حوار مفتوح مع عبدالفتاح عرمان حول العلاقات السودانية الأمريكية

 


 

 

 

إنقلاب واشنطون (1):

 

Kha_daf@yahoo.com

 

إستحسنت المقال الذي خطه يراع الأستاذ عبدالفتاح عرمان مراسل صحيفة أجراس الحرية في واشنطون، والأخ الأصغر للأستاذ ياسر عرمان، القيادي بالحركة الشعبية تحت عنوان (إنقلاب واشنطون تجاه السودان: صورة عن قرب). الذي أستطاع أن يشرح فيه طبيعة التحولات التي أعترت السياسة الأمريكية تجاه السودان في عهد الرئيس أوباما والتي وصفها بأنها أنقلاب أبيض علي السياسة التي كانت سائدة من قبل في ظل أدارة الرئيس السابق جورج بوش. ولعل دافعي لأبتدار هذا الجدل والحوار المفتوح حول المتغيرات في السياسة الأمريكية تجاه السودان يعود لسببين.الأول: هو أن الأستاذ عبدالفتاح عرمان ، بني شخصيته الصحفية والمهنية بملكاته وقدراته الذاتية، ولم يستند علي الأرث السياسي لشقيقه الأستاذ ياسر عرمان، كما أنه رغم إنتماءاته السياسية الجهيرة للحركة الشعبية، إلا أن ذلك لم يمنعه من التعاطي الموضوعي مع القضايا الصحفية الشائكة، وذلك علي عكس المنهج السائد وسط عدد مقدر من صحفيي ومنسوبي الحركة الشعبية الذين يعملون في الصحف الخارجية. السبب الثاني: هو أنه تطرق في مقاله لقضايا هامة،و بني مقاله علي أفتراض أساسي هو أن أدارة أوباما والجنرال غريشن أحداثا أنقلابا في منهج السياسة الأمريكية تجاه السودان،وهو أفتراض أجد صعوبة في قبوله مما يتطلب التحليل و النظر الموضوعي لأثبات هذه الفرضية، وفي المقابل تنطلق حجتي في أن أدارة أوباما لم تغير الأهداف الأستراتيجية والغايات والمرامي النهائية، بل عملت علي تغيير الوسائل والأدوات، وهي بذلك تبيع للسودان الخمر القديم في زجاجات جديدة، أو كمن يغطي كبسولات الدواء المر بطبقة من السكر لجعله مستساغا sugar quoted    في لسان المريض.

لعله من المفيد أن نبدأ تحليلنا من المشهد الدرامي الذي برز فيه السفير الأمريكي السابق بترسون، وهو يدلف الي مكتب الدكتور حسن الترابي في المؤتمر الشعبي العربي والأسلامي، وهو يمد إليه ورقة غير رسمية none paper تهدد فيها الولايات المتحدة السودان،بكسر العظام والحرب والحصار إذا واصل السودان تعرضه للمصالح الأمريكية في المنطقة.ومنهج الورقة غير الرسمية none paper هو أسلوب تستخدمه الولايات المتحدة للتعبير عن موقف دون أن يكتسب الصفة الرسمية، إذ تكتب واشنطون الموقف أو الأملاءات المطلوبة علي ورقة لا تحمل ترويسة الحكومة أو السفارة حتي لا تأخذ صفة الألزام الرسمي، كما يسهل أنكارها والتملص منها في اللحظة الحرجة. لم يكن أمام الدكتور الترابي أزاء ذلك الموقف إلا أن رمي بتلك الورقة غير الرسمية علي المنضدة قائلا للسفير: هل تريدني أن أرتجف لهذه التهديدات،مرحبا بغزوكم للسودان وسوف ترون. ولعل السؤال لماذا قصدت الأدارة الأمريكية أرسال التهديد مباشرة للشيخ الترابي وليس للسلطة التنفيذية في القصر الجمهوري؟. ترك هذا المشهد رغم غرابته، أثرا عميقا في ديناميكيات السياسة الداخلية، وأدي الي تسريع وتيرة الشد والجذب داخل النظام السياسي القائم آنذاك. كانت تلك الورقة عبارة عن مناورة سياسية بارعة،قصدت بها الأدارة أحداث شرخ داخل الحكومة أو بالأحري بين التيارين المدني والعسكري وتحجيم دور المؤتمر الشعبي العربي والأسلامي الذي كان يعتبر مظلة فضفاضة لأيواء المعارضات وتجسير الهوة بين العروبيين والأسلاميين ، وتحشيد الجهود المشتركة لمقاومة النفوذ الغربي في المنطقتين العربية والأسلامية. في ذلك الوقت كانت هناك أصوات خفيضة في واشنطون مثل الجنرال ملينغتون رئيس محطة السي أي أيه السابق في عهد نميري تري ضرورة الصبر علي المؤتمر الشعبي العربي والأسلامي لأنه سيكون بؤرة،لصهر الرؤي الأيدلوجية للمجموعات المتطرفة، وصبغها بالرؤية الوسطية المستنيرة للنخبة الأسلامية في السودان التي لا تنكر تأثرها بالغرب، كما أنها تؤمن بالحوار مع الغرب ولا تميل الي حربه ومواجهته. ولكن سرعان ما أستفحل النقاش داخل الأدارة بين السفير في الخرطوم ثيموني كارني وسوزان رايس التي كانت تحتل منصب المستشار الخاص للرئيس كلنتون للشئون الأفريقية والتي أمرت السفير كارني بالتنسيق مع وكالة المخابرات المركزية بأخلاء السودان ونقل السفارة الي نيروبي بأعتبار أن السودان قطرا غير آمن. ولعل المفارقة المضحكة أن سيارة السفير الأمريكي كارني تعرضت الي سطو وسرقة في وسط العاصمة الكينية نيروبي بعد أيام قلائل من نقل السفارة من الخرطوم، مما دفع زوجته فيكي للأحتجاج علنا في وجه سوزان رايس مشيرة لحادث السطو الذي تعرضوا له في نيروبي، ومؤكدة أن الخرطوم أكثر أمنا من نيروبي، ولكن قرار نقل السفارة كان لأسباب سياسية محضة وليست أمنية.

