التعريب .. قضية التعليم العالي المحورية (2)
7 January, 2010
د.عثمان إبراهيم عثمان*
قدمنا في الحلقة السابقة للأجندة السياسية، والأيدلوجية للإنقاذ، والتي كانت وراء فرضها لسياسة تعريب مناهج التعليم العالي العجلى، والقفز فوق المتطلبات اللوجستية الواجبة لإنفاذها بطريقة منهجية، تقود الطالب لاستيعاب المادة العلمية أكثر بلغة الأم. ولذا أفضت تلك القرارات إلي: الإهمال المتعمد لقضايا المعلم مثل حصوله علي مرتبه، وعلي إلحاقه بدورات تدريبية راتبة، وإسناد الوظائف العليا في قطاع التعليم إلي أعضاء الحزب الحاكم، الأمر الذي يؤكد أن الولاء للنظام، والالتزام بخطه السياسي أهم من الخبرة التي يتمتع بها التكنوقراط، والتوسع العشوائي، وغير المسبوق في التعليم العالي من حيث أعداد الطلاب، وعدد الجامعات، واستخدام المناهج لخدمة التوجه الحضاري، ومن ثم الإهمال المتعمد للتوجهات الوطنية والقومية، وتهميش اللغة الإنجليزية علي وجه الخصوص - وذلك حتى بعدم الإشارة إليها كلغة ثانية للبلاد في أي مسودة دستور أعدها النظام قبل الدستور الانتقالي الحالي - علي الرغم من أنها اللغة الأولي علي مستوى العالم. كما بدأنا في استعراض، وتحليل مخرجات الورشة القومية، التي أقامتها كلية العلوم بجامعة الخرطوم لتقويم التجربة، بعد عقد ونصف من الزمان للعمل بها. فتعرضنا بشئ من التحليل لورقة كلية الطب بجامعة الجزيرة، والذي توصلنا من خلاله إلي التضليل الضار الذي يمارسه غالب القياديين بالجامعات السودانية.
استكمالاً لهذا الجزء نورد ما توصل إليه، البروفسير عوض محمد أحمد أستاذ الطب الباطن بجامعة بحر الغزال، والدكتور هاشم محمد حسن أستاذ الطب الباطن بجامعة أم درمان الإسلامية في ورقتهما بعنوان: "ملاحظات حول تعريب دراسة الطب في السودان" التي نشرت في المجلة السودانية للصحة العامة في يوليو 2007م، من نتائج تدعم بصورة دامغة ما توصلنا إليه من تحليل منطقي: بخصوص تطبيق التجربة بكلية الطب بجامعة الجزيرة، والتي تعتبر أول وآخر كلية الطب بالسودان يتم إنفاذ تجربة التعريب بها؛ كما أنها تتسق تماماً مع الدراسة التي اضطلع بها كل من محمداني، والجيلي وعثمان بجامعة الجزيرة نفسها بعنوان: تجربة مدرسة الطب في التعريب في الفترة (1993-2003م) والتي نشرت في مجلة الصحة لشرق المتوسط في عام 2005م بغرض تقويم التجربة في كليتهم، والتي خلصت إلي تعثر التجربة عندما أوردوا خمسة عشر عقبة اعترضت طريق تطبيقها وهي: عدم التزام كل الأساتذة باللغة العربية؛ إصرار الأساتذة علي أن يتوفر لهم المرجع العربي؛ بعض الأساتذة ترجموا المصطلحات باجتهادات فردية، ولم يلتزموا بالمعجم الطبي الموحد؛ صعوبة فهم بعض المراجع العربية، واستعمالها لمصطلحات غير موجودة في المعجم الموحد؛ كبر حجم عمل الأساتذة؛ عدم رضا بعض الطلاب عن التعريب وخوفهم من أن يعاملوا بعد التخرج كأطباء درجة ثانية؛ تخوف معظم الطلاب من مستقبلهم في الدراسات العليا، والتي تنفذ باللغة العربية؛ معظم المراجع المتاحة للطلاب باللغة الإنجليزية؛ تأثير خارجي علي الطلاب، والأساتذة من قبل طلاب الدراسات العليا، وأساتذة كليات الطب الأخرى بالسودان ولاسيما أن الممتحنين الخارجيين من تلك الكليات ويخاطبون الطلاب بالإنجليزية؛ عدم توافر دوريات منتظمة باللغة العربية؛ لم تتبن معظم كليات الطب بالسودان قرار التعريب فأضحت تجربة الجزيرة معزولة؛ إحساس بعض الأساتذة وكثير من الطلاب بأن قرار التعريب كان قراراً سياسياً وفوقياً؛ صعوبة التكامل المعرفي في بداية التجربة؛ عدم المتابعة الإدارية اللصيقة لمسيرة التجربة؛ وشح الميزانية المخصصة لاحتياجات متطلبات التعريب. المدهش أن هؤلاء الأساتذة أنفسهم وبعد سرد كل هذه المعوقات – يكفي بعض منها لنسف التجربة - خلصوا إلي القول بأن التجربة مشجعة، وأوصوا كذلك بتطبيقها في الدراسات العليا؛ في حين أنها متعثرة تماماً، وأن إنفاذها بالدراسات العليا ربما يؤدي إلي انقطاع خريجيهم عن التواصل مع التطورات الطبية المتسارعة، والتي عادة ما تكون باللغة الإنجليزية، حسب مرئيات البروفسير عوض محمد أحمد، والدكتور هاشم محمد حسن في ملاحظاتهما حول تعريب دراسة الطب في السودان.
