صفات الملك والسلطان وعدم توفرها عند حكام أهل السودان (2) … بقلم: د. أحمد حموده حامد
9 May, 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم - يارعاك الله - أن للملك والسلطان صفات لا بد لمن يروم حكم العباد ان يتصف بها حتى تستقيم ولاية الله فى الأرض بالعدل والقسطاس بين الناس وتعمر البلدان ويتجه الناس لعبادته سبحانه وتعالى وهي نهاية الغاية من الخلق. قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون", صدق الله العظيم. نعرض في هذا المقال لبعض من الصفات الضرورية التي لا بد للحاكم والسلطان ان يتصف بها كما جاءت في الإثر, ونتتبع سيرة حكام السودان الحاليين, ونخلص الى عدم توفر هذه الصفات فيهم, وبالتالي عدم أهليتهم لحكم العباد وقيادة البلاد.
أذن من القراء الكرام واليهم: أرجو من القراء الكرام تأمل العبر الواردة فى هذه الآتار, ومقارنة الصفات المذكورة بصفات وأفعال حكام السودان الحاليين لتبيان مجافاتهم العدل فى الحكم ومجانبتهم الحق وحيادهم عن الطريق القويم. وحيث قد أوردت مثالا أو اثنين فقط لتبيان المفارقة والاختلاف, آمل أن يضيف القراء الكرام ما يعنّ لهم من شواهد حتى تكتمل الصورة وتقوم الحجة. وأشكر جدا للقراء الكرام ان هم أمدونى بآرائهم تلك.
الثالثة /العدل فى حسن تدبير الأموال لمصلحة الرعية:
قال جعفر بن يحيى: الخراج عماد الملوك وما اْسْتعزوا بمثل العدل, وما استنذروا بمثل الظلم, وأسرع الأمور في خراب البلاد, تعطيل الأرضين, وهلاك الرعية, وانكسار الخراج من الجور. ومثل السلطان إذا أجحف بأهل الخراج حتى يضعفوا عن عمارة الأرضين مثل من يقطع لحمه ويأكله من الجوع. فهو إن يشبع من ناحية ضعف من ناحية أخرى, وما أدخل على نفسه من الضعف والوجع أعظم مما دفع عن نفسه من ألم الجوع. ومثل من كلف الرعية فوق طاقتهم كالذي يطين سطحه بتراب أساس بيته, وإذا ضعف المزارعون عجزوا عن عمارة الأرضين, فيتركونها فتخرب الأرض, ويهرب المزارعون, فتضعف العمارة, ويضعف الخراج, وينتج عن ذلك ضعف الأجناد, وإذا ضعف الجند طمع الأعداء في السلطان.
وجاء في كتاب قبطي "القبطي: القلم المصري القديم" باللغة الصعيدية مما نقل بالعربية أن مبلغ ما كان يستخرج لفرعون في زمن يوسف الصديق- صلوات الله وسلامه عليه-, من أموال مصر لخراج سنة واحدة من الذهب العين (أربعة وعشرون ألف, ألف وأربع مئة دينار) من ذلك ما ينصرف في عمارة البلاد كحفر الخلجان, والإنفاق على الجسور, وسد الترع, وتقوية من يحتاج إلى التقوية, من غير رجوع عليه بها لإقامة العوامل والتوسعة في البلدان وغير ذلك من الآلات, وأجرة من يستعان به لحمل البذر, وسائر نفقات تطبيق الأرض(ثمانمائة ألف دينار), ولما ينصرف للأرامل والأيتام وإن كانوا غير محتاجين, حتى لا يخلو أمثالهم من بر فرعون (أربعمائة ألف دينار), ولما ينصرف لكهنتهم وبيوت صلاتهم (مائتا ألف دينار), ولما ينصرف في الصدقات مما يصب صباً, وينادى عليه برئت الذمة من رجل كشف وجهه لفاقة ولم يحضر, فيحضر لذلك جمع كثير(مائتا ألف دينار). فإذا فرقت الأموال على أربابها دخل أمناء فرعون إليه وهنئوه بتفرقة الأموال, ودعوا له بطول البقاء, ودوام العز والنعماء والسلامة وأنهوا إليه حال الفقراء, فيأمر بإحضارهم وتغير شعثهم ويمد لهم السماط فيأكلون بين يديه, ويشربون ويستفهم من كل واحد منهم عن سبب فاقته فإن كان ذلك من آفة الزمان زاد عليه مثل الذي كان له, ولما ينصرف في نفقات فرعون الراتبة في كل سنة (مائتا ألف دينار). ويفضل بعد ذلك مما يتسلمه يوسف الصديق-عليه السلام- للملك, ويجعله في بيت المال لنوائب الزمان (أربعة عشر ألف, ألف وستمائة ألف دينار). وقال أبو رهم: كانت أرض مصر أرض مدبرة حتى إن الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها فيحبسونه حيث شاءوا, ويرسلونه