حول ورشة أيديا الرمضانية الأولى: فروقات الأحزاب ومناهجها … بقلم: رباح الصادق

 


 

رباح الصادق
18 September, 2010

 



بسم الله الرحمن الرحيم
حول ورشة أيديا الرمضانية الأولى
فروقات الأحزاب ومناهجها (1-2)
نظم المعهد الدولي للديمقراطية والانتخابات (أيديا) بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في رمضان الخير المنصرم ورشتين تدريبيتين للأحزاب السياسية، بدأت الأحداث نشر سلسلة بقلمنا تشكل رصدا للدورة التدريبية الأولى التي انعقدت في أواخر أغسطس الماضي،  وقد حضرت تلك الورشة كمقررة صامتة إلا عن تسجيل آراء الآخرين، بينما تناولت الورشة والمشاركون فيها آراء ومعلومات لدينا فيها نظرات وحولها أوجاع، ونود أن نخلع هنا قبعة المقررة التي تسجل كل ما يقال بدون أن تنبس ببنت الشفة، ونلبس قبعة صاحبة الرأي التي بحقها أن تعلق وأن ترد بعضا مما قيل أو تدحضه.
كانت الدورة التدريبية بعنوان "صياغة السياسات والديمقراطية الداخلية وتمويل الأحزاب السياسية". وفي الحقيقة فقد رأينا الكتابة حول تلك الدورة لأنها بنظرنا تلقي الضوء على قضايا غاية في الأهمية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأنها دليل على نوع الأمراض التي تسربت لكادر الأحزاب السياسية- إلا من رحم ربي- وقد ظهرت هذه الحقيقة بجلاء موجع، ونود أن نداول مدلولات ذلك، ونبحث سويا عن مخارج سالكة.
أول الملاحظات حول النقاش الدائر في الورشة هو الهزيمة النفسية الداخلية لكادر الأحزاب السياسية وكفرانهم عموما بالعمل الحزبي، وهذا ظهر في كل مرة كان الميسر (الأردني فلسطيني الأصل الأستاذ عماد يوسف) يسألهم عن الحال في السودان بعد أن يذكر الوضع المثالي أو في دول العالم فيما يتعلق بالموضوع المناقش. مثلا حينما تحدث عن صياغة السياسات والبرامج الحزبية وضرورة أن تصاغ بشكل تشاركي وإبداعي يستجيب لحاجات الواقع سألهم: ما هي درجة الإبداعية في صياغة السياسات والبرامج للأحزاب في السودان، فتلقى ردا ساخرا بأنها: زيرو، والمشاركون، الذين هم بالأصل كادر في أحزاب سياسية غطوا في ضحك منتشٍ! وحينما سأل من أين تأتي الأفكار الجديدة؟ تلقى أيضا ردا سريعا: بأن القائد وحده الذي من حقه أن يأتي بالأفكار! وحينما سأل كيف تتخذ القرارات كان الرد شبيها أن القرارات إما يتخذها القائد أو يوحي بها لخاصته فتأتي بها المؤسسة وفق هواه، وغير ذلك من الأفكار! والغريب، حينما كان كادر بعض الأحزاب ينفي أن يكون الحال لديهم مثل ذاك، كانت الهجمة تأتي من المشاركين أنفسهم أن هذا ليس إلا تجميلا للقبيح!
بالطبع فإن الواقع الحزبي ليس في السودان فحسب بل مثلما كرر الميسر الأستاذ عماد يوسف فإن الواقع الحزبي في جميع الدنيا يواجه تحديات جمة، والأحزاب تفقد مصداقيتها وينفض من حولها الناس في الديمقراطيات الراسخة وتواجه مخاطر حقيقية في الديمقراطيات الناشئة، أما في الديكتاتوريات فهي تضرس بأنياب وتوطأ بمنسم! ولكن، كحال الدنيا وحال أصابع اليد الواحدة، فإنه لا يوجد شيء كشيء، ولا حزب كحزب. وهناك داخل الأحزاب من يرضى بالحال المائل أو قد يكون حائلا دون إصلاحه، وهناك كذلك من ينتبه لضرورة