توَتّراتُ القبطيِّ : غَوْصٌ في تاريخِ النِسيانِ … بقلم: جمال محمد ابراهيم

 


 

 

أقرب إلى القلب :

 

jamal ibrahim [jamalim@yahoo.com]

        (  1  )

         كما يكتب الشعر ، يكتب "أمير تاج السر" الرواية ، نضّاحة بصور خلابة ، كأنه يصوغ الياذة سودانية صافية من تاريخ بلاده الملتبس ، بناحيتي الجغرافيا والتاريخ . تقول الجغرافيا ان اسمه السودان ، ولكن يقول التاريخ القريب ، وبعد الهجمة الاستعمارية والتكالب المخزي على كنوز القارة الافؤيقية، أن الإسم يشير الى الرقعة الممتدة من سواحل البحر الأحمر الى السواحل الشمالية الغربية للقارة الإفريقية ،المطلة على المحيط الأطلسي . كان هنالك "سودان فرنسي " ، إلى جانب "الانكليزي" .. الغريب أن السودان النيلي الحالي قد اختزن في جباله وأوديته وسهوله وعتاميره الباذخة بفضاء الرمل اللامحدود ، ذلك السودان التاريخي الشاسع ، بتوتراته الممتدة من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي، والذي قطعته سكاكين المستعمرين القادمين من وراء المحيط ، ومن وراء المتوسط ، كما امتطوا المراكب والبواخر من الشمال ، غزاة بعكس التيار القادم من الجنوب . النيل المنحدر من أعاليه الجنوبية يتلقاه الغزاة بفحولية التكالب ، فيلتبس الواقع على سكانه المستقرين على ضفاف النيل . تحوم الشكوك في رواية أمير تاج السر : "توترات القبطي"(بيروت ،2009 ) ،  فيما بين "مركزي" و "مهمش" ، وينداح التخوين سموماً قاتلة ، فلا منجاة لقبطيٍّ إلا أن يختن ، ويكون اسمه سعداً لا ميخائيل ، ولا مهرب لابنة التاجر الغريب من أن تذبح  ذبح الشاة ، بلا رحمة ، في ليلة دخول القبطيّ عليها زوجاً . 

        في المدينة التي اسمها "السور" ، لن يسهل لساكنيها أن يحميهم  حاكمها من تغولات الخارج وتحرشاته المستفزة . هذا الإسم الافتراضي ، يظل افتراضياً حتى النهايات . ليس هنالك من "سور" لا يُقتحم ،  ولا هنالك من "سعد" ينكره إسمه المسيحي ، ولا هنالك من "متقي" ، يحمل الناس حملاً على مقاومة الغزاة المدججين بأطماع لا تحد ، ورغائب  تطال كل محظور ، وكل مسوّر ، وهو في الحقيقة وهمٌ ، لا يُرى بالعين المجردة ، ولا "يعقلن " وجوده إلا هوس القهر ، وضيق الناس بجور الحكام  الأتـــراك وبطشهم .

 

(  2  )

           هل هو التاريخ يعيد الروائي أمير تاج السر صياغته ، كما تصاغ الأساطير من حكايات  تتناقلها الألسن ، من جيل إلى جيل ، فينتحلها الفولكلور ، أو هي الإلياذات تستنبت من شجر الخيال ، وتتساقط في كتب التاريخ ثماراً  يانعة لا تتيبس ولا تتخثر ولا تؤكل ، فتكون مثل "شاهنامِه" الفردوسي    . .؟

كتب رولان بارت في مقالته الشهيرة "موت المؤلف" ، وأنقل هذه الفقرة من كتاب  نقد وحقيقة ،ترجمة منذر العياشي ، دمشق/باريس 1994 :

(( ولا يزال المؤلف أيضاً يهيمن على كتب التاريخ الأدبي وعلى السيرالتي تترجم حياة الكتاب ، وعلى حوارات المجلات، وعلى وعي الأدباء نفسه. فهؤلاء حريصون أن يصلوا ، في مذكراتهم الشخصية  ، بين شخصياتهم وأعمالهم . ولذا ، فإن صورة الأدب التي نستطيع  أن نقف عليها في الثقافة المألوفة ، قد ركزت بشكل جائر على المؤلف  شخصيته وتاريخه وأذواقه . ولا يزال  قوام النقد ، في معظم الأحيان ، ينصبّ على القول مثلاً : إن عمل بودلير يمثل إخفاق الإنسان بودلير، وإن عمل "فان غوخ" يمثل جنونه ، وأن عمل تشايكوفسكي يمثل رذيلته .. .))

