إشراقات دارفوريّة فى الفضاءات الأوروبيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
helhag@juno.com
“Ever since I was elected to the Hall of Fame in December, people have asked, ‘What’s it feel like to be a Hall of Famer?” “Well, Now I can tell you what it feels like. It feels like going to heaven before you die.”!!!
Mr. Whitey Herzog, Former Manager of St. Louis Cardinals (Sunday, 25 July 2010).
منذ ترشيحى لقاعة المشاهير (فى لعبة كرة البيسبول) فى ديسمبر الماضى، يسألنى الناس عن شعورى فى أن أكون أحد أولئك المشاهير، حسناً، الآن يمكننى أن أخبركم كيف هو شعورى، أشعر وكأنّنى قد إنتقلت إلى السماء قبل موتى!!!
السيّد ويتى هيرزوك، المدرب السابق لفريق سانت لويس كاردينالز لكرة البيسبول الأمريكيّة (الأحد، 25 يوليو 2010).
ونحن بدورنا نتساءل: هل ما عناه المستر هيرزوك فى إحتفاليّة تنصيبه كأحد عظماء رياضة كرة البيسبول الأمريكيّة يعكس شعور بأنّه لم يبلغ النهايّة بعد بالرغم من إختياره كأحد المشاهير؟ أم أنّ بلوغ المجد ما هو إلاّ نهايّة لمرحلة تعقبها مسيرات قادمة لبلوغ غايات ساميات أخرى؟
وربّما قد عنى أبوالطيب المتنبئ ذلك حين أنشد:
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير... كطعم الموت في أمر عظيم
هذه المقدمة ضروريّة لهذا المقال والذى يحمل بين طيّاته بعض خواطر شخصيّة ومراجعات تاريخيّة، تعكس تعبيراً فى حدّه الأدنى عن تقدير دفين لبعض إخوتنا الذين عرفناهم عن قرب، تشاركنا معهم فى الوجدان قبل الإعلان، وفى الشدّة قبل الرخاء، وفى النبل والسمو فى ميدان البلاء، غامروا من أجل الشرف المروم، كل بطريقته وجهده المثابر، لم يكلّوا أو يملّوا أو يطلبوا السند من أحد إلاّ من مولاهم الأحد، لكنّها هم ونفوسهم الأبيّة التى لا ولن ترض بغير ما هدفوا إليه، نخطّها كمكرمكة فى حقّهم ورسالة تقدير نحوهم (Tribute) نقولها لهم عبرها مبروك و(شكراً جزيلاً) فقد عبّرتم عمّا يجيش فى دواخلنا ويدغدغ أحلامنا ويجعلنا مطمئنين بأنّ الدنيا ما تزال بخير وأن الشمس حتماً ستشرق فجر الغد، إنّهم وهج من كوكب يعج بالعاملين فى صمت، المتجردين من الغرض، المجتهدين فى طلب العلا ليست كغايّة بل وسيلة من أجل إسعاد الآخرين، ولذلك فحقّهم علينا أن نحتفى بهم إحتفاء الحفل الفخيم ونزفهم إلى قاعات الشرف الرفيع وسرادق المشاهير المزدهرة، إن لم يكن اليوم أو يحين الموعد، فإنّ غداً لناظره قريب.
أثنان من السودانيين والسودانيات، هكذا أبلغ بلغة الجمع! أخ وأخت من أبناء دارفور، وتحديداً من أبناء مدينة الجنينة بلد السلطان أبّو بحرالدين، تمّ تكريمهم مؤخراً فى الفضاءات الأوروبيّة فى مجالين مختلفين، أكاديميّة وإجتماعيّة، والتكريم فى تلك البلاد، لمن لا يعرف، لا يتم عن طريق (أخوى وأخوك) أو الفهلوة وعصبة الرهط، بل عن طريق الشفافيّة، هذه العبارة الغائبة فى قواميس كثيرة، والتى تحكم كل العمليّة إبتداءاً من برمجتها ومن قبل وبعد، فهى تعنى سمعة المُعطِى قبل كنهيّة المُعطَى، وتدخل فى مجرى تاريخ المؤسسة المانحة ودفاترها (Future Records) لأجيال قادمة، ولذلك فهى عمليّة معقدة وصارمة (Rigorous) بدءاً بالإعلان الرسمى عنها وطلب الترشيحات ومروراً بمرحلة إستلام الأسماء المبدئيّة ثمّ الغربلة الأوليّة ثمّ القائمة قبل النهائيّة ثمّ تصفيّة الثلاثة أسماء الأخيرة (Short List) ثمّ إعلان الفائز/الفائزة النهائيّة فى مجمع عام وعلى طاولات ممتدة وعلى الهواء الطلق، وتخضع مسار كل مرحلة فى ذلك لرقابة لصيقة وتمحيص شفيف لأنّها فى النهايّة سمعة المؤسسة المانحة، وعليه فقد تمّ ترشيح وتمحيص وفوز إخوتنا هؤلاء، أو بالأحرى الأخ والأخت، بما فازوا به من جوائز تقديريّة على النحو أعلاه، فدعونا نبتسر حالة كل منهم.
