكس "خمسة شنكل" راحلة له وأبدع في وصفها: 

"نركب فوق بوكسي جديد ولا مهلهل

تصميم مكنتو كطرازنا الاول

"قوديار" لساتكو في الرملة ما بيوحل

اتنين ديفرنيشي متل البرق واعجل

موزون ومجهز صامولتو ما بتنحل

تنكيهو مظبط وملان من شركة شل"

 

قصائد حاج الماحي والمدونات المعرفية:قصيدة "شوقك شوى الضمير" نموذجاً:

 

من فرادة شعر حاج الماحي أن مطولاته النبوية قد شملت مدونات متكاملة لبيئته ببشرها ومدنها ونباتها وحيوانها ..تطالع قصائده التي أنشاها قبل مائتي عام فتعلم تاريخ وجغرافية واثنوغرافيا المنطقة ومسارات الترحال ونقاطها المركزية سواء كانت مزاراً او قرية أو نزل قبيلة  ..ولعل قصيدة "شوقك شوى الضمير" توفر مثالا ناصعا باهرا على هكذا مسعى شعري.

 

قصيدة "شوقك شوى الضمير" تبدأ ،كعادة هذا النمط من الشعر، بالدعاء لله لتيسير الأمور ومن ثم الصلاة على النبي عليه أفضل الصلاة وذكر مناقبه ومعجزاته ومجاهدات الخلفاء الأربع والستة من صحابة الرسول الكرام "ناس طلحة والزبير أبو عبيدة وعمار بن ياسر وسعد بن ابي وقاص.. وفضل أعمامه ومن ثم يشير للفرسان من الصحابة خالد بن الوليد وحمزة بن عبد المطلب.

 

يبدأ الشيخ في وصف رحلته للمدينة "ام سور" بقافلة يتقدمها خبير حتى البحر الاحمر ثم العبور إلى الأراضي المقدسة ثم زيارته للبشير ودعواته بما يريده في "الجنة أم قوارير" ..عند الدعاء بجوائز الجنة لا ينتقي لنفسه فقط بل يطلب الجوائز من "الحور العين" آلاف لزملائه ولعشيرته ..في مدونته الباذخة نعلم زملاؤه من المادحين الذين سأل المولى أن يجزل لهم العطاء ...المادح البشير ومحمد البصير واحمد الفقير والصافي والحاج ولد ضكير وود كنانة الخير والطاهر ووالده.

دعوات حاج الماحي لا تقتصر على المادحين من أحبابه ورصفائه بل تأخذنا مدونته إلى مدن وقبائل وأفخاذ وعشائر وبيوت دين تمتد من "الباقير" (شمال غرب بربر) وحتى  الدر (جنوب أسوان)...من الواضح أن المواقع التي أشار إليها قد زارها مادحا للمصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام:

"ياخواني لا "الباقير لا قوز البسابير
مويس والسناهير سيال مع الجوير
كرقوس والمغاوير بقروس والكمير

سقادي البقاقير    الدامر والعشير
الباوقة والسنقير  مقرات مع اب سدير
بي دار المناصير جيراني الكجاجير
عريب الكواوير جريف الحواجنير
سقاي ولاد شبير  عمراب والسواعير
دويم ود حاج شهير الدتي والحجير

تنقاسي والقرير  حلة ولاد صبير
جزيرة ود سرير شوايق والبدير

لاتنس الجبابير في أبقسي التجاجير

عربان الهواوير لا أرقو والحفير
ابريم كنوز والدر مايشوفو زمهرير
في زفة الوزير"

هذا ما كان من الجغرافيا البشرية أما تضاريس المنطقة وسمات البيئة العامة فقد لخصها الشيخ الكبير في أبياته الدالة المدونة:

"صليت ألوف تكرير سلامي غير تعبير
بي عد التفاسير عدد السباع والطير
صقور والزرازير جراد والعصافير
نبات العتامير القوي والغرير
الحنطة والشعير"

 

رحم الله حاج الماحي عدد ما لبى الحجيج وما طاف الطائفون وأجزل له العطاء ما حنت الظعائن وما شدا طائر وما انشد مادح و"خنق" الطار في مد خير البرية.

