حسن الترابي وتدبر القرءان (3): فقه الطلاق غير فقه الفراق
10 February, 2010
(1) زبدة المقالة في بدايتها:
{الإيلاء والتربص/الطلاق والعدة والأجل/القرء والشهر/الفيء والإمساك بمعروف والرد/الزوج والبعل/الفراق بمعروف والتسريح بإحسان}. هذه هي أهم مفردات فقه الطلاق وفقه الفراق في القرءان العظيم، وهذه المقالة لا تناقش كل هذه المفاهيم تفصيلاً ولكنها سوف تقتصر على بعضها فقط في سياق مفاتشة التفسير التوحيدي في تدبره لفقه الطلاق. وإليك عزيزي القارئ زبدة المقالة (فقه الطلاق غير فقه الفراق في القرءان العظيم) في بدايتها ثم نناقش بإختصار أيضاً ما ورد في التفسير التوحيدي عن هذا الفقه.
وباسم الله نبتديء.
أولاً ـ ما معنى الطلاق؟
الواضح من آيات القرءان أن الطلاق ـ في تعريفه ومفهومه ـ هو عملية أزمة إنتقالية في حياة الزوجين، حياة السكن والمودة والرحمة، محددة الوقت حسب المرأة سواء كانت من اللاتي يحضن أو اللاتي لا يحضن، وتنتهي هذه الفترة الإنتقالية إما إلى إعادة الحياة الزوجية لسابق عهدها وميثاقها الغليظ إمساكاً بمعروف أو إلى إنهاء تلك الحياة الزوجية فراقاً بمعروف أو تسريحاً بإحسان/بمعروف. وحسب لسان القرءان هناك فرق بين المرأة المطلَّقة في عدتها والمرأة المردودة من أجل ولدها والمرأة المسرَّحة. وعملية الطلاق تدخل أصالةً في أمور النساء التي يفتينا فيها الله سبحانه وتعالى <وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ> ولاحظ ـ أيها المتدبر الواعي ـ أن الفعل "يفتيكم" يرد هنا مستمراً متحركاً يشمل كل أمور النساء في جميع أوقاتها. وفقه الطلاق ورد معظمه فتوى من الله في سورة البقرة وقليله في سورتي الأحزاب والطلاق. وأهم أركان فقه الطلاق هو تعيين حدود الله فيه لنتعرَّفها ولا نتعداها حتى لا نكون من الظالمين. والطرف الأصيل في تعيين حدود الله في الطلاق هو المرأة الزوج ولكن الخطاب موجّه إلى الزوجين من جملة الجماعة التي يتوجه إليها الخطاب في فقه الطلاق. والطلاق أطرافه متعددون، أولهم الزوجان ومنهم الأهل ومنهم الشهود وقد يكون منهم القاضي. وعلينا ألا نخلط، عزيزي المتدبر، بين ألفاظ "الطلاق" و"الإمساك بمعروف" و"التسريح بإحسان وبمعروف" و"الفراق بمعروف" والفصال" و"الرد" لأن هذه الألفاظ ، مرة أخرى، هي ألفاظ قرءانية مباركة فيها ووراءها قِيَم علينا أن نقيمها وأحكام علينا أن نحتكم إليها.
ثانياً ـ حدود الله
تذكر "حدود الله" دائماً جمعاً في القرءان دون ذكر المفرد وهذا يحتّم علينا أن نعرف هذه الحدود حسب سياق الآيات التي تذكر فيها. وهذا المركب الإضافي "حدود الله" ورد في القرءان إثني عشرة مرة في السياقات الدائرة حول الصيام (مرتان) والطلاق (ثماني مرات) والميراث (مرة واحدة) والحفاظ عليها ـ أي حدود الله ـ (مرة في التوبة) مقترنةً بالقتال في سبيل الله قبلها. وعندما يريد القرءان تحديد جزء من هذه الحدود وتعيينها فهو يورد مركب "تلك حدود الله" الذي تكرر ست مرات في القرءان.
حدود الله في الطلاق
وآيات سورة البقرة تتكامل مع آيات سورة الطلاق في إضاءة كل مشاهد عملية الطلاق والتربص فيها وبلوغ أجلها. و"حدود الله" في سياق الطلاق في سورة البقرة (ست مرات) وردت عامة تدل على حدود الله في إطلاقها ـ وعلى المؤمن إقامتها ـ "إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ"، ووردت أيضاً في خصوص الطلاق بتعيين حدود الله الخاصة به والإشارة إليها باسم الإشارة "تلك" في تركيب "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا" ثم ترجع الآية لتعمم الأمر بعدم التعدي على حدود الله في الطلاق ليكون أمراً عاماً بعدم تعدي حدود الله في عمومها وإطلاقها "وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" ومن يرتكبون هذا التعدي على حدود الله فقد دخلوا مجموعة الظالمين وأصبحوا مجموعةً جزئية فيها.