أرسل السفير ثيموني كارني من نيروبي قائمة مطالب جديدة الي الحكومة السودانية، حتي يستطيع أعادة السفارة الي الخرطوم، ولعل أول طلب كان أغلاق المؤتمر الشعبي وطرد أسامة بن لادن من السودان. كشف الصحفي اليميني ذو التوجهات الجمهورية مننديز ميتنر مدير تحرير صحيفة الواشنطون تايمز ملابسات هذه الفترة الحرجة في كتابه ذائع الصيت loosing Ben Ladin  ، والذي سلط فيه الضوء علي المحاولات الكثيرة التي بذلها السودان للتعاون مع الولايات المتحدة لمحاربة الأرهاب في المنطقة. تفتقت ذهنية دهاقنة نظام الأنقاذ آنذاك لأبتعاث الفريق الفاتح عروة الي واشنطون لمفاوضة الحكومة الأمريكية بشأن هذه المطالب.بذكائه المعهود ومعرفته بالنظام القانوني في الولايات المتحدة فتح الفريق الفاتح عروة قناة أتصال مع رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI بأعتباره المكتب القانوني الرسمي للتحقيقات الفيدرالية، وبالتالي لا يخضع عمله لأي مساومات سياسية عكس العمل مع وكالة المخابرات المركزية السي أي أيه التي تخضع لنفوذ الجهاز التنفيذي. إتجه الفاتح عروة عند وصوله الي واشنطون الي ضاحية روزلن بفرجينيا ، حيث تم تزويده بخرطة معقدة للغرف والطوابق. وما أن أستقر في أحدي غرف الطابق الخامس حتي تم أقتياده الي جناح خاص في الفندق فوجد في أنتظاره السفير ديفيد شن مسئول قسم شرق ووسط أفريقيا في الخارجية، وممثلين لوكالة المخابرات المركزية.وصف ديفيد شن منهج الفاتح عروة في المفاوضات بأعتباره ضابط مخابرات متمرس بأنه مثل لاعب البوكر الماهر الذي لا تستطيع أن تعرف مقصده من خلال تعابير وجهه. وعندما طلب الأمريكيون طرد بن لادن من السودان، لمعت عينا الفاتح عروة ببريق ماكر حيث عرض علي مضيفيه ثلاثة خيارات:

أ‌-         أن يراقب السودان تحركات وأتصالات بن لادن، وتسليم المعلومات للجانب الأمريكي للأستفادة منها.

ب‌-      أن يتم تسليم بن لادن للسلطات السعودية شريطة أن يعلن العفو عنه وتعاد إليه جنسيته.

ت‌-      الأفضل أن يترك مشغولا بتجارته وأعماله في السودان، حتي لا يفكر في التورط في أعمال سياسية وأرهابية معادية للولايات المتحدة.

