من فرنسا الى الدوحة.. ولقاء عبد الواحد نور … بقلم: محمد المكي أحمد

 


 

 

modalmakki@hotmail.com

 

في فرنسا مشاهد عدة تشد الزائر، وتدعوه للـتأمل، وفي صدارتها حرية الصحافة ، وهناك في العاصمة  باريس وغيرها من العواصم التي تحترم الرأي والرأي الآخر لا يواجه  القاريء مشكلة في  الحصول  على   صحيفته  أو صحفه  المفضله ، لمتابعة أخبار العالم وتطوراته المفجعة أو المضحكة.

هذا المشهد هو نتاج مناخ حر و ديمقراطي حقيقي ، وهو  يعبر عن شفافية المجتمع وتركيبته الحرة التي لا تخاف من رأي  أو تعليق في  صحيفة،  ولا تمارس القمع على الحريات الصحافية، حتى لو كانت هذه الصحيفة أو تلك تنتقد الحكومة الفرنسية على أعلى المستويات ، أو تتبنى موقف حكومة أخرى تعادي السياسية الفرنسية.

في عالم اليوم لا أحد بمقدوره مصادرة الحريات الصحافية أو حرية التعبير بشكل عام، هذا هو عصر الانترنت  والفضائيات ولا يستطيع أي حاكم مستبد في السودان أو غيره من الدول العربية  أن يمنع الآخرين من  الاطلاع على الأخبار و أزمات بلده ومشاكله وقصص وممارسات  الحكم الديكتاتوري  في معاداة الصحافة والصحافيين، أو في ميدان قمع الحريات بشكل عام.

العالم المتقدم علميا وتنمويا متقدم أيضا في مجال الحريات، ويعرف دور الحرية في بناء المجتمعات، وخاصة لأبناء الوطن، وإن الأنظمة التي تقوم على مرتكزات الحرية السياسية  التي تحترم حقوق المواطنة لا تدعي  الوصاية  على الحريات ، ولا تدعي أنها  معرفة  مصالح الشعب أكثر من ابناء الشعب أنفسهم ، سواء كانوا سياسيين أو صحافيين.

في مثل تلك الدول وبينها فرنسا تقوم الحياة السياسية على قيم ومفاهيم الشراكة في المواطنة، وهناك ايضا القضاء المستقل الذي يمكن أن يلجأ اليه أي مظلوم ، سواء كان في موقع عمله ، أو في أي مكان، وأعتقد بأن القضاء المستقل هو الضامن الحقيقي للحريات والحقوق في المجتمعات العصرية و الديمقراطية ، خأصة أنه  لا يوجد مجتمع يخلو من الظلم والممارسات الخاطئة والباطشة .

أعجبني كثيرا أن أجد صحفا عربيا يومية منذ الصباح الباكر في الفندق ومكتبات عدة في قلب شارع الشانزيليزيه الشهير في قلب العاصمة الفرنسية، هناك الحياة اللندنية والشرق الأوسط والاهرام والقدس العربي . معلوم أن الصحف العربية  الدولية العريقة تطبع في عواصم عربية ودولية عدة ، وهي تساهم في نقل الخبر والمعلومة والتحليل وتشكيل الرأي العام ، وتحظى بمتابعة دوائر الحكم في الدول الكبرى أيضا .

شدني أمام مقهى "فوكيت" المعروف المطل على شارع الشاننزيليزيه وجود مكتبة تزخر بصحف عدة من كل لون وتوجه ، لكن اللافت وجود صحف ايرانية مثل "كيهان" " و"اطلاعات" وغيرهما، وحرص صاحب  المكتبة  في لفتة ذات دلالات أن يرفع علما ايرانيا صغيرا فوق  سطح المكتبة الى جانب أعلام أخرى.

قلت لأصدقائي -ونحن نخرج من تلك المكتبة التي تضم صحفا  تعارض سياسات  دول أخرى-  أنظر الى الصحف الايرانية والعلم الايراني، وتأمل دلالات ذلك في مايتعلق بمناخ الحريات التي  تنعم بها  صحف حكومات تختلف فرنسا مع توجهاتها وسياساتها.

 إنه مشهد مهم يعكس مناخا لا يخاف من الكلمة ، فهناك نظام حكم   يحترم الصحافة ولا يغلق  الصحف بمزاجه ولا يطرد أو يسجن الصحافيين وفقا للأهواء والأمزجة وسياسات حزبية ضيقة  كما يحدث مثلا في السودان الآن .

أحدث دليل على الشفافية  والحرية الصحافية  في فرنسا  لمسته خلال هذه الأيام  في حملة صحافية شنتها صحف المعارضة على حكومة الرئيس نيكولا ساركوزي بشأن  قضية وزير العمل الفرنسي أريك وورث وليليان بيتانكور التي توصف بأنها "أغنى نساء فرنسا"وهي "وريثة مجموعة مستحضرات لوريال للتجميل" حسب وسائل اعلامية.

الوزير الفرنسي تعرض  لانتقادات شديدة بتهمة  تقول حسب وسائل الاعلام الفرنسية أن زوجته حصلت على وظيفة في مكتب  مدير مكتب  إمراة فرنسية ثرية اسمها  باتريك دوميستور.