والآن تعالوا لنرى ما هي حدود الله في الطلاق؟
وكما قلنا فإن آيات سورة البقرة في الطلاق تتكامل مع آيات سورة الطلاق ومن هذه الآيات مجتمعة يمكن تحديد حدود الله في الطلاق وأدناها ثلاثة حدود ـ أقل الجمع ـ وبتتبع الآيات نرى أن حدود الله في الطلاق قسمان هما (أ) الحدود الخاصة بإحصاء العدة و(ب) الحدود الخاصة ببلوغ الأجل.
أما حدود الله الخاصة بإحصاء عدة الطلاق فهي:
(1) الحصول الفعلي للطلاق بدلالة ورود الأداة "إذا" التي تفيد أن الفعل بعدها لا بد أن يحدث <يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء> مقابل الأداة "إنْ" التي تفيد الإحتمال في حدوث الفعل بعدها. والآية تعليمية تشريعية بدلالة مخاطبة النبي الذي يعلمنا شريعة الرسول.
(2) مدة الطلاق هي العدة حتى نهايتها بدلالة "اللام" في <فَطَلِّقُوهُنَّ لِـعِدَّتِهِنَّ> ولم يقل القرءان "فطلقوهن في عدتهن". والعدة مرتبطة بالأجل وتتطابق معه إلا في حالتين من حالات المرأة المطلقة الحامل حيث تنقضي العدة قبل الأجل أو بعده.
(3) إحصاء العدة ولاحظ وقوع الإحصاء على العدد في أمرنا بالدقة في مراعاة هذا الحدّ الذي أهملناه مع أنه من "حدود الله" التي لا ينبغي لنا أن نتعدَّاها <وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ>. وإحصاء العدة يكون بالقرء للمرأة الحامل والمرأة التي في طور المحيض أو بالشهر للمرأة التي يئست من المحيض والمرأة التي لم تحض.
(4) تقوى الله ربنا في عدم إخراج المطلقات من بيوتهن <وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ>.
(5) إخراج المطلقات من بيوتهن في حالة فاحشة مبينة <وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبيِّنَةٍ>.
وأما حدود الله الخاصة ببلوغ الأجل فهي:
(1) البلوغ الفعلي للأجل بدلالة "إذا" في <فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ>. وبلوغ الأجل يعني إنتهاء فترة العدة أو وضع الحمل.
(2) في لحظة بلوغ الأجل فالخيار يكون بين الإمساك بمعروف أو الفراق بمعروف <فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ>، ويكون بالرد في حالة البعل ومطلقته الحامل التي لم تبلغ أجلها عند إنتهاء عدتها.
(3) الإشهاد على الطلاق وعلى الإمساك أو الفراق وإقامة الشهادة <وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ>. والأمر بالشهادة واضح وصريح ولكننا أهملناه في حياتنا وفي تشريعاتنا.
ويرى عدنان الرفاعي (حوار أكثر من جريء ـ المعجزة الكبرى) أن العدة والأجل يتطابقان بالنسبة للمرأة المطلقة التي في طور الحيض، وكذلك المرأة التي يئست من المحيض، وكذلك المرأة التي لم تحض، ولكنهما يفترقان بالنسبة للمرأة الحامل. وعدة المرأة الحامل والمرأة التي في طور الحيض حددها الله بالقُرْء (ثلاثة قروء، والقرء هو دورة الإخصاب الجنسي) وعدة المرأة التي يئست من المحيض والمرأة التي لم تحض حددها الله بالشَّهْر (ثلاثة شهور). والقروء الثلاثة يجب إكمالها ـ حيث أن الأمر بها يشمل جميع النساء ـ حتى في حالة المرأة الحامل التي إما أن ينقضي أجلها قبل إنقضاء عدتها ـ حالة أولى ـ حيث تكون الولادة قبل إنقضاء القروء الثلاثة وفي هذه الحالة تنتظر مع مولودها في بيت بعلها الذي يكون مطمئناً على مولوده لأنها تعيش معه في بيتها؛ أو تنقضي عدتها قبل إنقضاء أجلها الذي هو وضع حملها ـ حالة ثانية ـ وفي هذه الحالة يحذرها الله أن تكتم ما في رحمها لأن الأجل يستمر بعد العدة وهنا أُعطي البعل حق ردها إن خشي على مولودهما لأن المرأة يمكنها أن تغادر بيتها بعد إنقضاء عدتها. ولاحظ أن القرءان استخدم لفظ "الرد" وليس الإمساك تمييزاً لهذه الحالة لأن الأجل لم يُبلغ ولم تفقد المردودة حقها في الفراق حيث أن أجلها هو وضع حملها "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن"، والمسألة مسألة رد حتى بلوغ الأجل فإما إمساك أو فراق.