 

الطيب صالح في "بطانة اب علي": الحاردلو يعرض شعره على المتنبي

"إن أدَّاكْ وكَتَّرما بقُول أدَّيت

أب دَرَقه الموَشَّح كُلُه بالسوميتْ

أبْ رسوة البِكر حجَّر ورود سَتيت

كَاتَال في الخلا وعُقبان كريمُ في البيتْ"

(الحاردلو في مدح عمارة ود محمد ود حمد)

 

اعجاب الطيب صالح بشعر الحاردلو لا يحتاج لقص أثر فهو بائن في كتاباته المتنوعة ومقارناته الممتعة..حين ينشد أبياتا للحاردلو يتبدى الإعجاب في نبرات صوته وتعليقاته..في لقائه التلفزيوني مع الكاتب والشاعر خالد  فتح الرحمن أنشد مربعا للحاردلو اعقبه بتعليق دالِ ومتعمق..وصف الصورة التي رسمها الحاردلو للظباء في اواخر الظهيرة والشمس قد "خوَّخت" داخلة في جراب المغيب وقد انعكس ما تبقى من أشعتها على صفرة جلود الظباء بأنها لوحة عالية التناغم في تلوينها تشابه تصاوير رواد عصر النهضة "ريننسناس" ...الصورة التي جادت بها مخيلة الشاعر الفحل وعبَّر عنها بكلماته الجزلة الموحية تقول :

"الليلة المعيز ما أظن أنا ملاقيهنْ

قاصداتْ البِطين خلْنْ قليلة قفيهنْ

سِمعنْ طَنْة الشادي وكِتِر صنفيهنْ

وعند الإصفرار جَفَلنْ بشوف لصفيهنْ"

قارن الطيب بين الصورة التي أبدعها الحاردلو شعراً ورسومات وتصاوير باهرة أبدع رسمها وتلوينها فنانون من طبقة روفائييل ومايكل أنجلو وليُونارْدو دافينشي...مقارنة مثل هذه كانت دافعا قويا للطيب لدعوة الحاردلو لتشريف مجلس يتبوأ سدة بابه العالي سيد شعراء العربية ما سبق منهم وما لحق.

 

الطيب صالح، عبد الله ود أربيه ،ذو الـرُمة والحاردلو:

"غفلت زماناً عن هذا الشعر الجميل، شعر ذي الرُمة، حتى نبهني إليه عبد الله ود أربيه.كانوا في موريتانيا يعدونه من الحُفَّاظ، وإذا علمت ان أهل موريتانيا من أحفظ خلق الله لشعر العرب، أدركت كم كان يحفظ عبد الله أولد أربيه.تزاملنا في غفلة من صروف الدهر في الدوحة الميمونة الطالع. رحمه الله ،كان إنساناَ كريم الشمائل بشكل عجيب.من بادية بتُلْميتْ من أرض شنقيط، وهي بلاد تذكر ببادية كردفان في غرب السودان، وفي كليهما أوجه شبه بأرض نجد، حيث غنى غيلان ما شاء له الغناء، شعراً يجري تحت مظهره الخشن، كأنه نهر سلسبيل. وبين غيلان والحاردلو شاعر البطانة، وشائج قربى لا تخفى".

(الطيب صالح في مفتتح مقالاته عن عبد الله أولد أربيه: المختارات: الجزء الثاني،الصفحة 192)

 

في سلسلة مقالاته الممتعة حول صديقه الموريتاني عبد الله أولد أربيه تتبدى صفات الطيب الراقية ووفائه الصادق لصديقه الذي أدخله عالم غيلان "ذو الرمة"..عالم ذي الرمة سحر الطيب..وإن كان هناك تأثير عليه ككاتب مثقف من شاعر غير المتنبي فقد كان بلا شك من ذي الرمة... من حسنات دخول هذا العالم إن الطيب انتبه للتشابه بين شعر ذي الرمة وأشعار الحاردلو وانتجت تلك الانتباهة مقالات رائعة عالية القيمة باذخة الجمال.