حيث شاءوا, وذلك قول لفرعون:}أليس لي حكم مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي{ (سورة الزخرف الآية:51). وكان ملك مصر عظيماً لم يكن في الأرض أعظم منه ملكاً, وكانت الجنان بحافتي النيل متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء, والزروع كذلك من أسوان إلى رشيد, وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً لما دبروا من جسورها, وحافاتها, والزروع ما بين الجبلين من أولها إلى آخرها وذلك قوله تعالى: }كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم.{, [سورة الدخان الآيتان 25 و26]. وقال: عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- استعمل فرعون هامان على حفر خليج سردوس فأخذ في حفره وتدبيره, فجعل أهل القرى يسألونه أن يجري لهم الخليج تحت قراهم ويعطون مالاً, فكان يذهب به من قرية إلى قرية من المشرق إلى المغرب, ومن الشمال إلى القبلة, ويسوقه كيف أرادوا إلى حيث قصد فليس خليج بمصر أكثر عطوفاً منه, فاجتمع له من ذلك أموال عظيمة جزيلة, فحملها إلى فرعون وأخبره بالخبر. فقال له فرعون: إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عبيده, ويفيض لهم من خزائنه, وذخائره, ولا يرغب فيما بأيديهم. رد على أهل القرى أموالهم فرد عليهم ما أخذه منهم. فإذا كانت هذه سيرة من لا يعرف الله ولا يرجو لقائه, ولا يخاف عذابه, ولا يؤمن بيوم الحساب, فكيف ستكون سيرة من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويوقن بالحساب والثواب والعقاب؟! (الأبشيهى: المستظرف 192 - 193).
دونك فى السودان أن الحكام ينفقون ما يقرب من 80% من الموازنة العامة على الأمن والدفاع. ما يفهم منه أنهم ينفقون الأموال فى تأمين ملكهم والدفاع عن عرشهم. وماتبقى من ال20% أو نحو ذلك تذهب لكل البنود الأخرى المرتبطة بحياة المواطنين من مأكل ومشرب ومسكن وتعليم وصحة ومواصلات واستحقاقات الكبار والمحتاجين والأرامل, ولبنود التنمية والاعمار وغيرها الكثير. فهل هذا من العدل فى الحكم وتصريف الأموال لما ينفع الناس؟ ثم انظر كيف أن المواطنين قد ارهقتهم كثرة الضرائب والجبايات والمكوس التى لاعد لها ولا حصر, حتى أن أحدهم قال سوف يأتى يوم تطالبنا فيه الحكومة بدفع ضريبة "استنشاق الهواء" مثلما تطالب بضريبة "النفايات" وضريبة "أصحاب الكوارو" وضريبة "ستات الشاى".
الرابعة/ تحريم الظلم لأن الظلم مؤذن بخراب العمران:
من أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين اذ قال ناصحا الملك بهرام بن بهرام:
"أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة, والقيام لله بطاعته, والتصرف تحت أمره ونهيه, ولا قوام للشريعة إلا بالملك؛ ولا عز للملك إلا بالرجال؛ ولا قوام للرجال إلا بالمال؛ ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة؛ ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل. والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة, نصبه الرب وجعل له قيماً, وهو الملك وأنت أيها الملك عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها؛ وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال, وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطانة, فتركوا العمارة, والنظر في العواقب وما يصلح الضياع, وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك. ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع؛ فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم وآووا الى ما تعذر من الضياع فسكنوها, فقلت العمارة وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية, وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع المواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها".
أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه, ووباله عائد إلى الدول (ابن خلدون: المقدمة1: 262).
ولا تحسين الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه غير عوض ولا سبب كما هو المشهور, بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه, فجباة الأموال بغير حقها ظلمة, والمعتدون عليها ظلمة, وغصاب الأملاك على العموم ظلمة, ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لأذهابه الآمال من أهله.
واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم, وهو ما ينشأ عنه من خراب العمران, وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري, وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة, من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً إلي انقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران, كانت حكمة الحظر فيه موجودة, فكان تحريمه مهماً. وأدلته من القرآن والسنة كثيرً؛ أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر. ولو كان كل واحد قادراً عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع, التي يقدر كل أحد على اغترافها من الزنا والقتل والسكر. إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه, لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان, فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه, عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه. (وما ربك بظلام للعبيد) صدق الله العظيم, (سورة فصلت, الآية 46). وكان معاوية يقول: "انى لاستحى أن أظلم من لايجد علىّ ناصرا إلا الله". والمعنى بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة؛ فهي المؤذنة بالخراب.
ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا من غير حق. وذلك أن الأعمال هي من باب الرزق, لأن الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران. فإذاً مساعيهم وأعمالهم كلها متمولات ومكاسب لهم, بل لا مكاسب لهم سواها؛ فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك. فإذا كلفوا العمل من غير شأنهم واتخذوا سخرياً في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك, وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر, وذهب لهم حظ كبير من معاشهم, بل هو معاشهم بالجملة, وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة, وقعدوا عن السعي فيها جملة فأدى إلى انتقاض العمران وتخريبه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
والاحتكار أعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران فى تسلط الدولة على أموال الناس, بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان, ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان في وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع, وربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التراخي والتأجيل, فيتعللون في تلك الخسارة والتي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك.
هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأما أخذها مجاناً والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة, وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض. ومن أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله وشرع المكايسة في البيع والشراء, وحظر أكل أموال الناس بالباطل سدا لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش.
واعلم أن الداعي لهذا كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال, فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج (نفقات الدولة) ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة, فيستحدثون ألقاباً ووجوهاً (للضرائب والجبايات) يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج. ثم لا يزال الترف يزيد, والخرج بسببه يكثر, والحاجة إلى أموال الناس تشتد, ونطاق الدولة بذلك يزيد, إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها. والله أعلم. (ابن خلدون: المقدمة1: 262 – 263).
كثر الظلم وتنوعت طرائقه عند حكام السودان. فكثرة الضرائب والجبايات ظلم, وتطفيف أجور العاملين ظلم, وفصل العاملين وتشريدهم عن وسائل كسبهم ومعاشهم ظلم, وتهجير ما يقرب من ربع سكان البلاد وتشتيتهم فى أرض الله الواسعة ظلم, والعدوان على أهل دار فور ظلم ,واغتصاب مشروع الجزيرة من مستحقيه المزارعين ظلم, واغتصاب أراضى المناصير واقامة السدود عليها دون موافقتهم ظلم, واستباحة المال العام ظلم, وضرب الناس وحبسهم وتعذيبهم ظلم, والتجسس على الناس وأعراضهم وأسرارهم ظلم, واذلال الناس واطلاق يد الشرطة والأمن بالبطش والعدوان ظلم, وتحصيل الجبايات والمخالفات العادية – كمخالفات المرور – تحصيلا آنيا على الطريق دونما اعتبار لظروف الناس ظلم, وبخس الناس أشياءهم ومحاصيلهم وأعمالهم ظلم. استشراء الظلم هو ايذان أكيد بانمحاء العمران لما ينشأ عنه من الفوضى المفضية الى الخراب.
اللهم أصلح حال عبادك باصلاح حال ولاة أمورهم, وأنت المستعان.
(يتبع)
د. أحمد حموده حامد
07/05/2010 الجمعة
fadl8alla@yahoo.com