كان رد الجانب الأمريكي، هو أن المملكة السعودية أعتذرت عن قبوله مرة أخري، لذا فأنهم يفضلون طرده من السودان شريطة ألا يذهب الي الصومال. أستأذن الفاتح عروة أمهاله بعض الوقت ليجري الأتصالات اللازمة بالسودان علي أن يلتئم الأجتماع القادم بعد يومين في نفس الفندق. عندما عاد الفاتح عروة الي الأجتماع للمرة الثانية فجر للأمريكان قنبلة من العيار الثقيل، وهو أستعداد السودان لتسليم أسامة بن لادن الي واشنطون دون قيد أو شرط. بدا الأضطراب والتلعثم واضحا علي ممثلي الأدارة الأمريكية الذين لم يتحسبوا لهذا العرض،وبعد أتصالات سريعة عادوا ورفضوا العرض لأنه لا توجد لدي أمريكا أي أتهامات جنائية أو أرهابية ضده، وبالتالي لا يستطيع النظام القضائي الأمريكي محاكمته لأنه لم يقتل أي أمريكي أو يتعرض للمصالح الأمركية.وكان الأتهام الأساسي لبن لادن وقتها هو تبنيه لمعارضة سياسية ضد المملكة من العاصمة البريطانية لندن،وكذلك مقابلاته لبعض ناشطي الجهاد الأفغاني.

القي السودان القبض علي عناصر باكستانية دخلت الي السودان مباشرة بعد تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام، وبعد التحريات المكثفة، تأكد السودان من وجود علاقة بين هذه العناصر وتفجير السفارتين الأمريكيتين.وسرعان ما أجرت الخرطوم أتصالات مكثفة مع وكالة المخابرات المركزية السي أي أيه للتعاون في التحقيق مع هذه العناصر، ولما تأخر رد الوكالة، أتصل السودان بمكتب التحقيقات الفيدرالي FBI للتعاون في الأمر وأستبعاد خيار السي أي ايه. وفي اليوم الذي وصل فيه أحد كبار المسئولين في مكتب التحقيقات الي نيروبي في أغسطس 1998 للأجتماع بالمسئولين السودانيين، أصدر الرئيس كلنتون قراره بضرب مصنع الشفاء، فما كان من مسئول الأف بي أي إلا أن صرخ قائلا: أغبياء لقد أنهار كل شئ. ففشل الأجتماع، وقام السودان بتسليم العناصر الي الحكومة الباكستانية.

في المقابل أختار بن لادن الذهاب الي أفغانستان علي متن طائرته الخاصة بعد أن رفض الأمريكيون كل الخيارات التي عرضها السودان، بما في ذلك تسليمه الي واشنطون. وقد صدق حدس السودان وتوقعاته، إذ سرعان ما تم التحالف بينه وحركة الجهاد المصرية بقيادة  أيمن الظواهري وأعلان الجهاد علي الولايات المتحدة، مما أدي الي حدوث أحداث سبتمبر المعروفة. في ظل تلك الأوضاع الملغومة عقب ضرب مصنع الشفاء أضطر السفير مهدي أبراهيم سفير السودان لدي واشنطون لقطع رحلته الي السعودية والعودة الي واشنطون لأدارة ملف الأزمة. وأضطرت سوزان رايس التي كانت تتقلد منصب مساعد وزير الخارجية للشئون الأفريقية لأستدعاء السفير مهدي أبراهيم للمرة الأولي للتحدث معه حول الأمر، وعندما دلف الي مكتبها قال لها عبارة شهيرة صارت مثلا it took a crisis against my country to see me وهي: لقد تعرض بلدي الي كارثة حتي أستطيع مقابلتك. وسرعان ما أتخذت القيادة السياسية في الخرطوم قرارا بسحب السفير من واشنطون وأغلاق السفارة الي أجل غير مسمي.

في ذات الوقت كانت تجري وراء الستار ملامح قصة غريبة،ساعدت في تعقيد الأوضاع وسدت كل منافذ الحوار، وهي أن المخابرات الأمريكية نجحت في تجنيد أحد العناصر السودانية أطلق عليه أسم حركي وهو (طارق). وظل هذا العنصر يمد المخابرات الأمريكية بأرتال من التقارير الكاذبة والمزورة، وكان ذلك النمط من التقارير يجد أرتياحا وقبولا وسط  كبار مسئولي المخابرات والنخبة السياسية التي كانت تبحث عن ذرائع مستمرة لأستمرار وتكريس سياسة العداء ضد السودان. وصل الي يد الأدارة الأمريكية تقرير من العنصر السوداني الكذوب يؤكد فيه وصول عناصر من القوات الخاصة السودانية الي واشنطون لأغتيال هريمان كوهين، نائب مستشار الرئيس كلنتون لمحاربة الأرهاب، وأحد أضلاع العداء الأمريكي ضد السودان. وفقا لهذه التقارير أضطرت الأدارة الي أخفاء كوهين في مبني بلير للضيافة الرسمية في شارع بنسلفانيا وصار يخضع الي أجراءات تمويه وحراسة مشددة ، لمدة تسعة أشهر. وبعد أخضاع العميل السوداني لأختبار جهاز كشف الكذب أسرعت وكالة المخابرات المركزية لأعدام أكثر من 100 تقرير من ملف السودان، بعد فشل العميل السوداني من تجاوز الأختبار رغم أعادته أكثر من ثلاث مرات.. وعندها أدركت السي أي أيه أن كثير من المعلومات التي أرتكزت عليها في تقييم الأوضاع في السودان لم تكن دقيقة بل كانت كاذبة ومزورة لخدمة المرامي والأهداف السياسية المعلومة.