و"حدود الله" تتكامل مع "آيات الله" ومع "أمر الله"، وما عليك عزيزي المتدبر إلا أن تنظر هذه المفاهيم مباشرةً في القرءان العظيم وتتدبرها.
ــــــــ ـــــــ ـــــ ــــــ ــــــ ـــــــ
(2) نقاش التفسير التوحيدي في فقه الطلاق
قسَّم حسن الترابي سورة البقرة في تدبره لها إلى ثلاثة وعشرين جزءاً أطولها الجزء الذي تدبر فيه الآيات من مئة وتسعين حتى مئتين وعشرين جملةً واحدة كما ذكرنا في المقالة الأولى ويأتي بعده في الطول الجزء الذي تدبر فيه الآيات من مئتين وواحد وعشرين وحتى مئتين وإثنين وأربعين (من ص 169 إلى ص 183) وهي موضوع هذه المقالة. وخيراً فعل حسن الترابي في جعل هذه الآيات حزمةً واحدة في الربط بينها لتدبرٍ في ترتيلٍ متصلٍ مما يدل على يقظته في إلتقاط المعاني وتوحيدها، والآيات دلَّت أصلاً على وحدة ترتيلها بذكر تبيين آيات الله لمن يتذكَّر في بدايتها <... وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ> وتبيين آيات الله لمن يعقل في ختامها <كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ>. والترابي عالم في فقه المعاني ومنشغل به ويرى أن المسلمين أضاعوا كثيراً من معاني الدين واكتفوا بالأشكال والصور يرددونها لغواً دون فقه معانيها.
ويحق لنا أن نتدبر هذه الآيات جملةَ ترتيلٍ واحد ذلك لأنها تضع حدود الله في فقه النكاح بداية عقد الأسرة وفقه الطلاق في سيرورة الأسرة الذي يقود إما إلى الإمساك بمعروف أو التسريح بمعروف. والترابي أبدع في تدبر هذه الآيات وربطها ببقية معاني السورة في الجزء الذي خصصه لترتيل المعاني آيةً آية وفي الجزء الذي ذكر فيه عموم المعاني لهذه الآيات.
والآن نأتي إلى نقاش التفسير التوحيدي ونبدأ بملاحظة في أسلوب البيان عند الترابي فهو يحاول أن يستخدم ألفاظ القرءان بدقة ويقتصر عليها في عملية التدبر ويكاد ينجح في ذلك لولا تبحره في فقه الأحكام التقليدي الذي يؤثر عليه أحياناً قليلة فيستخدم المصطلح الخاص بالفقه التقليدي دون وعي منه ـ على ما أظن ـ حتى إن كان هذا المصطلح لا وجود له في القرءان مثل إستخدامه لمصطلحات "المهر" و"الخلع" و"النجاسة" رغم أن القرءان لم يرد فيه لفظ (المهر) ولا لفظ (الخلع) وتختلف الدلالة (للنجاسة) بين لسان القرءان ومصطلح فقه الأحكام.
