قراءة في أحداث واشنطن ونيويورك … بقلم: رباح الصادق
بسم الله الرحمن الرحيم
مناظر الجمعة الأولى (1-5)
ما زالت الأمور تتأزم بين الشريكين وتزداد، وفي كل مرة تصل تلك الأمور إلى عنق الزجاجة تحدث وساطات أكثرها أمريكية لكسر عنق الزجاجة وجعل الأوضاع في السودان تتنفس، ولكنها تكون مثل هبوط غليان "الحلة" في النار حينما يسوطها سائط، لا يفتأ أن يعود أشد هيجانا إذا ابتعدت تلك السواطة! وفي معرض هذه السواطة التهديئية ظاهرا عديمة الجدوى باطنا يأتي مؤتمر نيويورك يوم الجمعة أول أمس 24/9/2010م والذي دعت إليه الإدارة الأمريكية ليعقد في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وذلك ليناقش "سير تنفيذ اتفاق السلام الشامل والقضايا العالقة وترتيبات الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب، وتنفيذ التحكيم الدولي بشأن أبيي واستفتاء مواطني المنطقة"، وقد وصفه القيادي والمرشح الرئاسي بالحركة الشعبية (الأستاذ ياسر عرمان) بأنه مجرد منبر علاقات عامة، وقبله قال نفس الكلام رئيس حزب الأمة الإمام الصادق المهدي، ولكن عولت عليه الإدارة الأمريكية كثيرا، نداول فيما بيننا اليوم بعض (المناظر) لفيلم المؤتمر، على أن نواصل في المناظر ثم الفيلم نفسه لاحقا بإذن الله.
شكل هذه المناظر خطاب الأستاذ علي عثمان محمد طه رئيس وفد الحكومة للإدارة الأمريكية بيوم الجمعة 17/9، وخطاب الرئيس سلفا كير أمام مؤتمر الكوكس الأسود بواشنطن في ذات يوم الجمعة 17/9، فقد كانت أحداث واشنطن ونيويورك كلها أحداث جمع. ونحن معنيون اليوم بالجمعة الأولى.
نقدم أولا ببعض الملاحظات، الملاحظة الأولى أن الشريكين ذهبا لنيويورك ممتطيان أعلى ما في خيلهما. قاد وفد الحركة الشعبية السيد سلفا كير ميارديت رئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية، وقاد وفد المؤتمر الوطني الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب الرئيس، وهو الرجل الثاني بعد الرئيس في المؤتمر الوطني، وكلنا نعرف أن الرئيس لا يستطيع الذهاب لنيويورك فهو الحصان الأعلى الذي لا يمكن امتطاؤه في 111 دولة في العالم بسبب قصة الاتهام الموجه من المحكمة الجنائية الدولية إلى سيادته حول الجرائم في دارفور، ولا تستطيع الأمم المتحدة استقباله البتة، فبالتالي كان أعلى حصان بعده هو السيد علي عثمان! والسيد علي عثمان علاوة على ذلك له لدى المجتمع الدولي صليل ورنين، فهو الذي كان وراء عقد اتفاقية السلام ببنودها التي لم يرض عنها أصحابه في الداخل وقام ضدها منبر السلام العادل، وكرر زميله الدكتور غازي العتباني العتب على بعض بنود ذاك الاتفاق. وبهذا السبب كان هناك خلاف حول من يرأس وفد السودان داخل الأمم المتحدة. الشيء الطبيعي أن يكون النائب مرؤوسا للنائب الأول، ولكن المؤتمر الوطني أصر أن يكون الرئيس هو السيد علي عثمان، وفي هذا خرق لكل الأصول والبروتوكولات وللدستور نفسه الذي يقول بتراتبية واضحة ليس فيها شك ولا قولان!
الملاحظة الثانية هي أن وفدي الحكومة والحركة ذهبا هناك ليتفقان ضمن (السواطة للتهدئة)، ولكن يبدو أن إدخال "المفراكة" الأمريكية، داخل "التُكُل" الأمريكي، في الحلة السودانية هذه المرة كان مقبّلا للهيجان أكثر منه قائما بغرض التهدئة المقصود. فما أن حلّ الوفدان "أرض الأحلام" حتى طفق كل واحد منهما يكسب ود واشنطن ويلقي بالوحل على صاحبه!