الإصلاح والتطوير ويساعدها، وهناك من يتخذ موقفا بين بين فلا هو مع الإصلاح ولا هو ضده ولكنه يلف عمته أو تلفح ثوبها وتذهب لحضور الاجتماعات كعمل عضلي لا عقل فيه ولا موقف معروف! وهناك أحزاب جعلت للتطوير آليات، ومنها ما وضعت الآليات بل استخدمت السلطة وصولجانها لتوقف المد باتجاه الدقرطة كما حدث داخل المؤتمر الوطني فيما عرف بإجراءات رمضان ثم نفرة صفر، حيث حلت الأمانة العامة بل أعلنت حالة الطوارئ وجمد العمل بالدستور. إذن هنالك فرق، وغض الطرف عن مثل تلك الفروقات معناها أولا ركم الجميع في سلة واحدة فلا يقال لمن اجتهد للتطوير ولو مقدار ذراع أحسنت ولا لمن اجتهد للتعويق ولو مقدار باع أسئت، وهذا ما يكافئ المسيئين: فالموت وسط الجماعة عرس! ويسيء للمحسنين، أن ركموا ظلما معهم! ومعناها ثانيا أنه لا أمل في التطوير، إذ طالما مع كل المجهودات التي يبذلها البعض لا تكون هناك أية فروقات ولا تقدم، فلا داعي لتلك المجهودات أصلا، وهذا تثبيط عظيم للهمم. صحيح إننا لسنا معنيين بالنتيجة بل بالمنهج كما تؤكد الآية الكريمة (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، ولكن عدم مراعاة الفروق الظاهرة تزيد الضالين ضلالا وتصرف المحسنين عن إحسانهم بمنطق: الغلبك سدو وسّع قدو، وتنقد الرهيفة انشاء الله ما تتلتّق! إذا وجد فرق يجب أن يظهر ويتم التركيز عليه للتأكيد أن التطوير من داخل بيئتنا ممكن. قال الدكتور عدلان الحاردلو في الورشة حول الديمقراطية الداخلية للأحزاب السودانية: (الديمقراطية غايبة عن الأحزاب، هناك أحزاب تحاول في ظروف صعبة أن تمارس ديمقراطية وأخرى لا تريد للديمقراطية أن تسلك وتريد قفل باب الديمقراطية أصلا).. إن "فرقة" أو مساحة التطوّر تكمن في رسم الخطوط الداخلية بين تلك التي تحاول ممارسة الديمقراطية رغم صعوبة الظروف، وتلك التي تحاول أن تسد أمامها المنافذ.. عبر الدراسة، عبر التمحيص، لا بد من إظهار هذه الخطوط وإلا لا فائدة!
وحتى إذا لم توجد فروقات ظاهرة في النتيجة النهائية، علينا الانتباه لما يدور داخل دهاليز تلك الأحزاب لمعرفة المعيقات الحقيقية، ولفرز أنواعها: تلك الآتية من البيئة السياسية العامة، أو من ظروف ذاتية داخل الحزب بسبب تكوينه أو تاريخه أو طبيعة الشرائح المنتمية إليه، أو من وجود قيادات أو متنفذين يعملون على سد منافذ التطوير، أو من وجود نصوص دستورية أو لائحية تعيق أو تساعد، وبالجملة ينبغي أن نتعرف على (المنهج) داخل كل الحزب ودراسته بشكل دقيق ومنفصل عن فكرة: كل الأحزاب، وكل القيادات، لأن هناك فرق في الظروف الداخلية وفي المناهج المتبعة.
وهذه المسألة: أي أهمية المنهج المتبع داخل الأحزاب أكثر من النتيجة مسألة برأينا هامة لدرجة بعيدة، وإذا لم يتم الانتباه لها، معناها أننا سنواصل في النهج الحالي الذي يجعل هزيمة مسألة الدقرطة حتما محتوما.