استكمالاً لاستعراض الأوراق الهامة بورشة كلية العلوم بجامعة الخرطوم القومية لتقويم تجربة التعريب، سنبدأ بالورقة المهمة التي أعدها أساتذة كلية العلوم عن مطلوبات الجامعة التي تضم مواد: الثقافة الإسلامية، واللغة العربية، واللغة الإنجليزية، والدراسات السودانية، والحاسوب. تدرس هذه المواد الإجبارية علي مدى عامين من عمر الطالب، وتطبق عليها جميع لوائح الامتحانات بالجامعة كالمواد الأساسية، والتخصصية. احتوت الورقة علي استبيان عن رأي طلاب الكلية عن مواد مطلوبات الجامعة، كما استعرضت تفاصيل المقررات بتلك المواد، فتوصلت إلي أن: مقرر الثقافة الإسلامية يهدف إلي الكسب السياسي، وليس التبصير بأمور الدين الواجبة علي المسلم، والتي درسها الطالب بالكامل في مرحلتي الأساس ، والثانوي؛ هذا إذا كان كل طلاب الجامعة من المسلمين. ونظراً لأن جامعة الخرطوم هي الجامعة القومية الأولي، وتستقبل الطلاب المسلمين، والمسحيين علي حد سواء، ولكي تطبق عليهم لوائح الامتحانات بعدالة، وإنصاف – يغيب الطلاب المسيحيون عن دراستها، وعن امتحاناتها، رغم أنها مادة إجبارية علي جميع طلاب الجامعة حسب لوائح الجامعة المجازة من قبل مجلس الأساتذة الموقر - ؛ فأوصت الورقة بإلغاء مادة الثقافة الإسلامية، أو باستبدالها بمادة الثقافة الدينية الاختيارية. أما مقرر اللغة العربية فاحتوى علي قصائد شعرية، وقطع نثرية لا علاقة لها بما يدرسه الطالب في كلية العلوم، فكانت مضيعة للوقت، وإهدار للطاقة، فاقترحت الورقة إلغاء هذه المادة حتى يكون بالإمكان الاستفادة من الوقت، والجهد المتاحان لها في الاستزادة من المواد الأساسية والتخصصية. يحتوي مقرر الدراسات السودانية علي أجزاء من تاريخ، وجغرافية السودان – ما يؤسف له أن طلاب التعليم العام بيض الصحائف عن أبسط المعلومات عن جغرافية، وتاريخ السودان؛ فهم لا يدرون مثلاً من هو الأمير عبد الرحمن النجومي، أو الأمير حمدان أبوعنجة، في حين أنهم متفقهين جداً في سيرة الصحابة الميامين، ونحن هنا لا نفضل الفئة الأولي علي الثانية، ولكننا ضد تهميش أبطالنا القوميين - بالإضافة لبعض القضايا ذات الأبعاد البيئية، وهي جميعها موضوعات عامة، كان من الممكن تغطيتها في مرحلتي الأساس، والثانوي، حيث كان الطلاب في الماضي علي دراية تامة بالتفاصيل الدقيقة لسيرة الصحابة الأكرمين، وكذلك أبطال السودان علي مر العصور، ولذا أوصت الورقة أيضاً بنفس توصيتها فيما يخص مادة اللغة العربية. أما مقرر اللغة الإنجليزية بوضعه الحالي ففشل في إكساب الطالب مهارات في تعلم اللغة، مما أدى لعجزه من الاستفادة من الرصيد الهائل من المعرفة المتراكم داخل مكتبات الجامعة، الأمر الذي انعكس سلباً علي مقدرة الطالب في الإطلاع، وكتابة الأطروحة. ولذا أوصت الورقة بأن تدرس مواد أساسية معينة، في مسيرة الطالب الدراسية، باللغة الإنجليزية بالكامل. أفصحت الورقة كذلك عن قصور الجانب العملي فيما يختص بمقرر الحاسوب، فأوصت بإنشاء معامل للحاسوب بكليات الجامعة المختلفة. نظراً لما يعانيه الطلاب في السنتين الأولي والثانية من زحمة المقررات الدراسية؛ فقد نادت أصوات خافتة باستحداث نظام السنة الإعدادية مرة أخري لتدريس مواد مطلوبات الجامعة، خاصة وأن عدد سنوات السلم التعليمي قد تناقصت مؤخراً، إلا أن الفكرة لم تحظ بالقبول عند الكثير من الحضور.