(1) الدكتور محمّد النجيب عبدالله عيسى: دكتوراه فخريّة فى العلوم
منحت جامعة ستراثكلايد (Strathclyde) الأسكتلنديّة فى جلاسقو، بريطانيا، درجة الدكتوراة الفخريّة فى العلوم للدكتور محمّد النجيب عبدالله عيسى والذى يعمل نائب مدير قسم البيئة بمنظّمة الأمم المتحدة للتنميّة الصناعيّة (UNIDO) التى تحتضنها العاصمة النمساويّة مدينة فيينا الجميلة، وقد جاء فى ديباجة التكريم بأنّه قد تمّ تقديراً للجهود التى قام بها دكتور النجيب من أجل الحفاظ على البيئة الصناعيّة حول العالم ودوره فى مجال إصحاح البيئة الصناعيّة وصحّة المجتمع والمساعدة على تطويرها مع زيادة الإنتاج وتجديد التكنلوجيا المستدام التى تدعم تعظيم الأرباح وتحافظ على البيئة، وقد تمّ تسليم الدرجة الفخريّة فى يوم الخميس 15 يوليو 2010 الماضى فى إحتفال فخيم بحضور أسرته الصغيرة وبعض اصدقائه السودانيين بمناسبة تخريج الدفعات المختلفة للجامعة للعام 2010، وهو أول أفريقى فى تاريخ تلك الجامعة العريقة يحصل فيها على درجة الدكتوراة الفخريّة فى أى فرع علمى كان.
والدكتور النجيب من أبناء مدينة الجنينة (بلد أبّو) بغرب دارفور، تخرج فى جامعة الخرطوم قسم الهندسة الكيميائيّة عمل بعدها بالمؤسسة العامة للبترول ثمّ مصفاة بورتسودان ثمّ إلتحق كمعيد بجامعة الملك عبدالعزيز بجدّة بالمملكة العربيّة السعوديّة لينتقل بعدها إلى جامعة ستراثكلايد الأسكتلنديّة حيث أكمل درجة الماجستير فى الهندسة الكيميائيّة تابع بعدها دراسته للدكتوراة فى الجامعة التكنلوجيّة بكانبينغ بفرنسا وعمل بها بروفسيراً فخرياً لمدة قصيرة قبل أن ينتقل إلى اليونيدو عام 1995، وقد كان بحثه فى مرحلة الدكتوراة فى بدايّة التسعينات قد تعلق بتكنلوجيا تحويل الزيوت النباتيّة (زيوت الطعام) إلى جازولين صادف وقتها ندرة حادة فى المواد البتروليّة بالسودان وقد أجرى معه الأخ والصديق أحمد كمال الدين، وكان وقتها رئيس مجلس إدارة صحيفة دارفور الجديدة، تغطيّة واسعة حول بحثه ذلك جاءت فى حوالى ثلاثة أو أربع حلقات على ما أذكر ويمكن الحصول عليها فى دار الوثائق المركزيّة.