في الجمعة الأولى خاطب الرئيس سلفا كير مؤتمر الكوكس الأسود السنوي والذي ناقش "تحقيق أهداف الألفية للتنمية، والعدالة والمساءلة ودور السياسة الأمريكية"، أُعلن عن أن المتحدث الرئيسي بالمؤتمر هو الرئيس سلفا، مع كلمات لكل من: جونيتا كول مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو اس ايد) ؛ وريد كريمر ، المدير التنفيذي لأفريكا دوت كوم الموقع الشهير المختص بأخبار أفريقيا، ولويس مورينو أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية(!!) فالسيد سلفا بتلك الجمعة، وبغض النظر عما قال قد أجج لهبا مستعرا بالمشاركة في منبر عدائي لحكومة السيد البشير إذ وقف في نفس الدكة يتحدث مع أوكامبو! لا تحتاج قارئي الكريم وقارئتي لسوق ما قيل هناك أليس كذلك؟ ولم يتحرج السيد سلفا كذلك أن يبدأ خطابه بشكر صديقه وأخيه العزيز (دونالد باين) على دعوته للحديث في المؤتمر. ودونالد باين للقراء الكرام يحصل على درجة امتياز بجدارة (A+) في عامي 2006، و2007 بحسب تقديرات موقع (دارفور سكور) أي تقييم الأداء إزاء الموقف من قضية دارفور. وقد حصل على هذه الدرجة العالية لأنه كان ضمن الوفد الكونغرسي الزائر لدارفور، ورأس كوكس السودان بالاشتراك، ولأنه لعب دورا في إصدار قرار مجلس النواب القاضي بحث الصين على استخدام نفوذها الاقتصادي على حكومة السودان لوقف الإبادة والعنف في دارفور. كما أنه وقع على الخطاب المرسل للرئيس بوش سنة 2007م والذي حثه على العمل مع الاتحاد الأفريقي لمنع رئاسة السيد عمر البشير لدورة الاتحاد الأفريقي ذلك العام! لم ينس السيد سلفا كير أن يحيي السيد باين ويشيد بقيادته وتضامنه وشجاعته غير العادية فيما يخص السودان! ذاكرا زيارة باين لنمولي لهم في الحركة الشعبية لتحرير السودان في العام 1993م –وذلك أوان حرب وصدام بين الشريكين.
وبغض النظر عن هذه المظاهر العدائية التي تؤجج ما بين الشريكين، كان مضمون حديث السيد سلفا كذلك. عدد السيد سلفا الذين ناصروهم داخل الإدارة الأمريكية –وهم في الغالب أبالسة بنظر نظام الإنقاذ- وكيف قادوا الكونغرس الأمريكي لإصدار قرارات دعمت الحركة الشعبية في الماضي منها القرار عام 1993م بالعمل على إعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير.
كلام السيد سلفا كير كان واضحا وبلا مواربة. لقد شكر الأمريكان بإداراتهم المتعاقبة على الدور فوق المعتاد extraordinary الذي لعبوه من أجل عقد اتفاقية السلام الشامل، وعبّر عن عرفانه للاهتمام الكبير لإدارة الرئيس أوباما بالقضية السودانية ولحضور الرئيس أوباما شخصيا لاجتماع الجمعة 24/9. قال السيد سلفا كير ما ملخصه:
- إن شركاءهم في الشمال تراخوا في العمل لجعل الوحدة خيارا واقعيا.
- في الاستفتاء القادم في يناير 2011م سيصوت الجنوبيون للانفصال بغالبية ساحقة.
- الشركاء الشماليون الآن يماطلون ويضعون العراقل أمام الاستفتاءين (في الجنوب وأبيي) وعلى المجتمع الدولي أن يشير بوضوح ولجميع الأطراف بعدم مقبولية أي تعطيل أو تأخير للاستفتاءين.
- سنقوم بالتدابير التي تضمن عدالة ونزاهة الاستفتاء ولكن ينبغي أن يكون واضحا أن السودان ليس سويسرا!
- توقيت الاستفتاء مقدس. تاريخنا ومعاناتنا وتوقعاتنا ووعود القادة وضمانات المجتمع الدولي كلها لا تخلق مساحة للتراجع عن الزمان المضروب. المطلوب قيادة الولايات المتحدة وحلفائها في ضمان ذلك، والالتزام بنتائج الاستفتاء.
- بدأنا في نقاش قضايا ما بعد الاستفتاء، وسنسعى لعلاقات جوار حسنة مع دولة الشمال. بالنسبة للنفط يبدو أن الجميع يظن أن علينا أن نعطي جزءا كبيرا من نفطنا للشمال ولكن هذا يناقض العدالة. كان الشمال يشاركنا نفط الجنوب ويستأثر وحده بالنفط في الشمال، وكان يجب الوصول لمعادلة مرضية بحيث ينتفع الناس بالتساوي من قطاع النفط. والفرصة الآن متاحة للوصول للتعاون الاقتصادي بين بلدينا مستقبليا وقد اتفقنا مع المؤتمر الوطني على إجراء مراجعة شاملة لقطاع النفط مع إتاحة الشفافية.
- القضية الثانية هي المواطنة وسلامة وحقوق الجنوبيين في الشمال، والشماليين في الجنوب، والجماعات المترحلة عبر الحدود، وسألتزم وحكومتي بتوفير الأمن وسيادة القانون والحقوق والحريات للجميع، ونطالب بنفس هذا الالتزام من الشمال.