 

عدَدَ الطيب في مختاراته مواقف التشابه بين أشعار ذي الرمة والحاردلو وهذا التعديد لا ينم فقط عن قراءته المتدبرة الفاحصة لشعر الرجلين الكبيرين بل يشي بمحبته الكبيرة وتقديره العالي لعبقريتهما الشعرية ...تأمل توقف الطيب عند كلام ذي الرمة في "صيدح" ناقته وما تجمشته من مشاق وهي تحمله لديار المعشوق:

ونشوانُ من طول النعاس كأنه        بحَبْلين من مَشْطونةٍ يترجحُ

أطرْت الكرى عنه وقد مال رأسُه كما مال رشَّّافُ الفِضال المرنَّح

إذا مات فوق الرَّحْل أحييت روحه  بذكراك والعيسُ المراسيلُ جُنحُ

إذا ارفضَّ أطراف السياط وهلَّلت     جروم المطايا عذبتهن صيْدحُ

 

نظر الطيب في هذا الوصف الدقيق فاستدعى مناجاة الحاردلو لجمله "العاتي" حين "ناغمه" تحبباً  بلفظ التصغير "عتيت":

يا "عْتيت" كبرنا وحالنا قط ما زل         في كل يوم تراني مقبضك منُزل

كل ما طِريتْ الزول أل دمعه جا منُهل خلَقْ الريف بقجْ ناري وغمضك قَلْ

 

غير إن ذروة سنام التشابه بين الشاعرين الكبيرين تبدو شارفة حين يوازن الطيب بين أهم عملين إبداعيين لهما..الطيب راجع فريدة عصرها قصيدة "مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَـا الْمَـاءُ يَنْسَكِـبُ" لذي الرمة التي يقول مطلعها:

مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَـا الْمَـاءُ يَنْسَكِـبُ

كَأَنَّـهُ مِـنَ كُلـى ً مَفْرِيَّـة ٍ سَـرِبُ

وفي معرض حديثه عن مكانة القصيدة يقول الطيب:" ذاك، وقد وصف ذو الرمة صلته بفنه أحسن وصف حين قال:"من شعري ما طاوعتي فيه القول وساعدني، ومنه ما اجهدت نفسي فيه ومنه ما جننت به جنوناَ. فأما ما طاوعني القول فيه فقولي"خليليَّ عوجا عن صدور الرواحل". وأما ما اجهدت نفسي فيه فقولي"أإن توسّمت من خرقاء منزلة". وأما ما جننت به جنوناّ فقولي"ما بال عينك منها الماء ينسكب"" (انتهى)...وقد قال جرير كما أورد الطيب:"ما احببت أن ينسب إلىَّ من شعر ذي الرمة إلآ قصيدته"ما بال عينك منها الماء ينسكب" فقد كان شيطانه له فيها ناصحاَ".

 

تتبع الطيب مكامن البلاغة والبيان والوصف العبقري في شعر ذى الرمة كما في قصيدة "ما بال عينك" ومن ثم التقط ببصيرته النقدية النافذة خيط التوازن بين بعض مقاطعها وبعض المربعات التي اشتملت عليها درة الحاردلو و"تمامة كيف" شعره الرائع بل "إلياذته" الخالدة "مسدار الصيد" حيث:

الشّمْ خَوّخَتْ      بَرَدَنْ ليالي الحّـرّة
والبرّاق بَرَقْ       مِنْ مِنّا جاب القِرّة
شوف عيني الصِّقير بجناحو كَفَتْ الفِرّة
تلقاها أم خدود        الليلة مَرَقَتْ بَرّة

 

"مركاز عمدة" مقارنة الطيب بين "ما بال عينك" و"مسدار الصيد" قام على فكرة مسئولية القيادة ...ذو الرمة رأى في رأس قطيع الحمر الوحشية رب أسرة "معيل" انيطت به مسئولية قيادة القطيع لمنابع الماء وحمايته من أخطار الرحلة ...وعند الطيب إن هذا عين ما توخاه الحاردو في "تيس" الظباء الذي عليه حماية "المعيز" في ترحالهن للمشارب وهو يقودهن في وهاد البطانة.