بالنسبة لى فإنّ تكريم الأخ النجيب يدخل فى إطار شخصى بحت فهو ليس كأخ أو صديق فقط، بل الأقرب، عقلان فى جسم واحد!، وقد كان خير معين ومرشد لى عند إلتحاقى بالعمل الدولى ساعدنى كثيراً فى فهم أسرارها والتعامل مع طبيعة أنشطتها المتعددة ووسائلها المختلفة، لقد جاءنا ونحن فى الصف الأخير بمدرسة الفاشر الأهليّة الوسطى وسكن مع عمّه، جارنا وعمّنا المرحوم محمّد عثمان، عليه رحمة الله تعالى، وكان يجلس خلفى فى الفصل، تلك الدفعة التى خرّجت نوابغ منهم أربعة شخصيات يحملون اليوم درجة الدكتوراه هم محمد النجيب عبدالله عيسى (هندسة كيميائيّة) والطيب صالح أبو اليمن (هندسة كمبيوتر) ومحمد الطيب عبدالله الطيب جدو (إدارة أعمال) وشخصى الضعيف (طّاقة)، ثمّ إنتقلنا سوّياً إلى مدرسة الفاشر الثانويّة العريقة حيث كنا فى فصل واحد تخصص رياضيات حصل زميل لنا فيه لاحقا على درجة الدكتوراة فى الكيمياء من جامعة كاليفورنيا هو الأخ والصديق صالح محمد أحمد من أبناء مدينة كتم الجميلة، كما حصل آثنان من أبناء دفعتنا تلك فى مدرسة الفاشر الثانويّة على درجة دكتوراة وأخرى علميّة رفيعة هم الدكتور عبدالله عثمان التوم (دكتوراة إقتصاد من أسكتلندة) والدكتور بارودى مصطفى فاشر (بروفسير طب من بريطانيا)، كما نذكر آخرين أيضاً من الذين كانوا معنا فى فصل الرياضيات تميّزوا فى مجالاتهم المختلفة منهم المهندس على يحيى (كهرباء وإتصالات) والذى عمل بمشروع القمر الصناعى العربى فى بداياته فى فترة الثمانينات بجانب مديرها حينذاك الدكتور مهندس إدريس يوسف عبدالحميد رئيس مجلس شورى قبيلة الفور حالياً، والمهندس المدنى محمد الحسن (فرينى) الذى عمل كمهندس مقيم فى نهايّة الثمانينات وبدايّة التسعينات لبناء رئاسة رابطة العالم الإسلامى بمكّة المكرّمة، والمهندس المدنى الهادى السيد همّة وعمل كأحد المشرفين على إصلاح قنوات مشروع الجزيرة بجانب المهندسان الميكانيكيان محمّد الفاتح سليمان ومحمد أحمد عثمان اللذان عملا فى مشروع تأهيل السكّة الحديد بعطبرة، والطيب بابكر أبواليمن (هندسة مساحة) وموسى آدم عمر (هندسة مدنيّة) وهذان الأخيران هما الآن من أرباب الأعمال بالقطاع الخاص، أمّا صديقنا المهندس المدنى أمين عبدالله (أمينو) فقد إستوعبته جامعة الخرطوم كخبير فى وحدة هندسة البناء والطرق وفتح الرحمن صالح محمد على الذى غيّر وجهته نحو الإقتصاد بعد دخوله جامعة الخرطوم هو اليوم خبير إقتصادى فى البترول بشركة بترودار.
من دفعتنا تلك بمدرسة الفاشر الثانويّة بعضاً من الذين برزوا اليوم فى مضمار السياسة السودانيّة نذكر منهم الفريق الهادى محمد أحمد مقرر الإنتخابات الأخيرة وكان جارى الدُرج بالدُرج فى السنة الأولى عند دخولنا تلك المدرسة، والأخ السفير الشفيع أحمد محمد طاهر السفير بوزارة الخارجيّة، وقد عاش النجيب والشفيع فى غرفة واحدة بداخليّة دينار بالمدرسة، وأذكر أننّا فى داخليّة أبو سن قد هزمناهم شرّ هزيمة فى بطولة الداخليات لكرة السلّة، إذ كنت كابتن المدرسة، لم ينساها لى الأخ والصديق المهندس أبوبكر حامد نور حتى يوم الناس هذا، لكنّهم كانوا ممتازين فى كرة القدم.