في ضوء هذه الحقائق قبلت وزيرة الخارجية مادلين البرايت أرسال عناصر من وكالات المخابرات والتحقيقات الي السودان للتعاون مع السلطات السودانية، والتأكد من مزاعم أيواء الأرهاب،وبلغ السودان مرحلة من التعاون أن أعطي الأجهزة الأمريكية رخصة لتفتيش كل الأراضي السودانية شريطة أخطار السلطات السودانية. وبعد عمليات دهم وتفتيش غير منظمة لعدد من المزارع ومعسكرات الدفاع الشعبي بعد الأستعانة بمصادر كاذبة وصور الأقمار الصناعية وصلت الأدارة الأمريكية الي قناعة تامة أن السودان برئ من كل الأتهامات والمزاعم بدعم وأيواء الأرهاب. وقد أعترف الرئيس كلنتون في العام 2002 أمام مجموعة من السياسيين ورجال الأعمال في ملبورن بأستراليا أن أكبر أخطاء رئاسته هو رفضه عرض السودان بتسليم بن لادن الي واشنطون. قصدنا من أستعراض هذه المعلومات التاريخية القاء أضواء كاشفة علي خلفية بعض الأحداث والتفاعلات لمعرفة الديناميكيات والدوافع في العلاقات بين واشنطون والخرطوم. ولعل الحقيقة الأهم هي أن الأكتفاء بأستعراض سياسة واشنطون فقط تجاه السودان لا يساعد علي معرفة وكشف مجمل المشهد السياسي ،كما فعل الأستاذ عبدالفتاح عرمان في مقاله المذكور، لأن السياسة الأمريكية لا تسبح في فضاء وفراغ عريض من الأحداث السياسة والحقائق التاريخية والأجتماعية، بل ترتكز علي حقائق موضوعية، وأفتراضات منطقية لذا فأن التعرض لردود فعل السودان ومبادراته السياسية في التفاعل مع السياسات الأمريكية يعتبر عنصرا هاما في هذه المعادلة. ويتضح بذلك أن السودان لم يكن عنصرا ساكنا في هذه المعادلة أو جزءا مستقبلا ومتقبلا فقط لأقدار السياسة الأمريكية بل أستطاع أيضا أن يؤثر في تكييف تلك السياسات، وأن يجبر واشنطون علي أتخاذ تدابير وخيارات ضرورية للتعامل مع معطيات الساحة السودانية المعقدة.ولعل أهم حقيقة بني عليها الجنرال قريشن أفتراضاته هو ضرورة التعاون مع الحكومة السودانية، بغض النظر عن رأيه فيها، لذا فقد أبتدر سياسة التعاطي الأيجابي constructive engagement، لأنه يدرك أن أي جهد مبذول في السودان دون التعاون مع النظام القائم يعتبر حرث في البحر. لذا يبرز السؤال التالي: هل أنقلاب واشنطون هو أستجابة طبيعية لنهج أدارة أوباما في السياسة الدولية بأعادة الهيبة والأحترام لصورة أمريكا، بعد التشويه الذي لحق بها في عهد بوش، وأعادة تسويقها بالأعتماد علي قوتها الناعمة في القيم والأفكار وأحترام حقوق الأنسان،والأختراعات العلمية، وليس الأعتماد علي القوة العسكرية الصلبة.أم أن ذلك الأنقلاب وتلك السياسية تجاه السودان  هي خيار ضروري لتحقيق الأهداف الأستراتيجية في السودان كنتيجة حتمية وطبيعية للتفاعل والشد والجذب بين واشنطون والخرطوم؟. سنحاول الأجابة علي هذه الأسئلة في الحلقات القادمة، كما لا بد  أن أنوه في خاتمة هذا الجزء أن هذه المعلومات ليست مستخرجة من وثائق أو مصادر سرية ، بل هي مبسوطة في مقالات وكتب منشورة باللغة الأنجليزية والعربية، والتي سنتعرض لبعضها في سياق هذه الحلقات.

(نقلا عن الأحداث)

 

آراء