شكوى صاحب السنون .. لراعي قطيع “شروم” … بقلم: رباح الصادق
29 January, 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
المثل السوداني "أب سن يضحك على أب سنين" كثيرا ما نجده في الطرقات لأنه كما يقول المثل الآخر "الجمل ما بشوف عوجة رقبته".. لكن من محن الدنيا على المرء أن يرى صاحب طقم وافر من الأسنان بين مجموعة من أهل الأسنان المنزوعة "شروم بالتعبير البلدي"، وهو يشكو حاله! هذه الصورة تمثلها شكوى مجموعة المحتجين داخل حزب الأمة القومي لمجلس شئون الأحزاب يشكون من لا شرعية المؤسسات ومن قلة المعايير الديمقراطية بحزبهم ويطالبونه بالتدخل! وهم قد لوحوا بشكوى الحزب ثم قدموا شكواهم للمجلس منذ زمن ولكن لا ندري لماذا قرر المجلس الآن أن يخاطب حزب الأمة مطالبا إياه أن يرد حول تلك التهم.. فأحببنا أن نشارك المجلس والرأي العام المسألة، آملين ألا يكون تحريكها جزء من حمى الانتخابات التي أصابت المؤتمر الوطني وجعلته يعمل لتحريك كل الملفات أمام المنافس الحقيقي فتارة عبر محتجين لاحتلال دار الحزب، وأخرى بنفخ الروح في مذكرات ولدت ميتة!
ديمقراطية حزب الأمة المتوفرة حاليا هي نتاج تطور تراكمي برغم فترات الانقطاعات، ومؤسسيته تسير في خط بياني متصاعد برغم ما أصاب كل العملية المؤسسية في بلدان العالم الثالث بعد زوال المحتل، حيث شابت البنى الشيئية التي جاء بها المحتلون –بتعبير مالك بن نبي- أمراض لكونها لم تستند على ثقافة متجذرة. فبدأ مزاوجا بين البنى المؤسسية وبين الواقع الاجتماعي والثقافي، ونص دستوريا في 1945م على رعاية إمام الأنصار للحزب وحقه بنقض قراراته، وفي 1950م تنازل الإمام عبد الرحمن المهدي عن حقه في النقض مكتفيا بوجود خليفته (ابنه السيد الصديق المهدي) على رئاسة الحزب، وكان الحزب يعتمد في تمويله على دائرة المهدي بشكل حصري. وفي الستينات وقع خلاف حول تفسير نفوذ إمام الأنصار داخل الحزب أدى لانشقاقه وفي النهاية حدث التوحد على تفسير رعاية الإمام للحزب بشكل لا يؤثر على ديمقراطية القرارات داخله. في 1986م أجيز أول دستور للحزب لا ينص على (الرعاية)، وتم تكوين هيئة شئون الأنصار لتكون مؤسسة قائمة بذاتها ثم في مؤتمر السقاي (2000م) تم اعتماد (صحيفة التمييز بين الحزب والهيئة). ودشن الحزب تطوره من الأبوية للمؤسسية في عقد المؤتمرات وفي التمويل وفي وضع البرنامج الحزبي، وبلغ قمة هذا التطور في المؤتمر العام السابع المتهوم بتهم المتحجين وسنفندها أدناه.
مم شكا المحتجون للمجلس؟
(1) المؤتمر العام لم يجز الهيئة المركزية.
(2) عضوية الهيئة المركزية أكثر من 15% متجاوزة الدستور.
(3) انتخاب المكتب السياسي والأمين العام أتى بخرق الدستور ومخالفة قواعد الممارسة الديمقراطية السليمة والتي تشكل جوهر مبادئ وقيم الحزب منذ تأسيسه 1945 من الآباء المؤسسين.
(4) الخرق مقر به في الحزب وعلى مستوى رئاسته بدليل البيان الرئاسي الصادر في 13/7/2009م.
(5) ذلك يخالف المادة (40/3/ج) من دستور السودان الانتقالي (لا يحق لأي تنظيم أن يعمل كحزب سياسي على المستوى القوم ي أو مستوى جنوب السودان أو المستوى الولائي ما لم يكن لديه قيادة ومؤسسات منتخبة ديمقراطيًا.).