عند إنتقالنا إلى جامعة الخرطوم نشطنا فى إطار رابطة أبناء دارفور بجامعة الخرطوم، كانت وقتها الرابطة الإقليميّة الوحيدة التى تغطى إقليماً كاملاً بحاله، تعبيراً عن وحدة دارفور أهلاً وأرضاً، بخلاف الأقاليم الأخرى التى كانت بعضها تضم أكثر من أربعة روابط مختلفة تحمل أسماء المدن والمناطق الجهويّة، ولذلك كان عميد الطلاب حينذاك البروفسير التجانى حسن الأمين معجباً بذلك أيّما إعجاب فكان يدعو ممثلى كل الروابط الطلابيّة عند إقتراب العطلة الصيفيّة لإجتماع عام لتوزيع الدعم المالى للإنشطة المختلفة فى الأقاليم، وكان قبل أن يبدأ الإجتماع يدعو ممثل رابطتنا للجلوس بجانبه على المنصة موجهاً حديثه للحضور بأنّه يريدهم أن يكونوا مثل أبناء دارفور، رابطة واحدة جامعة مانعة! حتى يمكنه التعامل معهم، وبالطبع كانت رابطتنا تخرج بنصيب الأسد من الدعم المادى المطروح بجانب تذاكر السفر بالطائرة إلى دارفور لمشقة السفر إليها عن طريق المواصلات البريّة. وقد كنت عضواً فى أحدى تلك اللجان التنفيذية دورة 1978 برئاسة الأخ محمد البشير عبدالرحمن والذى حصل لاحقاً على درجة الدكتوراة فى إدارة الأعمال فى هولندة وصار من أصحاب الأعمال هناك كما حصلت زوجته المصونة على درجة الدكتوراة أيضاً، والأخ أحمد كمال الدين كسكرتير عام وهو اليوم مستشار قانونى بمملكة البحرين وأحمد كمال الدين شخصيّة متعددة المواهب فهو صحافى ومترجم وفنّان وخطّاط وصاحب لغة إنجليزيّة رفيعة حاز على المركز الأول فى إمتحان معادلة القانون (Bar) حين جلس لها بعد تخرجه كررها بعده لاحقاً أحد أبناء مدينة الفاشر هو الأخ والصديق عبدالمنعم أبو تفّة المستشار حالياً بأحدى مكاتب القانون العالميّة بالدوحة بدولة قطر، كما ضمّت اللّجنة كذلك النجيب عبدالله عيسى المحتفى به فى هذا المقال، والأخ الحاج آدم يوسف الذى حصل على الدكتوراة فى الهندسة الزراعيّة وعمل أستاذاً بكليّة الهندسة جامعة الخرطوم قبل أن يخوض غمار السياسة ليصبح واحداُ من القادة السياسيين البارزين فى عالم اليوم، والمرحوم عبدالرحمن أحمد إبرهيم المستشار القانونى ووكيل وزارة العدل الأسبق، والقانونى عبدالرحمن يعقوب إبراهيم وكان قد وصل إلى مرتبة قاضى فى الدرجة الأولى فى نيالا، والدكتور جبريل إبراهيم الخبير الإقتصادى وكان أمين الصندوق، والدكتور محمد آدم عبدالكريم نائب حزب الأمّة القومى عن دائرة الفاشر جنوب فى عهد الديمقراطيّة الثالثة وهو اليوم رجل أعمال ناجح فى الصناعات البيطريّة، والأستاذة علويّة محمود محمد خير سكرتيرة شؤون الطالبات بجانب الأخ الشفيع أحمد محمد طاهر السفير حالياً، وقد كانت المرحومة الدكتورة فاطمة عبدالرحمن الرشيد طالبة وقتها بجامعة جوبا تشارك فى إجتماعات لجنتنا التنفيذيّة حينما تكون بالخرطوم إذ لم تنشأ وقتها رابطة لأبناء دارفور بجامعة جوبا، وقد كان البروفسور محمود موسى محمود الأستاذ بكليّة البيطرة هو راعى الرابطة، كما كنا نجد إحتراماً عميقاً من مدير الجامعة البروفسير على محمد فضل، عميد كليّة الطب قبلها، نسبة لأنّ والده محمد فضل كان أول ناظر (مدير) لأول مدرسة إبتدائيّة إنشئت فى دارفور فى عام 1936 وهى مدرسة الفاشر المزدوجة الأوليّة وكان بعض كبار السن وحتى وقت كبير لا يذكرون تلك المدرسة إلاّ بمدرسة محمد فضل وما يزال المنزل الذى كان يسكن فيه جنوب سوق الخميس القديم موجوداً.