 يقول ذو الرمة:

حتى إذا اصفرَّ قرنُ الشَّمسِ أو كربتْ

أمسى وقدْ جدَّ في حوبائـهِ  القـربُ

فَـرَاحَ مُنْصَلِتـاً يَـحْـدُو حَلاَئِـلَـهُ

أَدْنَـى تَقَاذُفِـهِ التَّقْرِيـبُ  وَالْخَبَـبُ

يعلو الحرونَ بهـا طـوراً  ليتعبهـا

شِبْهُ الْضِّرَارِ فَما يُزْرِي بِهَـا التَّعَـبُ

كأنَّـه مـعـولٌ يشـكـو  بلابـلـهُ

إذا تنكَّـبَ مـن أجوازهـا  نـكـبُ

 

يقول الطيب معلقاً:"هن زوجاته حلالاً، حسب أعراف الوجود الأزلية، مشغول بهن، يحمل همهن، يعدو بهن، أدنى سيره الركض، لانه يعلم أنه إذا لم يصل بهن إلى الهدف، فسوف يهلكن ويهلك، وكلما تنكبت منهن واحدة عن القصد ، أعادها بصراخ وعويل، إنه "البعْل" المسؤول". (انتهى)

عند هذا الحد يرجع الطيب بذاكرته المتينة وبصيرته الناقدة العارفة إلى الحاردلو فيقول:" لنترك صاحبنا (ذو الرمة) ونساءه (قطيع حمره الوحشية) عند "عين أثال"..ولنعّرج على الحاردلو ولننظر كيف فعل "البطل" عنده، التيس، فحل الظباء. ذاك أيضاً مشغول بهم حلائله، يسوقهن إلى هدف بعينه. حذر كثير الشكوك لا يسير على غير هدى لذلك تركهن وذهب يرتاد ويتحقق من مخاطر الطريق، عاد إليهنْ مع الفجر، وصرخ بهن مؤذنا بالرحيل:

من "أمّات رميله" متركشاتْ لا شِمالْ
سِمْعَنْ هَدْري لا قبَّال كرير واضْلال
إشَّرْحَطْ بريقن راح يشيل وَلْوَال
وتيسن زاعَلِنْ باكِر   مع الشّهلال"

 

في تقدير الطيب أن فحل ظباء الحاردلو كانت مسئولياته أعظم بحسبان أن طريقه أطول وهدفه أبعد :

خلاّهِنْ رتوعْ في بقِيل وخَرْجَتْ نالْ
لامنْ دوَّر الوادي السِّرى سيّالْ
فوق قَمزوزْ طَلَع شَافْ في مَلينتو زَوَالْ
وقلعةْ كوْ حفيرو لِقى له فيها نعالْ
 

مسئولية "تيس" الظباء وقائدهن وحاميهن لا نهاية لها ..من تأمين الماء والكلأ والطرق ...ما ان ينجح في تامين إستراحة حتى يبدأ في كشف الطريق لتأمين المحطة التالية في مسيره الطويل الشاق...ترك القطيع هانئا وخرج لتدبير الطريق:

  جَاهِنْ منقلبْ وقتاً عِصِيرْ وشَفافْ
وكاسبْ ليلو بيهنْ مِنْ صَدَفْ ما بخافْ
ديل الطَبعهِنْ دايم الأبد عيّافْ
وفي نَايط السِروج لقْينْ بَقيلاً جافْ

 

مقارنة الطيب الباهية تتواصل حتى وصول الحلائل (ظباءً وحمراً وحشية) إلى ديارها وارتياح ذي الرمة والحاردلو ببلوغ المرام ...ولعل أبيات الحاردلو هنا تختم هذه المقارنة البديعة الرائعة:

قَطَعَنْ وَدْ دَعول وادَّنْ قِليعو قّفاهِنْ

جّفّلّنْ منْ زَوال شوفاَ بَعيدْ باداهنْ

مَلزومْ بي مراتِعْهنْ وخِبرة مَاهنْ

وَصَلنو المَصَبْ وإتوكْرنْ في خَلاهِنْ

 

الحاردلو وتصاوير عصر النهضة: من ألوان شعر الحاردلو 

في كتابه المهم "تاريخ الشكرية ونماذج من شعر البطانة" علمَّنا البروفيسور أحمد إبراهيم أبو سن

أن الشعر الشعبي أو الشعر القومي يشتمل على أبواب متعددة منها المسدار والمربوقة والرباعية....المسدار هو المطولة التي تصف رحلة المحبين في الفيافي والغفار وهم ينهدون طلباً للحبيب...المربوقة والرباعية يتماثلان في كونهما يشتملان على بيتين من أربعة أشطار ويفترقان في كون المربوقة أو الربقية تلتزم قدراً من اللزوميات.