(6) ويخالف المادة 14/ج/ز من قانون الأحزاب السياسية لسنة 2007م (14: يشترط لتأسيس أو استمرار نشاط عمل أي حزب سياسي أن: (ج) تكون قياداته وقيادات مؤسساته على جميع المستويات منتخبه انتخاباً ديمقراطياً مع مراعاة تمثيل المرأة حسب النسب المئوية التي يحددها الحزب السياسي ، و(ز) يلتزم بالديمقراطية والشورى ومبادئها كوسيلة للممارسة السياسية والتداول السلمي للسلطة.). كما أن هنالك قيادات تشغل مواقع بالتعيين: 5% من عضوية المؤتمر العام والهيئة المركزية والمكتب السياسي بالمخالفة للقانون، ونواب الرئيس.
وتحت المادة (10/2) من قانون الأحزاب (التي تجعل من صلاحيات المجلس (أ) تلقي الشكاوى التي تتعلق بتطبيق أحكام قانون الأحزاب أو النظام الأساسي ولوائح الحزب السياسي والتحري فيها وإصدار القرارات بشأنها، و(ب) الطلب من أي حزب سياسي الالتزام بالدستور ونظامه الأساسي ولوائحه والواجبات المنصوص عليها في هذا القانون) التمس المحتجون أن يقر المجلس بخرق النظام الأساسي للحزب وبالتالي إلغاء الهيئة المركزية والمكتب السياسي والأمين العام للحزب. والتوجيه بإلغاء كافة مواد النظام الأساسي للحزب المتعارضة مع أحكام الدستور والقانون، وإلزام الحزب بالالتزام بأحكام الدستور والقانون ولوائحه، وتجميد الهيئة المركزية والمكتب السياسي والأمين العام لحين البت في هذا الطلب!
لقد تخوف كثير من عضوية حزب الأمة المخلصة من قانون الأحزاب ومن مسجل الأحزاب الذي كان ثم من مجلس شئون الأحزاب الكائن باعتبارها آليات للتحكم في الأحزاب من قبل الشمولية ومؤسساتها، وبغض النظر عن ذلك، نود مناقشة القضايا المذكورة أعلاه كما لو كان بين المجلس والأحزاب أصلا سمن على عسل! ويساعدنا في هذه الفكرة الموقف القيادي الرائد الذي اتخذه مولانا محمد بشارة دوسة في حادثة احتلال دار حزب الأمة الأخيرة، ورضا الحزب عن موقفه الذي ساهم في فض النزاع بشكل أفشل محاولات جهات رسمية وأمنية أخرى في التقتير على حزب الأمة معاقبة له على موقفه من مؤتمر جوبا المسخوط عليه.
المحتجون اتهموا الحزب في ديمقراطيته وفي مؤسسيته وطالبوا المجلس بأن يتدخل ويصحح أوراق حزب الأمة ويقر بفشله ويقول له "أعِد" وإن اقتضى أن يرفده من الساحة السياسية لأنه لا يحق له ممارسة العمل السياسي وفقا للدستور وللقانون!
كراسة حزب الأمة
إذا أراد الله نشر فضيلة طويت، أتاح لها لسان "خرخار".. ذلك أن الديمقراطية والمؤسسية في الحزب قطعت أشواط بعيدة من تلك التي مارسها الآباء المؤسسون على حد تعبير مذكرة الشكوى إياها.. فالسيد صلاح إبراهيم أحمد أول الموقعين على المذكرة حكا لي من قبل بعظمة لسانه كما يقول أهلنا المصريون كيف أن 13 من أعضاء مجلس إدارة حزب الأمة الـ15 كانوا ضد الانقلاب في نوفبر 1958م، وأن الذي أذاع بيان التأييد الذي كتبه الإمام عبد الرحمن المهدي وهو السيد عبد الرحمن علي طه فعل ذلك وهو من أبلغ الرافضين للانقلاب ولم يكن ذلك إلا لأن الإمام عبد الرحمن طلب منه ذلك الطلب ولا يستطيع أن يرفض.. هذا هو الوضع الذي كان عليه الآباء المؤسسون من ناحية الاحترام الذي بلغ التقديس لإمام الأنصار كما قال السيد محمد أحمد محجوب في رثائه له:
يا صانع المجد للسودان قد غـــربت شمــــس النهار وهذا الــــبدر يحتـجب
وأوشك الناس من شك ومن جــزع أن يحســـــبوك إلها ليــــس يحتســـب
الظلال الأبوية انقضت تماما وبمجهودات حثيثة من رئيس الحزب الحالي الذي نزع حتى عن المنصب الديني أية قدسية فالتقديس لله لا لحاملي راية الدين وهم بشر، وصارت بيعة الإمامة ذاتها تتحدث عن طاعة مبصرة.