ولمناقشة مسألة المنهج هذه أرجع القارئ الكريم والقارئة الكريمة  لورقة كتبها ثلاثة باحثون (اثنان منهما من جامعة تكساس والثالث رئيس مجلس الخدمة المدنية بالحكومة الصربية) وهم  رودني اراكوفتش ودراقولجب كارفان وموايمان شيرمان Erakovich, Rodney; Karvan, Dragoljub & Mwyman Sherman  حول (الفساد أو الأخلاق) اهتمت بمحاربة الفساد المالي والإداري داخل المؤسسات عبر التدريب الأخلاقي..  باعتبار الأخلاق مربط الفرس لكبح جماح الفساد، وأن التحكم في الفساد يحتاج لأخلاقيات سياسية لإلهام المجتمع والتأثير على المؤسسات لتحقيق التكامل والمحاسبية. الثقافة الإدارية الناجعة يراها الباحثون ترتبط بالضرورة بالمنهج  procedure وليس العميل client أو الأداءperformance  أو النتائج.
وسؤالنا المحوري هو: كيف يتم تحويل الانتباه للمنهج أكثر من العميل أو النتيجة في مجتمع سياسي شخصاني واستقطابي لا يريد الاعتراف بالحق لأهله أو بالباطل لأهله لئلا ينظر لذلك على أنه تزكية سياسية لحزب فلان أو طعن في حزب علان سيستفيد منه منافسه؟ نحن لا نستطيع فصل الأحزاب عن قياداتها الحالية والتاريخية، ولذلك نظل دائما نقرأ التاريخ بضوء من الحاضر، ونقرأ الحاضر بضوء من التاريخ، ونعجز عن نسيان الأسماء ونحن نتحدث عن القضايا، وهذه مشكلة! وحينما نغرق هكذا في التاريخ وفي الشخصنة معناها أننا ننسى المستقبل أو لا نضع له أي اعتبار!
كلما جلسنا نناقش أمرا قفز للتو مصطلح "السيدين" ليقول إن كل ما في حزب الأمة هو تكرار لما في الاتحادي الديمقراطي والعكس صحيح! ومصطلح "الأحزاب العقائدية" ليقول إن كل ما في المؤتمر الوطني أو الجبهة الإسلامية القومية هو تكرار لما كان في الحزب الشيوعي السوداني.. ويومها في تلك الدورة التدريبية قال الأستاذ ناجي دهب ما ملخصه: (إن حزبه (المؤتمر الشعبي) كان لديه برنامج سياسي بعيد المدى وبرنامج انتخابي ناجح وأفلح في التحول من حزب صفوي لحركى لشعبي وتمددت الحركة حتى أنها في 1986م هزت الواقع الإقليمي كله- لكن الاستعجال للسلطة أطاح بها وهذه إشكالية في أي تنظيم لديه جناح عسكري. في السجن كنا مع قياداتنا السياسية الشيخ حسن الترابي والسنوسي وعلي الحاج وقلنا لهم لماذا استعجلتم للانقلاب وبعد النقاش قالوا لنا لقد اكتشفنا أن التنظيم العسكري شوش على القيادة السياسية. هذا خطأ نحن ندفع ثمنه الآن والبلد تدفع ثمنه.. مسألة تدخل العسكر في السلطة شكلناها نحن والشيوعيون، فقد تأثرنا بهم وكان بعض قادتنا أمثال ياسين عمر الإمام قد جاؤونا من الحزب الشيوعي. كذلك حزب الأمة لجأ لتسليم السلطة للعسكر).  فدهب بعد الاعتراف بالخطأ بادر باللم والركم، فأضاف الشيوعيين باعتبارهم مصدر الخطل لديهم، ثم حزب الأمة. مثل هذا اللم والركم يظلم الحقيقة، ويظلم المستقبل! وقد قام به من قبل الأستاذ علي عثمان محمد طه في ندوة العميد في عام 2005م وهو يقدم رؤية المؤتمر الوطني في قضايا البلاد الأساسية، وقال معلقا حول قيامهم بالانقلاب: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر! وقد عقبنا يومها على ذلك التعليق باعتباره من أبرز أبواب الفساد في أي مجتمع أن تقول: كلنا مخطئون فهذا تبرير للخطأ وفتح لبابه مشرعا، ولو كان الجميع أصحاب خطايا فهم ليسوا كمومس! ونعتبر هذه الروح – من كان منكم بلا خطيئة- من أبرز أبواب الجحيم الاجتماعي التي فتحتها تلك الآية الإنجيلية على أصحاب الإنجيل ويريدون فتحها علينا! إذ أنه -خاصة لو تعلق الأمر بالأخلاق العامة لا الخاصة- ففي الأخلاق الخاصة نحن مأمورون بالستر ونحب ألا تشيع الفاحشة بذكره، ولكن في الأخلاق العامة فإن أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر، ونحن مأمورون بأن نأخذ على يد الظالم فنؤطره على الحق أطرا.. فلا ندافع عن الخطايا العامة ولا نترك من يعتدي على حدود الله هكذا لأجل أننا أصحاب خطايا!
