تأمــلات فـي الهُــوِية 3 – 5

 


 

 

مفهوم المواطنة والهًوِية في عصر تعدد الدول الاسلامية

قد يبدو مفهوم الأمة والمواطنة واضحاً داخل حدود الدولة أو الخلافة في طورها المبكر في عصر الخلافة الراشدة والخلافة الأموية وبداية الخلافة العباسية عندما كان كل أفراد الأمة منضويين تحت لواء دولة واحدة وكان انتماء كل المواطنين في حدودها. فماذا حدث للأمة وانتماء المواطنين بعد أن تعددت الدول الاسلامية التي عاش تحت ظلها أفراد الأمة؟ فقد شهدت الأوضاع السياسية والادارية في الدولة الاسلامية منذ القرن الثالث الهجري (9 م) تغيراً كبيراً يشار إليه في العادة بعصر ضعف الخلافة وقيام الدول المستقلة ويسمى بالعصر العباسي الثاني.

 

ضعف سلطة الخلافة  السنية في بغداد منذ ذلك الوقت، وظهرت دول في الشرق والغرب أقوى عسكريّاً من الخلافة في بغداد مثل الدولة السمانية التي نشرت الاسلام في مناطق التركستان (الأجزاء الشمالية من وسط آسيا) في القرن الثالث الهجري. ومثل الدولة الغزنوية التي نشرت الاسلام في الهند في القرنين 3 و 4هـ (9 – 10 م) والدولة الحمدانية التي سجلها المتنبي وغيره في أشعارهم والتي الحقت بالامبراطورية البيزنطية العديد من الهزائم. وكدولة الأغالبة في تونس الحالية والتي هزمت تحالف البيزنطيين والبابا وبعض ممالك أوربا الجنوبية في القرن الثالث الهجري، وكالدولة الأيوبية وانتصاراتها على التحالف الأوربى الصليبي في عصر صلاح الدين في القرن السادس الهجري (12 م) وكدولة المماليك التي أوقعت أول هزيمة بالمغول في غزوهم للعالم الاسلامي.

 

وأعتقد أننا لو نظرنا إلى قوة هذه الدول – وغيرها في ذلك الوقت – نحكم بأن الأمة كانت لا تزال قوية بعد القرن الثالث الهجري. والذي تجب الاشارة إليه هو أن كل هذه الدول التي ذكرناها أعترفت بالخليفة العباسي، وأعلنت ذلك رسميّاً في الدعوة إليه في مساجدها، وبارسال قدر من المال إليه سنويَاً. وكان لا بد من الحصول على موافقة الخليفة عند تسمية ولي العهد وتعيين الحاكم الجديد. ويدل ذلك على أن الخليفة رغم ضعفه الإداري وعدم ممارسته لسلطة فعلية على تلك الدول ألا أنه ظل يحتفظ بنفوذ روحي قوي خول له تلك المكانة السامية بين حكام تلك الدول.

 

 ويمكن أن نصف هذا الوضع بالنظام غير المركزي. فالنظام في الخلافة قد تغير منذ القرن الثالث الهجري من مركزي إلى لا مركزي. وحافظ المسلمون على قوتهم العسكرية والقتصادية، بل بلغت الحضارة الاسلامية قمة مجدها في هذه الفترة، ولا بد أن ذلك تحقق تحت أوضاع مستقرة. إذاً ليس من الانصاف وصف أوضاع الخلافة بعد القرن الثالث بالضعف والتفتت، ما حدث هو تغير أسلوب الحكم من مركزي إلى لا مركزي.

 

ومن جانب آخر ظهرت دول مستقلة قوية لم تعترف بسلطة الخليفة العباسي السني، كان بعض تلك الدول سنية مثل الدولة الأموية بالأندلس ودول المرابطين والموحدين والحفصيين بالمغرب. وبعضها شيعي مثل الدولة الفاطمية في مصر والشام والحجاز وبعضها الآخر إباضي مثل الدولة الرستمية في الجزائر والامامة الإباضية في عُمان. وكانت تلك الدول قوية في أوضاعها العسكرية والاقتصادية والثقافية.

 

فإذا توصلنا أن الأمة ما بين الهند والأنلس كانت لا تزال قوية في كل النواحى تحت النظام اللامركزي وتح حكم الدول التي لم تتبع النظام العباسي اللامركزي، فكيف كانت أوضاع المواطنة والهوية في تلك الدول؟  هل تغيرت أوضاع المواطنين وانتماءاتهم بعد القرن الثالث الهجري؟ هل أصبح المواطنون في الأندلس أمويين وفي شمال افريقيا فاطميين وفي غرب آسيا والمشرق الاسلامي عباسيين وفقاً لحدود الدول وتغير الأوضاع السياسية التي عاشوا تحت ظلها؟ ثم ماذا حدث للسكان في الأندلس مثلاً في القرن الخامس الهجري بعد سقوط الأمويين وقيام المرابطين؟ هل تغيرت هويتهم من أمويين إلى مرابطين؟ وماذا حدث في مصر بعد سقوط الفاطميين وقيام الأيوبيين؟ هل تغيرت هوية السكان من فاطميين إلى أيوبيين، ثم إلى مماليك، ثم إلى عثمانيين؟ 