ولكن دعك عن الآباء المؤسسين فتلك امة قد خلت لها ما كسبت وكان كسبها كبيرا إذ أنها حققت استقلال السودان الكامل، وأفلحت في بذر بذور المدنية بشكل مؤصل ثقافيا ومراع للتركيبة المجتمعية ووضعها يومذاك في سلم التطور.. فما هو كسبنا؟
لقد أفلح الحزب مؤخرا في تثبيت المؤسسية برغم الرياح المناوئة.. ألم تسمعوا بأسماء لا زالت تتحدث عن الناس في كيان حزب الأمة والأنصار كما لو كانوا تركة تورث للابن الأكبر أو تركة لورثة أعضاء مجلس الوصية الخماسي، وما شابه؟ نعم تجربة المؤتمر السابع تجربة رائدة لن يضيرها أن البعض أبى النتيجة وطفق يثير حولها الغبار، فهو غبار غير نزيه، ولذا فقط فنحن نرحب بالتحقيق حول ما دار في المؤتمر السابع لحزب الأمة.. لأن التحقيق لو كان نزيها سيتثبت أن تجربة حزب الأمة الديمقراطية هي الأكثر تقدما بين الأحزاب الرصيفة والشقيقة، وقد كنا سقنا من قبل شهادة مفكر بقامة الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوي في هذا الصدد. حزب الأمة سيكون فخورا أن يقول: هاؤم اقرأوا كتابيا!
الكلام عن إجازة الهيئة المركزية داخل المؤتمر غريب فقد شارك هؤلاء الأحباب في وضع جدول الأعمال ولم يكن هناك حديث عن إجازة بل (إعلان نتائج انتخابات الهيئة المركزية) وهذا ما كان. والحديث عن اعتراف الرئيس والقيادات بخرق الدستور خاطئ، فالرئيس أقر بتجاوز للنسبة الدستورية (وذلك ما أقر داخل المؤتمر العام بتخريج دستوري اتفق عليه هو أن يفصل بشأنه المؤتمر الثامن، فليس في ذلك البيان الذي يلوح به المحتجون فرحين جديد). لكن القادة الحزبيون رفضوا كل مرة طرح فيها الأمر مجرد المناقشة باعتبار هذه مجرد "خرخرة". الرئيس حرص دائما على اللقاء بالأحباب الخرخارين هؤلاء حرصا على وحدة الحزب وبعد مذكرتهم الأغسطسية (2009م) كون لجنة لبحث القضايا المثارة وصلت بعد التقصي لأنه وبنص الدستور الجديد المجاز في 2009م فإن النظام الحاكم لإجراءات المؤتمر السابع هو دستور 2003 وفيه النسبة المقررة للهيئة المركزية هي ألا تقل عن 15% يعني يمكن أن تزيد، وبالتالي فإنه حتى التجاوز لم يحدث!
لقد كان التصعيد في المؤتمر العام السابع ديمقراطيا حتى النخاع وشارك المحتجون في الإجراءات كلها من طقطق لسلام عليكم وباركوها بعد النتيجة، ولكنهم غيروا رأيهم لأسباب شبيهة بحدوتات النملة والفيل! (بسبب طائرة هبطت من الأردن، مثلا!).
وحتى نسبة الرئيس التي رفضتها المذكرة دستورية ولكيلا تفوت الفرصة الكفاءات أو القيادات التي تتجاوزها العملية الديمقراطية، ولم يستغلها الرئيس أبدا لحشد نصرائه أو محبيه بل استفاد منها لدرجة كبيرة نصراء تيار التغيير الذي يفهم من بعض شعاراته أنه كان يقصد تغيير الرئيس وذلك مقصد مشروع بالطبع.عين منهم في الهيئة المركزية كثيرون ثلاثة منهم من الموقعين على مذكرة الشكوى الآن وهم: حامد محمد حامد والطاهر عبد الرحمن بحر الدين ومجتبى عبد النبي علي أحمد، أما نسبته للمكتب السياسي فشكل نصفهم تقريبا أعضاء تيار التغيير، ومنهم من جديد حامد محمد حامد المحتج على تعيين الرئيس والذي يريد من مجلس شئون الأحزاب أن يصم حزب الأمة باللا ديمقراطية لأن الرئيس يعين فيه، ثم يوقف نشاطه!