الحقيقة هي أن الأمة ليس كالاتحادي، ولا السيد كالسيد، ولكل ظروفه الخاصة به، فمن سيد يسد منافذ الرأي في حزبه ويظنه تمردا محضا يستحق الكبت، ومن سيد يرحب بالنقد وبالرأي الآخر أكثر من ترحيبه بالإطراء ويستمطر الرؤى المغايرة استمطارا ويقول هي أفضل وسيلة للبناء عرفها الإنسان. والحزب الشيوعي ليس كالجبهة الإسلامية القومية في تكويناتهما ولا في نهجهما اللاحق، ولو كانت بينهما تأثرات، ولا هما سويا في الانقلابات. فالشيوعي ساند انقلاب مايو الذي قام به الضباط الأحرار المتأثرون بالناصرية ولكنه لم يقم بالانقلاب بنفسه، وانقلاب الجبهة كان من صنع التنظيم من الألف للياء، أما حزب الأمة فقد عارض الانقلاب داخل مكتبه السياسي وقام به رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل خرقا لقرار المؤسسة واعتبر رئيس الحزب السيد الصديق المهدي ذلك الانقلاب تحديا له فوقف بصلابة لائما والده السيد عبد الرحمن المهدي ربما للمرة الوحيدة في حياته على إعلان تأييد الانقلاب وقاد الجبهة المتحدة لمعارضته منذ اليوم الأول، وقائد الانقلاب الفريق إبراهيم عبود قلب للسيد عبد الله خليل ظهر المجن حال التسلم وأنزله منزل المعتقلات والسجون لما صدح بالرأي المعارض لاحقا، وكان 13 من 15 من عضوية إدارة الحزب ضد الانقلاب مبدئيا، والانقلاب خلا من أي توزير أو استناد على حزب الأمة أو برنامجه (لا كما حدث بين الشيوعي ومايو مثلا) بل كان في وزارته من الحزبيين أكثر الناس عداء لحزب الأمة (السيد أحمد خير) واتجه خاصة بعد ما سمي بالحركة التصحيحية بعد أقل من أربعة شهور من قيامه لمواجهة حزب الأمة بشكل عدائي سافر والتنكيل بقياداته، فكيف يقال قام بالانقلاب حزب الأمة؟ ثم هل كان أي انقلاب كالانقلاب الذي عنه ينافحون: كذبا باسم قيادة القوات المسلحة، وتضليلا بحادثة القصر والسجن المعروفة؟ وكان الانقلاب جبهة في التخطيط والتنفيذ والبرنامج المنفذ والوزراء والرموز ولا زال بعد عقدين من الزمان.. لا.. ليسوا سواء!
لتقف حالة: من كان منكم بلا خطيئة هذه.. لا بد من تكوين هيئة الحقيقة والمصارحة لتتعرض لكافة الانتهاكات منذ الاستقلال، ولتعرف الحقائق كاملة في كل ما ألم بالسودان من كبوات أو إشراقات لو حدثت، وليتسلم كل حزب وكل قائد طائره في عنقه، وليعرف المحسن ليقال له أحسنت، والمسيء ليقال له أسئت، ولو كان كل سيحتمل وزرا هنا وتثبت له حسنة هناك، فإنه قطعا لن يكون وارد جهنم، كالماكث فيها، ولا الشارب شربة من عين الخطيئة، كالجارع جرعا والذين هم في غيهم يعمهون!
نواصل بإذن الله
وليبق ما بيننا
نشرت بصحيفة الأحداث في يوم الثلاثاء 14/9/2010م
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

 

آراء