 

في واقع الأمرلم تتغير أوضاع الأمة والمواطنين التابعين لتلك الدول، وما حدث هو تمدد مفهوم الأمة والمواطنة ليشمل أفراد الأمة فيما وراء الحدود، وهو المفهوم الذي أشار إليه كل من الخليل بن أحمد والزبيدي. وكان انتماء المواطين في مصر وفي الأ ندلس وفي العراق وايران والهند وعُمان للأمة. وكان الاحساس بالمواطنة العامة قوياًّ لدرجة لم يشعر معها أي مواطن بغض النظر عن عرقه أو دينه بالغربة في أي مكان في البلاد الاسلامية.

 

كانت حدود كل تلك الدول - السنية والشيعية والاباضية، التابعة للخلافة وغير التابعة لها - مفتوحة أمام كل أفراد الأمة يتجولون حيث شاءوا يستقرون في أي مكان في الدول الاسلامية ويتمتعون بكل الحقوق والواجبات المتساوية في كل منطقة. وهذه الأوضاع لا تتحقق اليوم للمواطنين إلا تحت ظل الوحدة السياسية. فالمواطن في الدول الاسلامية قبل الاستعمار كان يتمتع بكل الامتيازات التي توفرها اليوم الوحدة السياسية. ولذلك  فإنه لم تكن هنالك صلة في الدول الاسلامية – في تراثنل - بين الحدود السياسية وامتيازات المواطنين. هذه الظاهرة التي ربطت بين حقوق المواطنة والحدود السياسية وليدة الدولة القومية التي ظهرت حديثاً في الغرب ولا صلة لها ولمفاهيمها بتراثنا الاسلامي. 

 

 كان شعور الانتماء للوطن الاسلامي الكبير إذاً قوياًّ، فالبخاري من آسيا الوسطى لم يشعر بعدم الانتماء أو بالغربة وهو يعيش في مكة ويؤلف كتابه في الحديث.  والشعور بالمواطنة والانتماء هو الذي مكن ابن بطوطة من الاستقرار والعمل كقاضي في الهند رغم أنه أتي من المغرب. والاحساس العالمي بالمواطنة والتمتع بالحقوق الكاملة في أي بقعة من الوطن الاسلامي الكبير هو الذي أدى إلى انتشار شركات اليهود التجارية من الأندلس إلى شمال افريقيا وشبه الجزيرة العربية والخليج العربي وفارس والهند حتى جنوب شرق آسيا.

 

كان الشخص يعرف في السابق بانتمائه المحلى مثل البغدادي والطبري والبخاري أو إنتماءه الاقليمي مثل الأندلسي والمغربي  أو إنتمائه القبلي مثل القرشي أو الجَهَني أو إنتمائه المذهبى مثل المالكي والشافعي. لكن  انتماءه العام  الثابت الذي لايتغير بتغير الحدود السياسية  كان للأمة، فهو مواطن يتمتع بكل حقوق المواطنة في أي دولة من دول الأمة.

 

والخلاصة أن هوية المواطن في المفهوم الاسلامى عالمية لا تعرف الحدود، فقد ارتبطت خلال الثلاث قرون الأولي بالحدود السياسية لأن دولة الخلافة كانت تمارس سلطاتها المركزية على كل أراضي الخلافة. ثم عبرت المواطنة والهوية العالمية في عصر الامركزية وتعدد الدول منذ القرن الثالث الهجري (9 م) عن نفسها بحرية الحركة وبالمساواة في الحقوق في الوطن الاسلامي الكبير. ولعله من نافلة القول أن هذا المفهوم كان سائداً والشعور بالانتماء العالمي كان قويّاً بين أفراد الأمة إلى ما قبل امتداد الاستعمار إلى الدول الاسلامية

 

ولعله من المفيد ومما يساعد في زيادة توضيح مفهوم الهُوية والوطنية معرفة كيف كانت دلالات بعض المصطلحات المتعلقة بهذه القضية في اللغة العربية في تلك الأوقات المبكرة مثل الهُوٍية والوطنية والقومية للوقوف على مدى اختلاف دلالاتها السابقة عن الدلالات الحالية.   

الهُوٍية والوطن والقومية 

معنى الهُوٍية في اللغة العربية المبكرة لا صلة له البته لمعنى الهوية الحالي. فالهوية كما عرفها الجوهري في الصحاح (ج 1 ص 458) "موضع يَهوي مَن عليه، أي يسقُط" وقد ارتبط معناها الاصطلاحي عند الجرجاني (التعريفات ج 1 / ص 83) بـ"الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق. والهوية السارية في جميع الموجودات." 