على صعيد المسادير نوّرنا البروفيسور سيد حامد حريز في كتابه الرائد  "فن المسدار" أن ديوان  الشعر الشعبي السوداني اشتمل على أعمال كثيرة لشعراء كبار على رأسهم الحاردلو الذي أبدع مسدار "الصيد" الذي عرضنا لبعض مربعاته في الجزء السابق في معرض المقارنة بينه وأشعار ذي الرمة كما أبدع مسادير أخرى :"المطيرق" و"رفاعة" و"المفازة" و"الصباغ" و"القضارف" ..إلى جانب الحاردلو هناك أيضاً الصادق حمد الحلال- الصادق ود أمنة أو الصادق أب آمنة (مسدار قوز رجب) والعاقب ود موسى (مسدار الضِكير) وعبد الله حمد ود شوراني (مسدار النجوم) ويوسف ود عب شبيش وعثمان جماع وغيرهم.

إلى جانب المسادير كتب الحاردلو المربوقة والرباعية في مختلف أبواب وأغراض الشعر. 

كتب فخراَ:

كَمْ شويَملَهِنْ وَكْتاَ عُدالْ أيَّامي

شيخْ اللتبَراوي وفِيهو ماشي كَلامي

بالغي والبَيانْ ما بطُلَّها الغنّامي

دي قِسْيتْ عَلى ناساً كُبارْ ومَسامي

 

كتب غزلاً:

"بِت اليَازمان قَبلْ الرضِيم تتَّاقة

فيها خَمِس حُزوزْ شورتيَّن عُقُب خنِّاقة

تَلتْ وبَكَّت الخوخْ التَّقِرتُه دْقاقة

زَايدة على البنات تمرة لِسانْ وحَدَاقة"

 

"قلبي المن نشوه .. للبنات غوّاي
داب من زاد عليّ ... وغلـّب الداوي
من مسكة خنيصرو .. المو شديد لاواي
يتنهـّد بلا .. أسد الحُقا الناواي
خلفولها الشتيم .. شاشاها جاي جاي
وقال بتشلعو .. الفوكـّا النجيم ضواي
ست تبري أب نَقِش.. والداير الباراي
يا ستـّار عليّ .. من غيـّها السرّاي"

 

وكتب في وصف الطبيعة شعراً معجزاً:

"البارحْ بشوفْ بِشلعْ بريق النًّوْ

وحسْ رًعًّاده بجرح في الضمير كَوكَوْ

داكْ طير القَطا الدَوَّر مشارْع الهّوْ

وفُرقان البُطانة اتماسكتْ بالضوْ"

 

"تَعَرِفْ لي مَشَاهْد الرُقَاد والفَرَّة

فَلاَّخْ المَصَبْ بيهو بتبينْ تتورَّة

فوق حَيَا فوق مَحَل من الصعيد منْجرة

شاحد الله الكريم ما تلقى فِيهو مَضَرة"

 

 

"بَرْق القِبْلة شَالْ شَالتْ معاهُ بروق

ختَّت لهْ أم رِويق عَمَ السِحاب من فوق

العَفرتْ رَحل يبكي ويسوي القُوقْ

والضحوي إتردف ليلو ونهارو يسوق"

 

بمشاهد الطبيعة الساحرة عند الحاردلو كان فجر مجلس الطيب يزحف بضيائه على جماعة كان الضوء بعضاً من  جمالها ..مجلس إزدان برجال أضاءوا النفوس والقلوب بإبداع إنساني عظيم وأورثوا الإنسانية قدراً عاليا من الخير والمحبة والجمال.

 

انتهى بحمد الله القسم الثاني من الجزء الثالث من هذا العمل ويليه باذن المولى الجزء الرابع: هنا امدرمان....هنا لندن: "البامسيكة" في البرت رويال هول وملاعب الكرة ما بين منزول وفيرناردو توريس

 

 

آراء