الآية مئتان وواحد وعشرون: الخطاب في هذه الآية موجَّه إلى المؤمنين أمراً صريحاً ألا يتزوجوا من المشركين وألا يزوجوهم والآية لم تفرق بين نساء المؤمنين ورجالهم في هذا الأمر "ولا تنكحوا ..." ولكنها فصلت في المشركات "ولا تنكحوا المشركات ..." والمشركين "ولا تنكحوا المشركين ..." . والترابي قيَّد معنى الآية في مجتمع المدينة ومكة بقوله أن المشركين في مصطلح القرءان هم أهل الجاهلية العربية وبحديثه عن علاقات القرابة بين مجتمع المدينة المسلم ومشركي مكة التي تدفعهم للزواج وبحديثه عن الأمَة بمعنى (بنت الرق) وعن العبد بمعنى (العبد المملوك) كما جاء صريحاً في لفظه. والذي فعله الترابي تدبر فرقاني مطلوب في خصوصيته لمجتمع المدينة في تجربته الإسلامية الأُولى ولكن الأَوْلى بنا منه هو التدبر القرءاني الذي يطلق معاني الآية لكل مجتمع مؤمن من أي مِلَّةٍ كان ويوضح للمؤمنين في تلك الملة أن الزواج الذي هو حياة توحيد بين الزوجين لا ينبغي له أن يكون مع مشرك أو مشركة. وفي الآية وصف للأَمَة بأنها أَمَة مؤمنة أو أمَة مشركة بيد أن الآية لم تكرر الموصوف واكتفت بتكرار الوصف وفيها أيضاً وصف للعبد بأنه عبد مؤمن أو عبد مشرك ولم تكرر الموصوف لأن العبارتين متقابلتان ـ تركيبان متقابلان ـ وهما:
< وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ>
< وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ>
وألفاظ الآية تدل على المعنى العام الذي يخص الناس في جميع أوقاتهم وجميع ديارهم وهذا العموم يمكن أن يشمل معنى تاريخياً كان سائداً في مجتمع المدينة ومكة ولكنه أصبح في ذمة التاريخ ومثال ذلك لفظ العبد الذي يدل في القرءان على واحد الناس في عبادته لله طاعةً أو معصيةً وكذلك الأَمَة وهي المرأة في وصف لها تنتقل به إلى الأُم التي هي أصل الأُمَّة.
الآية مئتان وإثنين وعشرون: تكلم الترابي عن هذه الآية كلاماً نفيساً ربط فيه بين الواو في أول الآية وبين توالي الأسئلة عن شؤون المجتمع والمضي في السياق إلى شؤون الأسرة بعد آثار اليتم وحدِّ مدى التزاوج بالإيمان وربط أيضاً بين الطهارة ونية التعبد لله توبةً للصراط المستقيم بعد كل وقفة. ونزيد على ذلك أن الفعل "يسألونك" يربط الآية بآيات "يسألونك ... قل" والإجابة جزء من فتوى الله في النساء. وتعبير "فاعتزلوا النساء في المحيض" يدل أيضاً ـ إضافةً إلى معناه المعروف ـ على أن إتيان النساء يكون في المهبل (القُبُل بتعبير القدماء) الذي هو أحد أعضاء الحيض (الحيض متضمن في المحيض) وبتحديد مكان الإتيان في هذه الآية تكون الآية التالية لها لا تتحدث عن مكان الإتيان وإنما عن أمر آخر سوف نراه. وفي الآية فرق بين الطُّهْر "حتى يَطْهُرن" وبين التَّطَهُّر "فإذا تَطَهَّرْن" حيث أن الطُّهْر هو العملية الفيزيولوجية الطبيعية لإنقطاع الحيض في فترة المحيض (زمان الحيض) والتطهر ـ لاحظ تاء الجهد والتضعيف ـ هو العملية الإيمانية الدينية في النظافة الحسية والمعنوية، والله يحب المتَطهِّرين. والإتيان من حيث أمر الله بعد التطهر في آخر الآية بيانه في أول الآية في مكان الحيض.
الآية مئتان وثلاثة وعشرون: هذه الآية تتحدث عن "نساؤكم حَرْث لكم" ويقول الترابي "الآية تصف الزوجة بالحرث للبشر حيث تودع فيه بالغرس البذور وتنتظر الثمرة"، وكان يمكننا أن نتوقع أن الترابي سوف يصل إلى مدلول الآية بعد هذا التدبر الذي اقترب فيه من مقصود الآية لولا أن التراث التفسيري قد أثر عليه وجعله يرجع إلى فهم الآية بأنها تتحدث عن المباشرة الزوجية حيث يقول " وتخاطب الآية المؤمنين أن ائتوا الحرث أنى شئتم لأن الله لم يضع عليكم قيوداً وعنتاً في المباشرة الزوجية سوى التطهر من الحيض". لاحظ ـ أيها المتدبر العزيز ـ أن الآية قالت (فأتوا حرثكم أنى شئتم) ولم تقل "فأتوا نساءكم أنى شئتم" وهذا يدل أن المقصود هو الأطفال الذين هم حرث النساء لكم كما قالت وبذلك نعرف أن الآية تتحدث عن إنجاب الأطفال المرتبط بالمشيئة (الحرية وتنظيمها) وليس عن المباشرة الزوجية التي تحدثت عنها الآية السابقة لها.