 

وعن الوطن جاء في لسان العرب لابن منظور (ج 13 / ص 451) أن "الوَطَنُ يعني "المَنْزِلُ تقيم به وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحله، والجمع أَوْطان، وأَوْطَنْتُ وَطْناً لم يكن من وَطَني ...  قال ابن بري الذي في شعر رؤبة:

كَيْما تَرَى أَهلُ العِراقِ أَنني     أَوْطَنْتُ أَرضاً لم تكن من وَطَني"

 

   "وَطَنَ بالمكان وأَوْطَنَ أَقام، وأَوْطَنَهُ اتخذه وَطَناً يقال أَوْطَنَ فلانٌ أَرض كذا وكذا أَي اتخذها محلاً ومُسْكَناً يقيم فيها ... والمَوْطِنُ مَفْعِلٌ منه ويسمى به المَشْهَدُ من مشَاهد الحرب وجمعه مَوَاطن وفي التنزيل العزيز لقد نصَركُمُ اللهُ في مَوَاطن كثيرة وقال طَرَفَةُ:

على مَوْطِنٍ يَخْشَى الفَتَى عنده الرَّدَى   متى تَعْتَرِكْ فيه الفَرائصُ تُرْعَدِ"

وأَوطَنْتُ الأَرض ووَطَّنْتُها تَوطِيناً واسْتَوْطَنْتُها أَي اتخذتها وَطَناً...

 

وقد تردد معنى الوطن بهذه الصورة في القواميس العربية الأخرى مثل: الصحاح في اللغة للجوهري والقاموس للفيروز أبادي والمحيط في اللغة للصاحب بن عباد. ولم ترد لكلمة "الوطنية" في القواميس المشار إليها ما نفهمه اليوم من معنى هذه الكلمة. فعلى الباحثين في اللغة العربية تتبع تاريخ الكلمة ومتى بدأ شيوع هذا المفهوم عند متحدثي اللغة العربية. فالوطن في تراثنا لم يرتبط بضرورة الاقامة الدائمة، وتبديل الوطن يخضع لحكم الشخص، ولا تحدده قواعد إقامة أو قوانين هجرة كما هو الحال اليوم

 

وعن القومية يقول ابن دريد ( جمهرة اللغة ج 2 / ص 51) أن القُوميّة معناها "القَوام أو القامة. قال الراجز:

أيّـامَ كـنتُ حَسَنَ القُوميّــهْ

ترى الرجالَ تحت مَنْكِبَيَّهْ

وذكر الخليل بن أحمد في كتاب العين (ج 1 / ص 416) "فلان ذو قومية على ماله وأمره. وهذا الأمر لا قومية له، أي: لا قوام له، قال:

ألم تر للحق قُوميّةً ... وأمراً جلياً به يهتدى

ولم يرد غير هذه المعاني للقومية في المعاجم العربية المبكرة.

 

وكذلك كلمة قُطْر بمعناها السياسي الحالي الذي يدل على بلد محدد  بحدود سياسية معلومة – مثل القطر السوداني والمصري - لم يكن معروفة بهذا المعنى في اللغة العربية المبكرة. يقول ابن منظور في لسان العرب (ج 5 / ص 105) "القُطْر بالضم الناحية والجانب والجمع أَقْطار، وفي التنزيل العزيز: من أَقطار السموات والأَرض أَقطارُها نواحيها واحدها قُطْر، أَقطار الخيل والجمل ما أَشْرَفَ من أَعاليه وأَقطارُ الفَرس والبعير نواحيه."

 

فمثل هذه المصطلحات الغربية الحديثة لم تكن معروفة في تراثنا بنفس مفاهيمها المعاصرة. وقد تطورت هذه المفاهيم في الغرب في العصر الحديث نتيجة تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية استمرت لعدة قرون، تولدت عنها في النهاية هذه المصطلحات لتعبر تعبيراً وافياً وصادقاً عن أوضاع تلك المجتمعات.

 

علينا التعرف على تلك المصطلحات ومن أين أتت إلينا، لا لرفضها أو شجبها ولكن للتمكن من التعامل معها، فهي أساساً وجدت لمعالجة مجتمعات مختلفة في كل أوضاعها عن أوضاعنا الحالية، ومن الضروري وضع هذه الحقيقة في حساباتنا. أي يجب أن نفهم كيف أدت الأوضاع هنالك إلي وجود دولة مثل سويسرا تعيش في حالة استقرار سياسي واجتماعي وهى تتكون من مجموعات عرقية ولغوية مختلفة. فهم يعيشون ذلك لأنه جزء من تراثهم واختيارهم. أما نحن فلا نعيش تراثنا ولَم نختر أوضاعنا الحالية – اسم دولتنا وحدودها - لأن الانجليز هم الذين اختاروها لنا. فكيف كان مفهوم المواطنة قبل عصر الاستعمار؟

 

آراء