ولكن.. أي أحزاب تدار شئونها
نختتم بفكرتنا الأساسية، وهي أن حزب الأمة وتجربته على ما فيها من مشاكل تعتور مسيرة الأحزاب والديمقراطية في السودان هو أكثر الأحزاب نصاعة في صحيفته من هذه الناحية.. ماذا عسى مجلس الأحزاب أن يفعل لو قال للأول أعد؟ مقارنة بسيطة مثلا بين نهجي حزب الأمة والمؤتمر الوطني فيما يتعلق باختيار مرشحي ولاة الولايات يظهر الفرق. في حزب الأمة حدد المنشور أن الولايات حرة في انتخاب مرشحي الولاة فلو أجمعت على شخص يمر وإلا ترفع ثلاثة أسماء يفصل بينهم المكتب السياسي المركزي وليس الرئيس الذي يصمت عن الإدلاء برأيه ولو حدث تصويت يمتنع عن التصويت، ويقول مع المسرحي الأمريكي آرثر ميلر: كلهم أولادي! وفي المؤتمر الوطني يطلب من الولايات رفع سبعة أسماء يقلصها مجلس الشورى المركزي لخمسة ويختار الرئيس فيما بينها وقد يختار صاحب أدنى الأصوات الشورية وأعلى الصلات الأمنية، وقد كان في غالب الأحوال!
ودساتير هذه الأحزاب ينص على نسب مختلفة من التعيين. ففي الاتحادي الديمقراطي (الهندي ثم الدقير) نسبة التعيين في المكتب السياسي للرئيس 10%، وفي الحركة الشعبية الرئيس يعين كل أعضاء المكتب السياسي الـ27، والاتحادي الأصل التعيين فيه لكل شيء فالختم كما قال الشاعر الاتحادي: (يا حليل الحزب يا حليل عزوته ورايته.. ما دام الختم سواه في مخلايته!) والمؤتمر الوطني في صراع الرئيس (البشير) مع الأمين العام (الترابي) حل البرلمان بقرارات الرابع من رمضان الصادرة في 12 ديسمبر 1999 وأعلن حالة الطوارئ وعطل الدستور، ثم في صفر 1421/مايو2000 حل الأمانة العامة للحزب. وكل الأمور هناك تتم بالقص والجزر. في النظم الأساسية للمؤتمرين الشعبي والوطني هناك ما يفيد بأن هيئة الشوري في الأول ومجلس الشورى في الثاني تختار 10% من عضويتهما استكمالا، وهذا باب للتعيين كما في ممارسة الوطني المعروفة.. وجملة القول إن غالبية الأحزاب الموجودة تختار 10% أو أكثر من مجالسها بطريقة ليست هي الانتخاب المباشر. وربما نصح مجلس الأحزاب حزب الأمة وغيره من الأحزاب أن تكون العضوية المعينة أو المختارة استكمالا بشكل فيه قدر من الشورى كأن تتم إجازتها داخل المجالس المنتخبة.. نصائح لا أوامر. وبالطبع لا يمكن فرضها خارج الإطار المؤسسي للحزب أي أن تجاز داخل المؤتمرات الحزبية. ومثل هذا المنطق لو كان قال به المحتجون الآن لما كان رفضه أحد. فأن تحرم الحزب من نص يحقق له غاية مطلوبة وهو إتاحة فرصة للكفاءات والقيادات التي تفوتها قاطرة الانتخاب مشكلة، وكان يمكن الحديث عن نص أفضل يضمن ألا يسعى ويرعى الرئيس المنتخب في الاختيار، وبذلك بإضافة أن تجاز الاختيارات عبر المجالس المستكملة.
حينما عرض بعض المحتجين إلغاء نسبة الـ5% في المؤتمر العام رفض المؤتمرون هذا المقترح بإصرار، ويقيني لو كانوا عرضوه بهذا الشكل لما كان رفضها داخل حزب الأمة القومي أحد!!
نطالب السيد رئيس المجلس الموقر أن يقرأ كراسة حزب الأمة جيدا، وأن يجعلها فرصة للإشادة بطقم الأسنان الوافر، ومطالبة أصحاب الشكوى أن يكونوا أكثر نزاهة، وأكثر روحا رياضية في تقبل الهزيمة التي حاقت بهم ديمقراطيا داخل المؤتمر العام السابع لأن ذلك كان من فتل يديهم حيث تحكموا على الحزب ولم ينجزوا.. فليعودا لحزبهم ويحاولوا العمل الديمقراطي من الداخل –وقد عاد بعضهم بالفعل وقلنا لهم مرحبا وأهلا وناقة ورحلا وجملا سبحلا ومكانا سهلا– فالأيام دول.. وأهم شروط اللعبة الديمقراطية هو تقبل الهزيمة..
وليبق ما بيننا
نشرت بصحيفة الأحداث الجمعة 29 نياير 2010م
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]