- لا بد أن يلعب المجتمع الدولي دورا في المفاوضات القادمة وبخاصة الولايات المتحدة، وإلا لن يكتب لها النجاح. فنحن بحاجة ماسة لبلدكم وللعالم، لتهتموا بشكل وثيق وتضغطوا على الطرفين ليحافظا على التزاماتهما.
- مطلوب اهتمام خاص من الولايات المتحدة بقضية أبيي بتنفيذ قرار التحكيم. فالخرطوم زعمت أنها قبلت به ولكنها تسوّف، مما سيشعل فتيل الحرب. وكما لعبت أمريكا دور القابلة من قبل في بروتوكول أبيي عليها أن تضمن ألا تعود الحرب بسبب عدم تنفيذه.
- نرحب بالدور الأمريكي وبتعيين السفير برينستون ليمان لدعم عملية التفاوض ونتطلع للتعاون معه.
- بالنسبة للمفاوضات الحالية لا ينبغي أن يطلب من الجنوب تقديم تنازلات ووضعها على الطاولة منذ البداية. لقد برزت دعوات بأن على الجنوب التنازل ليشتري حريته، وهذا مثير للقلق ومرفوض.
- ليس من المرجح أن نتفق على جميع ترتيبات ما بعد الاستفتاء قبل إجرائه في 9 يناير 2011. وسنعمل جاهدين للحصول على أقصى ما يمكن. لكن توقيت الاستفتاء مقدس. ويمكن إبرام مفاوضات تتعلق بالقضايا العالقة كالحدود بعد ذلك.
- سنعمل على تطوير القطاع الزراعي، والالتزام بالحكم الراشد والشفافية والمسائلة وضمان الحقوق والحريات، ولكننا حتى بعد الاستفتاء سنظل في حاجة للمساعدة وللدعم الدوليين وعلى الولايات المتحدة أن تلعب دورا في ذلك، وفي "تشكيل ودعم وجود الأمم المتحدة في جنوب السودان".
- على حكومة الولايات المتحدة العمل مع المجتمع الدولي خاصة اللجنة الثلاثية والأمم المتحدة، للتدخل في حال نشوب صراع أثناء وبعد إجراء الاستفتاء.
- ينبغي للعالم أن يرى دولة جنوب السودان كمساهمة في السلام الإقليمي والدولي وينبغي أن تصبح مستقلة بعد الاستفتاء.
- جنوب السودان سوف يكون حافزا لتوطيد الديمقراطية في السودان. وهو السوق الأمريكي المحتمل في المنطقة، وأحث المستثمرين الأمريكيين وغيرهم في جميع أنحاء العالم للمجيء والاستثمار في جنوب السودان. وسوف يكون الجنوب سلة غذاء المنطقة والعالم. وعلى أمريكا والمانحين المساهمة بسخاء في بناء قدرات الجنوب للحاقه بركاب العالم.
- باختصار ، لدينا خريطة طريق للنجاح في السودان هو اتفاقية السلام الشامل. والأمر متروك لنا جميعا لضمان أن يتم تنفيذها بالكامل. إني ممتن لدعمكم واهتمامكم ببلدي وشعبي. وأحثكم على الحفاظ على ذلك الدعم من حزبيكم، إن ضمان السلام في هذه المرحلة يعد حاسما في تاريخ السودان، نحن بحاجة لكم والعالم يحتاج إلى أميركا!
قال محللون إن كلام السيد سلفا حول الأصوات المرتفعة التي تطالب الجنوبيين بتقديم تنازلات كان يعني به حديث السيدة وزيرة الخارجية (هيلري كلينتون). وخطاب السيد سلفا في مجمله استنجاد بالأمريكان في وجه شركاء الشمال الذين يسوفون ويماطلون ويحبون أن يبتلعوا حقوق الجنوب المعطاة في اتفاقية السلام.
ثم قام السيد أوكامبو الذي لا يحتاج لوصية في أن يعطي أي عايرة فيما يخص حكومة السيد البشير سوطا، وطلب (من الحكومة الأميركية الضغط على حكومة السودان لاعتقال السيد أحمد هارون، حاكم ولاية جنوب كردفان، وقال إنه مسؤول عن الإبادة في دارفور. وإن وظيفته الجديدة في جنوب كردفان تعنى أن حكومة البشير تريد منه «تنفيذ إبادة أخرى في أبيي» إذا انفصل الجنوب. وقال إن هارون يمكن أن يكون الشرارة التي ستعلن الحرب بين الشمال والجنوب إذا انفصل الجنوب. وأن عودة الحرب ستعني فشل كل الإنجازات التي حققها المجتمع الدولي في جنوب السودان. وستعني «إبادة» جديدة غير التي في دارفور، التي اتهم أوكامبو الرئيس البشير وهارون وغيرهما بتحمل مسؤوليتها.) (الشرق الأوسط الأحد 19/9)
فالمفراكة هنا لم تهدئ شيئا، بل قامت الفقاقيع في الحلة السودانية وفارت.. وسنواصل حول خطاب الأستاذ علي عثمان بإذن الله
وليبق ما بيننا