أعلق علي مخرجات هذه الورقة بالقول: إن مواد مطلوبات الجامعة قد فرضتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، علي طلاب الجامعات الحكومية ضمن باقة سياسة التعريب في عام 1990م، التي أعقدت هذه الجامعات عن الاضطلاع بمهامها التخصصية المجودة، ومن ثم تحويلها إلي "مدارس ثانوية عليا جداً" بغرض الكسب السياسي الرخيص، عن طريق برنامج غسل الأدمغة، الذي بدأ مع الطلاب في معسكرات الخدمة الوطنية، أو دورات "عزة السودان" كما يحلو لهم أن يسموه. الأدهى والأمر أن الذين وقفوا علي إنفاذ باقة التعريب هذه بجامعة الخرطوم، قد أنشأوا مؤسسات أكاديمية موازية، معادية لسياسة التعريب، ومقترة عند الصرف علي مواد مطلوبات الوزارة، فلا تدرس مواد الثقافة الإسلامية بها. فطالما أن الطلاب قد أفصحوا، في هذه الورقة، بعدم استفادتهم من برنامج مطلوبات الجامعة، الذي يعتبر ركناً أساسياً لتجربة التعريب، وكما أوصت الورقة بإلغاء معظم مواد هذا البرنامج، فإن مدلول هذه المؤشرات يدعم بجلاء إخفاق التجربة، ومن ثم كان يجب العدول عنها، إذا كان قرار إنفاذها في الأساس، شأناًً أكاديمياً صرفاً.
أختم تحليلي لبعض الأوراق التي زينت ورشة كلية العلوم القومية لتقويم تجربة التعريب، بالاستبيان الذي قامت عليه رابطة طلاب كلية العلوم بجامعة الخرطوم، لدي طلاب الكلية الذين (بالطبع) يتبعون لمختلف ألوان الطيف السياسي، وتمحور حول سلة من الأسئلة تقود في مجملها إلي الإفصاح عن مدى نجاح أو فشل التجربة. فكما كان متوقعاً فإن نسبة الطلاب الذين أقروا بفشل التجربة، ومن ثم طالبوا بإلغائها، والرجوع للتدريس باللغة الإنجليزية بلغت 93% من جملة 1856 طالباً شاركوا فيه. ولدهشة مقدمو الورقة فإن معظم الطلاب الإسلاميين كانوا مع هذا الخيار.
تخلل الأيام الثلاثة لانعقاد الورشة نقاش حر، وشفيف، شاركت فيه جمهرة من الأكاديميين، والسياسيين، والصحفيين بالأجهزة المشاهدة، والمسموعة، والمقروءة، وطلاب الدراسات العليا، وطلاب درجة البكالوريوس من الجامعات السودانية المختلفة، وثلة من المهتمين بالشأن الأكاديمي، وقاطعتها إدارة جامعة الخرطوم العليا. من العلامات الفارقة في ذلك النقاش كانت الحسرة التي بدت علي وجوه طلاب الدراسات العليا، وهم يفندون الصعاب التي تعترض طريق استسقائهم للمعلومات من المراجع، والدوريات، والإنترنت، ومدى المعاناة التي يلاقونها، وهم مجبرون لكتابة أطروحاتهم باللغة الإنجليزية، كأن تقول للسباح:"أنزل إلي الماء وإياك إياك أن تبتل". بالطبع قادت هذه الملابسات التي خلقناها بأيدينا، إلي تدني البحث العلمي، كنتيجة لتدني مستوى لغة البحث العلمي، ومن ثم تدني مستوى أطروحات الماجستير، والدكتوراه.