الآيتان مئتان وستة وعشرون ومئتان وسبعة وعشرون: تتحدث هاتان الآيتان عن الذين يؤلون من نسائهم وتوجب عليهم التربص أربعة أشهر بدلالة اللام في بداية الآية الأولى"للذين يؤلون ..." وهذه اللام تذكرنا باللام في آية "ولله على الناس حج البيت ..." إلا أن الواجب في الحج اشترطت فيه الاستطاعة وفي الإيلاء لم يشترط فيه شيئ مما يدل على أن المؤلين يجب عليهم إكمال مدة الأشهر الأربعة، وعند إكمال المدة أمامهم إحتمالان إما أن يفيئوا ويرجعوا إلى أزواجهم أو أن يعزموا الطلاق، وهاتان هما الآيتان < لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ> ولاحظ الأداة "إن" الدالة على الإحتمال بين الفيء أو الطلاق. والتفسير التوحيدي تابع التراث التفسيري وجعل مدة التربص تنتهي أثناء الأشهر الأربعة " فإن فاء الذين يؤلون رجوعاً عن ذلك القسم في تلك الأثناء وتجاوزوا بزواجهم تلك الأزمة ...". والفيء هو الإمساك بعد فترة الإيلاء كما أن الرد هو إمساك المطلقة الحامل. والطلاق في حالة الإيلاء يقع بين الفيء والفراق.
الآية مئتان وثمانية وعشرون: تبدأ الآية بالواو ربطاً لها بالآية السابقة وهذا يعني أن المؤلين من نسائهم "إن" عزموا الطلاق ولم يختاروا أن يفيئوا فعلى المطلقات أن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، وبما أن التربص يشمل الزوجين فإن مدة تربص المطلقة ـ في حالة الإيلاء ـ تكون أربعة أشهر وثلاثة قروء بيد أن الآية عامة وتشمل المطلقة من غير إيلاء ومدتها ـ في هذه الحالة ـ هي ثلاثة قروء. وهذه الآية تتكامل مع أول آيتين من سورة الطلاق حيث تشرح أول آية منهما أن الطلاق مرتبط بإكمال العدة التي هي هنا ثلاثة قروء "فطلقوهن لـعدتهن" وإحداث الأمر المذكور في ختام الآية يكون "بعد ذلك" أي بعد إنقضاء العدة وليس قبلها ولا في أثنائها <لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا>. وهذه القروء الثلاثة وجب على الزوجين اللذَّيْن عَزَمَا الطلاق أن يكملاها في حالة تربص بعيداً عن المعاشرة الزوجية، والزوج إن كانت مطلقته حاملاً سمته الآية بعلاً حيث أنه يقوم على أمور مطلقته الحامل وله حق ردِّها، إن أراد، في حالة لم تبلغ أجلها عند إنقضاء عدتها. وغير لفظ "البعل" فقد انفردت الآية أيضاً بلفظ "الرد" الذي يعني حق البعل في رد مطلقته الحامل في حالة إنقضاء عدتها (ثلاثة قروء) قبل إنقضاء أجلها (وضع حملها) والرد غير الإمساك الذي لا يكون إلا عند بلوغ الأجل، والمردودة التي لم تكتم ما خلق الله في رحمها لا تفقد حقها في الفراق عند بلوغ أجلها إن أرادت ذلك. والتفسير التوحيدي تابع التراث في تدبره لهذه الآية ويمكن الرجوع إلى نصه في صفحتي 172 و173.
وبقية آيات هذه الحزمة الترتيلية من التدبر حتى الآية مئتين واثنين وأربعين يمكن الرجوع إليها مباشرة في التفسير التوحيدي الذي وُفِّق في ربطها بمعاني الدين ومقاصده وتجديد التدبر في بعض أجزائها. وطريقة التفسير التوحيدي في التدبر تصلح لعامة المثقفين وطوائف المتعلمين حيث أنه يهتم بالمقاصد والقيم في الآيات وربطها بالحياة العامة، لكنه يخلو في بعض تدبره من التدقيق والتركيز في ألفاظ الآية وتراكيبها وربطها ببقية الألفاظ والتراكيب المشابهة لها في القرءان العظيم مما يقود إلى معانٍ جديدة في التدبر سواء في حقل القيم التي أبدع التفسير التوحيدي في ربط معانيها ومقاصدها أو في حقل الأحكام التي لم يفلح هذا التفسير في تجديدها مثلما أفلح في القيم والمقاصد .
وبالله التوفيق والله أعلم.
Omar Alshafi [omar.alshafi@gmail.com]