هذه هى الأجواء التى تفاعل معها الدكتور النجيب وإستوعبها تماماً فى مسيرة حياته الحافلة ومحطاتها المختلفة بدءاً من تجواله حول مدن دارفور والسودان المختلفة إذ كان والده يعمل موظفاً بالحكومة ثمّ فى محيطيه الطلابى بالفاشر والخرطوم والإجتماعى المدنى بمدينة الجنينة، تلك المدينة التى لها نكهة خاصة تفوح منها عطر التاريخ وشذى التحدى وقد أصابتنى هيبة عارمة حين زرتها لأول مرة فى منتصف السبعينات وشعوراً غامرأً حينما وقفت على حافة قصر السلطان عبدالرحمن بحرالدين (أندوكة) المقام على قمة جبل أنظر من علاها لمدينة الجنينة ووادى كجا ترقدان أمام الناظر إليهما وكأنهما لوحة قرمزيّة مرسومة، تلك صفحة ناصعة فى كتاب التاريخ وأهزوجة من هدير الملاحم مُزجت بالدماء والتضحيات تميّز مدينة الجنينة عن غيرها من سائر المدن السودانيّة الأخرى.
وبالرغم من سفره الدائم حول العالم، كحال العاملين فى المنظّمات الدوليّة، لم ينس النجيب دارفور فأهداها جهداً رائعاً متمثلاً فى كتيب صغير تناول فيه "تاريخ دارفور فى الأزهر الشريف" وقد بذل فيه جهداً مميزاً فى البحث والتمحيص فى دفاتر رواق دارفور القديمة بمكتبة جامعة الأزهر ومراجعة قوائم الطلاب المنتسبين فيها عبر العقود المختلفة جلّهم من الذين إنتقلوا إلى رحمة مولاهم منذ زمن بعيد، وقد أخبرنى بأنّه قد أتيحت له فرصة نادرة لزيارة الغرفة التى تُحفظ بداخلها ماكينة حياكة ثوب الكعبة المشرّفة بالقاهرة أيام الحكم التركى ولا شك فى أنّه قد تنسّم داخلها عبير دارفور إذ كانت محمل الكعبة وصرّة الحرمين فى كثير من الأحيان يّرسلهما سلاطين دارفور إلى القاهرة عبر درب الأربعين الرابط بين الفاشر وأسيوط فى صعيد مصر لتنضم إلى المحمل المصرى إلى أرض الحجاز، كما إهتمّ النجيب أيضاً بمسألة التعليم وخاصة تعليم البنات وله أفكار عمليّة نرجو أن تجد طريقها للتنفيذ ذات يوم وقد عقدنا العزم على ذلك إذ أنّ التعليم يعنى المستقبل، كما أنّ له إسهامات متعددة فى مجالات أخرى خارج تخصصة وتحديداً فى تنمية المجتمع والصحّة العامّة وتوفير المياة النقيّة فى السودان والدول الأفريقيّة والآسيويّة وأمريكا اللاتينيّة ساعده فى ذلك تحدثه اللغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة بطلاقة، إننّا إذ نهنئ الدكتور النجيب بهذا الإنجاز فإنّنا نهنئ أنفسنا فى المقام الأول على هذا الشرف الذي نعتبرة وساماً لكل أبناء السودان.
حينما تحدثنا عن هذا التكريم على الهاتف قال لى أنّه قلق ومهموم لأنّه يشعر بأنّ لهذا الأمر تبعات وتكاليف يجب عليه الوفاء بها فهو ليس تكريم فقط بل له ما بعده، هل كان المستر هيرزوك أعلاه قد عنى ذلك؟
لقد إلتقيت به بعد إفتراقنا لمدة طويلة طالت العقدين من الزمان فى مدينة ميونيخ بألمانيا عام 2006، وكنا قد ظللنا نتحدث قبلها على الهاتف بصورة راتبة وفى إحدى المرات تحدثنا لمدة أربع ساعات متواصلة عام 2004 عندما كنت فى أمريكا هى الأطول فى حياتنا، ولمّا إلتقينا فى ميونيخ تعانقنا طويلاً وتحدثنا وإستعدنا الذكريات ليومين كاملين وتألمنا لما يمر به إقليمنا والوطن أجمع، وقبل أن نفترق رمانى بعبارة صادمة من ذلك النوع الذى لا ينمحى من الذاكرة ما تزال ترن وبشدة فى خاطرى (يا حسين، ما تبقى لنا من عمر وهبناه لدارفور!)، هو كذلك، متعه الله بالصحة والعافية ووفقه إلى المزيد من التوفيق والتقدم العلمى، وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.