         كلا ، لايموت المؤلف ولا يحيا .. مهما أمعنت النظر ، فإنك لن تجد لأمير تاج السر الروائي ، أثراً في روايته "توترات القبطي" ، ولكنك ترى أصابعه  تنشغل بحبكٍ متقن ، مثل أصابع فارسيّ يبدع سجادة أعجمية بغير كلل . لو جاز لي أن أقترب من مهنة الرجل ، لربما قلت إنه يبدع كتابته بمبضع جراح طبيب ، تشرّب من علم التشريح ، وحذق الجراحة الدقيقة ..!

 

(  3  )

          الذي أذهلني في الرواية التي صدرت عن دار نشر لبنانية مرموقة : الدار العربية للعلوم – ناشرون ببيروت هذا العام ، هو انشغال الروائي في كتابته بالتفاصيل الدقيقة ، لكأنه - وهو الطبيب الاخصائي-  يدقق في شرائح مايكروسكوبية ، ثم يدلف إلى الورق ليكتب فصلاً في الرواية . لا يدخل إلى النص الروائي كائن يبتدعه أمير تاج السر ،  مهما قل شأنه ، إلا وله إسم وصفة ولباس وتقاطيع ولون وسحنة  ، فتكاد أن تتحسس ما حولك ، علّ أحدهم قد خرج من بين دفتي  الرواية وجلس إلى جانبك . وإن نظرت إلى أسماء الناس في المدينة التي شهدت توترات القبطي ، فإنك لن تجد إسماً اعتيادياً مألوفاً ، بل هي أسماء  اختلقها أصحابها ، لا الكاتب . كان الروائي الطيب صالح يقول في روايته ضو البيت ( بندرشاه) ،صفحة 312  من الأعمال الكاملة الصادرة عن دار العودة 2004 ،عن أسماء شخصيات روايته على لسان شخصية إسمها عيسى :(( مسألة السماء عجيبة. بعض الناس أسماؤهم تناسبهم تماماً الخالق الناطق . عندك حسن تمسـاح ، والله لينا ود جبر الدار ، وبخيت أبو البنات ، وسليمان أكال النبق ، وعبد المولى ود مفتاح الخزنة ، والكاشف ود رحمة الله . كل واحد منهم إسمو لابس عليه زي غمد السكين . وتجدهم جميعهم ملاعين أجارك الله من شرهم.)) هكذا ، يطابق الإسم الحال  ، كما تطابق السكين غمدها ! ستجد في رواية "توترات القبطي" ، المعشوقة القتيلة "خميلة" بنت التاجر "جماري" ، وستجد الحاكم "يوسف دامير" ، والملكة "نديمة مشغول" ، والإمام "مفتاح الفلاح" ، و"ولهان الخمري" و"ودعة المصّاص" ، و"عكرمة الضرّاب" . هي أسماء لها من مدلولاتها الكثير ، تنزلت على حامليها كما تنزل السكاكين في أغمادها ..

        أما الأماكن فهي أسماء  تثير العجب كما الرهبة . "حي ونسة" تسكنه ثلة من العاهرات وما يوحي به الاسم واضح  . كذا حي "أرض الكوثر" الذي تسكنه نسوة فقيرات إذ  هن نسوة موعودات بجنة وكوثر ..  ومقهى "خزي العين" من طرافته تكاد تحسّ أن الذي يدور في المقهى مما لا تستسيغه العين المجردة .  حتى العلل والأمراض لها أسماء غنية بدلالات وايحاءات ذكية  ، تلازم سياق الرواية  :    مرض  " كسل المخ " أو "الحمى الفاجرة " أو "ورم النفس" ، تعكس ذكاء الكاتب في استثمار مهنته ، وهو الطبيب ، لنحت أسماء لأمراض  متخيلة تخدم الحبكة وتزيد القصة سحراً وغرابة . تظل مثل هذه التفاصيل  لصيقة بالقصة ، إذ سرعان ما تجد نفسك وقد صرت صديقا لهذه الأسماء الغريبة  تتصالح معها  ثم سرعان ما تحب  غيابها ثم ظهورها  وتجليها بين فصل وآخر ، وتخشى أيضاً أن يصيبك وأنت تقرأ القصة ، شيئٌ مما أصاب شخوصها من أمراض ، وفي أمكنة تثير العجب ، في مدينة "السور" في مقاهيها ، أو في سوقها الشعبي ، سوق"أبي جهل " . نعم ، "سوق أبي جهل"  هو السوق القديم في مدينة "الأبيض" ،حاضرة كردفان  التاريخية ، التي نعرف .  ولكن لا يريد لنا الكاتب أن نقارب بين مدينة  "السور" ومدينة "الأبيض" . لقد أوحى لنا أمير تاج السر ومنذ الصفحة الأولى ، أنه لا يكتب تاريخاً ، بل رواية  محضة . يريد لنا أن ندخل إلى السحر الذي  خرج من قارورة القصّ ، أن نندس  في القمقم الذي يحوي الإنس كما الجن . يختبيء الناس في صياغات الشعر ، وتأتيك الصور الخلابة من الروائي  أمير تاج السر ، فلا تملك إلا أن تحمد له تحليقه البعيد في فضاء الرواية الشعرية بأجنحة جريئة . غير أن إغراقه في غرائب الأسماء ، للناس كما للأماكن ، قد أضفى على رواية توترات القبطي" مسحة من الغموض الساحر ،  واللبس البديع  والتعقيد الرومانسي الآسر .