 على مدى أيام واصلت وسائل اعلام فرنسية حملة شديدة اللهجة ضد ما يصفونه بـ"فساد الحكم"، ونشرت معلومات اتهمت الرئيس الفرنسي نفسه  "باستلام 150 ألف يورو لتمويل حملته الانتخابية في عام 2007" ، بغض النظر عن صحة أو خطأ ا لمعلومات المتداولة   في الاعلام  الفرنسي ، فان نظام الحاكم الفرنسي لا يستطيع فرض الرقابة "القبلية" على الصحف ووسائل الاعلام الفرنسي، كما لا يستطيع ساركوزي وهو رئيس  دولة كبرى أن يبطش بمعارضيه أو يدخلهم السجن من  دون تهم محددة أو من دون تحويل أية قضية الى قضاء مستقل .

لم يكن أمام الرئيس الفرنسي ورئيس حكومته فرانسوا فيون  سوى الدفاع عن وزير العمل، وتوضيح أهداف الحملة على الوزير وطرح رؤى الحكومة في هذا الشأن احتراما للرأي العام، لأن للرأي العام هناك قيمة ودور كبير في نهضة المجتمع ، وذلك  الدور  يعني  احترام الشعب الذي ينتخب الرئيس انتخابا شفافا  تلقى  نتائجه  اعتراف من الموالين والمعارضين.

في فرنسا الكثير من المشاهد الحيوية، وبينها المواقف الفرنسية الداعمة للقضايا العربية وفي صدارتها حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والعادلة.

 في لفتة  جديدة ذات دلالات افتتح الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس بلدية باريس برتران دولانوي ميدان الشاعر الفلسطيني الراحل  محمود عباس.

 الفرنسيون يحبون  مناخ التعايش بين الشعوب، ويبدو أن افتتاح ميدان الشاعر محمود درويش في الرابع عشر من يونيو 2010 شكل خطوة لتعزيز قيم التعايش  بعدما شهدت باريس في 15 ابريل الماضي ميدان ديفيد بن غوريون أول رئيس اسرائيلي  في عام 1948.

الشأن السوداني محل اهتمام فرنسي أيضا ، وهاهي لقاءات وزير الدولة القطري للشؤون الخارجية  السيد أحمد بن عبد الله آل محمود والوسيط الافريقي الدولي السيد جبريل باسولي ورئيس حركة تحرير السودان السيد عبد الواحد نور في باريس في 8 يوليو  2010تجدد الـتأكيد على دعم فرنسا الحيوي  للعملية التفاوضية الجارية في قطر  في سبيل طي ملف دارفور.

تنويه  عبد الواحد نور بجهود قطر خطوة مهمة وحيوية  وهي تؤشر الى فتح جسور التواصل مع قيادي دارفوري هو أحد رموز دارفور شاء من شاء وابى من أبى، كما يؤكد   ذلك أن قطر تسعى لحل شامل بمشاركة الجميع وليس مع حركة حركة دارفورية واحدة.

  لقاء  وزير الخارجية الفرنسي  السيد برنار كوشنير و عبد الواحد نور (في يوليو 2010) يؤشر الى دعم فرنسي قطري لمفهوم  السلام الشامل والدائم في دارفور، الذي لا يستثني أحدا، وهنا تبدو أهمية وضرورة  مشاركة حركة العدل والمساواة بقيادة الدكتور خليل ابراهيم في الحل الشامل، وهي أيضا حركة كبرى شاء من شاء وابى من أبى.

 لكن على حركة العدل والمساواة  أيضا أن  تعيد تفتح جسور التواصل مع منبر الدوحة أيا كانت ملاحظاتها ورؤاها في سبيل التوصل مع الحركات الدارفورية الى موقف تفاوضي موحد، فالحوار ووحدة الصف الدارفوري كفيلان باعادة الحقوق المشروعة لأهل دارفور وأهل السودان في دارفور.

 في هذا السياق  أرى أن باريس قادرة من خلال علاقاتها الاستراتيجية والسياسية القوية مع الدوحة  على أن تساهم بجهود كبيرة في سبيل دفع جهود الحل الشامل لأزمة السودان في  دارفور، استنادا الى قيم الحرية والعدالة .

وخلاصة الرأى إن نجاح أي مسعى في هذا الشأن مرهون بمدى استعداد الحكومة السودانية لتقديم استحقاقات السلام الحقيقي لأطراف النزاع وللسودانيين جميعا، لأن الأزمة  في البداية والنهاية هي أزمة وطن وأزمة السودانيين من دون استثناء .

الأزمة  ليست أزمة منبر الدوحة وليست  أزمة قطر،   لكن  من دون شك فان فاعلية دور الوساطة  يتأثر سلبا أوايجابا بمضاعفات الصراع المحموم  بين الفرقاء السودانيين، وبتقاطعات مواقف اقليمية ودولية محمومة .

 المطلوب من الفرقاء السودانيين عدم خلط الأوراق ، وهذا لا يعني تحريم  ابداء ملاحظات عن منبر الدوحة  وآلياته ، أو مصادرة حقوق أي طرف  في ابداء الرأى والموقف ،لكن لا تسقطوا  تناقضاتكم وتكتيكاتكم ومناوراتكم على المنبر، وتحملوه عجزكم عن معالجة أزمة سودانية تم تدويلها نتيجة   لفشل سياسات الحكم في السودان .

 برقية: محتاجون لتعلم قيم التعايش وفق حقوق المواطنة  كما هو الحال في فرنسا مثلا .

عن صحيفة (الأحداث) 11-7-2010

 

 

آراء