(2) الأستاذة صفاء العاقب آدم: جائزة الحريّة وحقوق الإنسان
أيها العائد إن عدت إلى درجيل يوماً
ورأيت الخيل يحجلن كما كُن على عهد (دروتى)
فيثرن الأفق نقعاً
والصبايا يتبارين بنسج (الجرتق) المضفور فى صدر الخيول
ويرصعن جبين الخيل بالودع المتوأم
ويخضبن الغرر
ويلمعن الدروع
والتهاليل كما المهدى يدنو من (قدير)
أو (كتاج الدين) فى يوم (دروتى)
أو (كتيراب) على شاطئ (شندى)
أو كما (رمضان) فى (سيلى)
كما (كررى) كما (شيكان) أو يوم (سواكن)
عندها، يقتحم القلب الحماس
ثم إذ يغلى النحاس
(الشاعر عالم عباس فى رائعته ملحمة "سوميت بنات درجيل")
ومن أرحام هاتين العذارى والصبايا اليافعات من بنات درجيل وأصلاب الصناديد الرجال من فرسان دروتى جاءت صفاء العاقب آدم كالريح المرسلة تزين هامتها تاجاً مرصّعاً بجواهر التاريخ وألماسات البطولات وتجر من خلفها إرثاً من الصمود والتصميم وتحدى الصعاب والصبر على الشدائد صبغت تاريخ منطقتها التليدة، لقد ولدت صفاء وتربت فى مدينة الجنينة الباسلة وعرفت مجتمعها وتفهمت مشاكله وحاجته الماسّة للتنميّة والتطور خاصة قطاع النساء والأطفال، وعندما إلتحقت بجامعة الخرطوم كلية الإقتصاد كانت واعية تماماً بدورها القادم وما يجب عليها أن تقدمه لأهلها من وسائل ومداخل عمليّة للتنميّة، ولذلك فعند تخرجها فى عام 1986 وبدلاً من أن تسلك دروب الوظائف والنمطيّة التقليديّة إختارت الدروب الوعرة التى تؤدى إلى تحقيق الأهداف بصورة أكثر عمليّة وتستحدث الوسائل اللازمة لزيادة فاعليّتها أوان الإنجاز، ففضلّت الالتحاق بالعمل في منظمات المجتمع المدنى، ومجال الإغاثة الانسانيّة بصورة خاصة بدلا عن الوظيفة العامة والتي كانت في متناول يدها، ونجحت في عملها وإكتسبت خبرات هائلة وعديدة أهلتها لتكوين منظمة طوعيّة غير ربحيّة بإسم (جمعية تنميّة المجتمع) عملت من خلالها علي تسليط الاضواء علي المنسيين في الريف ووسط النساء ولم تحصر نفسها فى دارفور فقط بل كانت بداياتها فى السودان الواسع، فى الشرق والجزيرة وضواحى الخرطوم وأم درمان، ولذلك ظلّت فى حراك دائم داخل وخارج السودان فنالت إعتراف المجتمع الدولى والمنظّمات العالميّة المعنيّة بمجالات أنشطتها المتعددة ففتحت لها أبوابها وصارت مثال للمرأة الأفريقيّة الساعيّة للتغيير والنهضة من أجل مجتمعها وإستحقت التكريم على ذلك فى أكثر من مناسبة وموقع.