 

(  4 )

         كنت أعرف أن رواية "توترات القبطي" هي من الروايات التي ستجد طريقها إلى قائمة الروايات التي ستنال جائزة أدبية  .  لكن لا عليك أيها الصديق ، أنا أعرف عن  سوءات الجوائز العربية الأدبية ، ما لا يغري بتتبع أخبارها أو الانشغال بها ، ذلك أنها صارت ساحة من ساحات اللوبيات المريبة ، أو بتعبير أصدق  ساحات "عصابات الأدب العربي المحدثة" . علمت من صديقنا الأستاذ رياض نجيب الريس ، أنه تعرض لما أجبره على الانسحاب من لجنة جائزة "بووكر" العربية ونأى بنفسه من تردياتها المخزية ، وتتبعها لترضيات ، تخدم الناس لا الأدب . تتوسل لاسترضاء زيد وعبيد ، ولا تنوه بكتاب أو تقرظ إبداعا.

         غير أن هذه الرواية البديعة تثير جدلاً متعاظما حول  التعاطي الابداعي مع وقائع التاريخ ، إذ  لن تقنعني العبارة المخاتلة في أول الرواية ، كونها رواية وليست تاريخاً ، كما لا أريد للقاريء الذي  أستحثه لقراءة هذه الرواية البديعة ، أن يأخذ برأيّ  ويظن أني أحمله على اعتبار الرواية ، قراءة للثورة المهدية في بدايات انطلاقها ، وقد توجهت لمقاومة المستعمر التركي الذي أثقل ظهر السكان بالضرائب ، ثم انداحت الدعوة بعد ذلك ، من "لببب" إلى "الجزيرة أبا" والأبيض" ثم أخيراً أم درمان ، فيما الغزاة يعدّون لقهر وكسر سكان "السور" بحملة انكليزية قادمة من شمال الوادي ، من مصر وعبرها .. وفي الرواية تجليات ذكية لتنوع لامع الوقع ، في سودان وادي النيل ، تراه في وجود شخصيات مؤثرة وأخرى أقل تأثيراً ، بينهم  خبّاز وتاجر من أقلية يونانية ، وتاجر يهودي صائغ ، يبيع الحلي الذهبية ، كما هنالك الشخصية المحورية ميخائيل القبطي ، أو "سعد المبروك" ، بعد أن تحول مسلماً وانتحل الإسم الأخير إبان ثورة "المتقي" ، الذي قاوم المستعمر الغازي . ملامح المهمشين القابعين في القاع بينة  ، لن تخطئها عين ، إذ  لهم دور  في الرواية : لصوص وقتلة ومومسات .

 

        (  5  )

          لن تكون الرواية قصاً في التاريخ ، ولكنها تفتح باباً لأسئلة مهمة عن حضور المهمشين  في مسيرة تاريخ السودان النيلي ، والذي أهملته عن عمد أو عن غير ذلك ، كتب التاريخ المدرسية . إن اهتمامنا الكلاسيكي بتاريخ البلاد - لنورد مثلاً واحداً - لم ينصف حتى الآن ، إنصافاً مقنعاً دور رجل مثل يوسف ميخائيل الذي ترك لنا مذكرات غاية في الأهمية عن فترة الحكم التركي منتصف القرن التاسع عشر، تركت لفترة طويلة في طيّ النسيان  . إن عملا روائيا مثل هذا العمل الذي أبدعه الروائي أمير تاج السر ، لجدير بالقراءة العميقة ، قراءة تفتح كوة في الظلامات الماثلة ، وتكون  غوصاً في ذاكرة النسيان  لاسترجاع التاريخ الغائب  ..

 

نقلاً عن صحيفة "الأحداث"

الخرطوم – 16ديسمبر 2009

 

آراء