هب نفر من نشطاء الإنقاذ لحضور الجلسة الختامية للورشة القومية – عند سماعهم لعلو الأصوات المناوئة للتجربة كأول سابقة بعد إنفاذها - بهدف التأثير علي إقرار توصياتها، فاقروا بأن تطبيق سياسة التعريب، قد صاحبه الكثير من الأخطاء، والمشكلات، وأن علينا أن نستمر في التجربة، علي أن تعالج هذه القضايا التي صاحبت تطبيقه في البداية، بتفعيل لجنة التعريب بالكلية، لتعمل تحت الإدارة المباشرة لعمادة الكلية لخدمة الأهداف التالية: تفعيل لجان التعريب بالأقسام؛ نشر المعلومات عن الهيئة العليا للتعريب؛ رسم سياسة واضحة للتعريب لتحديد الكتب المنهجية؛ إقامة علاقات ثقافية مع الجامعات العربية النشطة في مجال التعريب؛ تبادل الخبرات، والزيارات؛ تشجيع الأساتذة علي الترجمة، والتأليف؛ وأن تتبنى الجامعة بالاشتراك مع وزارتي التعليم العالي والبحث العلمي، والتربية والتعليم العام قيام ورشة لتقويم تدريس اللغتين العربية، والإنجليزية في التعليم قبل الجامعي؛ ولكن خاب فألهم بأن ألقمهم الجمهور حجراً، فأجيزت توصية واحدة تتحدث بجلاء عن فشل تجربة تعريب العلوم بالتعليم العالي، ومن ثم الدفع نحو إلغائها، والعودة للتدريس باللغة الإنجليزية. حملت تلك التوصية – بوصفي عميداً للكلية ورئيساً لمجلسها آنئذ – وعرضتها علي مجلس الكلية – يضم وكلاء وزارات، ومدراء مؤسسات حكومية وخاصة، وعمداء كليات بالجامعة، بالإضافة لأساتذة الكلية، ورئيس رابطة طلاب كلية العلوم - والذي بعد نقاش مستفيض "آثر فيه السلامة" أوصى لمدير الجامعة بالآتي: اعترت تجربة تعريب العلوم عثرات تمثلت في عدم توافر المعينات التي تقود لتجويد التجربة، ومن ثم ولحين توفر هذه المعينات، يوصي المجلس بالتدريس باللغة الإنجليزية. كحالها دائماً، وضعت إدارة البروفسير محمد أحمد علي الشيخ هذه التوصية حبيسة في الأدراج القصية، ولم تعرها أي اهتمام، في حين أن المؤسسية كانت تستدعي عرضها علي مجلس الأساتذة، ليرفع توصيته بشأنها لمجلس الجامعة، والذي بدوره يخاطب المجلس القومي للتعليم العالي بمرئياته نحو مخرجاتها. ليس هذا فحسب بل استجاب مدير الجامعة آنئذ لطلب رئيس الهيئة العليا للتعريب بالتعليم العالي باستدعائي بغرض محاسبتي - أمام إدارة الجامعة العليا في حضوره - نظير ما اغترفت من موبقات بحق مقدسات الإنقاذ. كنت سوف أكون في موقف لا أحسد عليه لو لم تكن كلية الطب – الكلية التي ينتمي إليها السيد المدير آنئذ نفسه - تدرس طلابها باللغة الإنجليزية، فما الذي يمنع كلية العلوم من أن تحذو نفس حذوها؟ هذا ما تفضل به البروفسير محمد نوري الأمين، وكيل الجامعة، آنئذ، بصراحته المعهودة. في ظني أن هذه الحادثة كانت ضمن الأسباب التي استوجبت إقالته من منصبه لاحقاً، ولكنها بالتأكيد كانت أهم ما دعاني لتقديم استقالتي من عمادة الكلية، والانصراف لعمل الخير.
ونواصل في الحلقة القادمة
*عميد كلية العلوم بجامعة الخرطوم السابق
osman30 i [osman30i@hotmail.com]