لقد منحت (مؤسسة الحريّة وحقوق الإنسان) الألمانيّة، والتى يوجد مقرها فى العاصمة السويسريّة بيرن، جائزة الحريّة وحقوق الإنسان للعام 2009 للسودانية صفاء العاقب عرفانا وتشجيعا لجهودها في مجالات السلام وتشجيع المرأة وتسلمت الجائزة في بيرن فى يوم السبت 7 نوفمبر 2009، لقد جاء فى ديباجة الجائزة والمذيّلة بتوقيع مجلس إدارة المؤسسة الآتى: (يشرفنا منح صفاء العاقب آدم جائزة الحريّة وحقوق الإنسان، وبهذه الجائزة التى تُمنح كل سنتين فإنّنا نكرم جهود الأستاذة صفاء المتواصلة وطاقتها العظيمة ونضالها الدؤوب والمشرق لتحقيق السلام والحريّة وتعزيز حقوق الإنسان بالسودان، لقد أولت الأستاذة صفاء إهتماماً خاصاً للحاجيات الفعليّة للنساء والأطفال، ونعتبرها واحدة من الناشطات البارزات عند النظر إلى الأوضاع الصعبة فى إقليم دارفور).
تمت مراسم الإحتفال فى مبنى مجلس مدينة بيرن الفخيم وبحضور مئة وخمسين شخصيّة منهم سودانيون من ضمنهم دكتور النجيب وفور إستلامها الجائزة والتى تبلغ قيمتها المادية نحو عشرة ألاف فرنك سويسرى (حوالى عشرة ألاف دولار) قررت الأستاذة صفاء تخصيصها لتأسيس منبر ينطلق من مدينة بيرن يعنى بقضايا السلام، ودعت جميع الحضور الإنخراط في هذا المشروع.
(الأستاذة صفاء العاقب تلقى كلمتها فى إحتفاليّة تسليمها جائزة الحريّة وحقوق الإنسان فى العاصمة السويسريّة بيرن، وفى الصورة الثانيّة تظهر مع السيّدة روث كاقيا رئيسة وحدة التعليم بالبنك الدولى والرئيسة السابقة لهيئة المستشارين الإقتصاديين للرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون فى لقاء بواشنطن)
لقد أنشئ مؤسسة الحريّة وحقوق الإنسان بمبادرة من السيدة الألمانيّة شارلوتى جاكوبى هيرتق فى بيرن فى العام 1972، وتهدف إلى تشجيع ومناصرة قضايا الحريّة وحقوق الإنسان حول العالم وخصصت جائزة رمزيّة تمنح كل عامين لشخصيّة أو مؤسسة يُشهد لها بالإسهام الملحوظ فى دعم الحريات وحقوق الإنسان، وقد نالت الجائزة فى تاريخها 19 شخصية منهم على سبيل المثال البروفيسور جان هيرش السويسرى عام 73، والبروفيسور هيلموت تيلكا الألمانى عام 79، وبطرس بطرس غالى من مصر عام 83، والدالى لاما، التبت، عام 1988.
وقد سبق لصفاء ترشيحها كواحدة ضمن 100 إمرأة فى العالم رُشحن جماعياً عام 2005 لنيل جائزة نوبل للسلام.
لقد إشتهرت صفاء بأعمالها وأنشطتها فى مجالات حقوق الإنسان والسلام والمجتمع والمرأة والطفولة وتشغل اليوم منصب السكرتير العام فى جمعية تنميّة المجتمع (سيدا) الطوعيّة غير الحكوميّة ومقرها فى الخرطوم، ومع إندلاع الأزمة فى دارفور إنخرطت من خلال جمعيتها فى القيام بدور تنسيقى وتعاونى مع نشطاء حقوق الإنسان الوطنيّة والقانونيّة ومجموعات النساء والسياسيين فى داخل السودان من أجل الوصول إلى حل سلمى لمشكلة دارفور عبر الحوار والمفاوضات ونجحت والمجموعة التى حولها فى خلق شبكة تضامنيّة مع المنظمات الوطنيّة والأجنبيّة فى درء وتخفيف آثار الصراع لكثير من الشرائح المتأثرة كما شاركت فى العديد من المؤتمرات والسمنارات الدوليّة، وكانت على رأس مجموعة من النساء من قيادات المجتمع المدني اللاتي شاركن في الجولة السابعة من مفاوضات سلام دارفور في أبوجا بنيجيريا، وهي تشارك الآن وبنشاط ضمن مجموعة المجتمع المدنى فى مفاوضات الدوحة بقطر.
وهي تتمتع كذلك بعضويّة العديد من المنظّمات الإنسانيّة نذكر منها: شبكة تطوير المرأة السودانيّة من أجل السلام التنميّة، مجموعة تضامن النساء السودانيات، مبادرة المجتمع المدني لمنتدى السلام، شبكة المرأة في القانون والتنميّة، كما إنّها عضو مجلس إدارة مركز دارفور للإغاثة والتوثيق ومقره في جنيف.
لقد إتصلت بها هاتفياً لتهنئتها على هذا التكريم الفريد ووجدتها بسيطة كعادتها لم تطربها الفوز بل كما قالت إنّ الجائزة قد وضعت المزيد من المسؤوليات على عاتقها فهى ليست خاتمة المطاف (مثل شعور المستر هيرزوك أعلاه) ولذلك فإنّها بصدد إنشاء مركز متخصص فى بناء القدرات للنساء وقيادات المجتمع المدنى فقلت لها سجّلى إسمى على رأس قائمة المساهمين والمشاركين فى هذا المشروع.
إنّه تكريم صادف أهله وهو تكريم لكل نشطاء وناشطات البحث عن الحريّة ودعم حقوق الإنسان فى دارفور والسودان، تمثلّت فى شخص صفاء العاقب كتحية لها ولغيرها فى هذا المجال الصعب والذى يحتاج لهمم تناطح قمم الجبال، كما إنّه تكريم بمثابة إعتراف بالجميل والفضل من مؤسسة عالميّة مرموقة أيقنت من نبل وصدق إنجازات صفاء فرفعتها إلى مقام إنجازات بطرس غالى الأمين الأسبق للأمم المتحدة والأمين الحالى للمنظّمة الفرانكفونيّة و(الشيخ) الدالى لاما الذى ما زال يبحث عن الحريّة وحقوق الإنسان لشعبه من الهيمنة الصينيّة.
تقول صفاء: نحن النساء قبيلة واحدة ... وليس لنا إنتماء إلا لقبيلة النساء، كما تؤكد على إنّ النساء لسن بائسات أو عديمات حيلة بل هنّ فى حاجة فقط إلى الدعم والتشجيع لتفجير طاقاتهنّ، وفى إطار ذلك فهي تواصل عطاءها من أجل التوصل لحل عادل ومستدام لكل أزمات السودان.
مبروك لصفاء والتحيّة لها ولكل ميارم بلادى مع إعتذارى لعدم التنويه لهذا الحدث فى وقته ولكن كما يقولون أن تأتى متأخراً خير من ألاّ تأتى.
ثمّ ماذا بعد:
فى نهايّة ثمانينات القرن الماضى نشرت مقالاً بعنوان "ثمّ ماذا بعد الدكتوراة؟ّ" فى مجلة (الأمل) التى كانت تصدرها رابطة الشباب والطلاّب العرب بأمريكا الشماليّة أشرت فيه إلى أنّ الحصول على درجة الدكتوراة ليست نهايّة المطاف بل العكس بدايّة للعمل الجاد فى البحث والتمحيص والتقصى العلمى الرصين وإلاّ فإنّ صاحبه سيصاب بفقر الدم العلمى وموت الدماغ المعرفى ويصير كل الجهد الذى أنفقه من أزهر سنوات عمره عبارة عن ورقة مزخرفة معلقة على الحائط أو حرف "د" يطرز مقدمة إسمه، وهذا ما يعنى أنّ النجاح فى أى مستوىً كان يجب أن يكون مقدمة لنجاحات أخرى، وفى مقالنا هذا فإنّ الأخ النجيب والأخت صفاء يشعران بثقل المسؤوليّة وأنّ ما حققاه من إنجازات يجب أن يكون لها ما بعدها، كما يجب أن يكون ذلك أيضاً دافعاً لكل الشباب السودانى، وشباب دارفور بالأخص، داخل الوطن وخارجه مراعاة الإبداع فى العمل والتميّز فى الأداء والإتقان فى الإنجاز وبارك الله فى عبد عمل عملاً فأتقنه ولا بارك الله فى علم لم ينفع أهله ولا فى متعلم لم ينتفع الناس بعلمه (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) (صدق الله العظيم).
