تخمة الخرطوم, و(عضم) الاقاليم الناشف؟

 


 

 


سيف الدين عبد العزيز ابراهيم – محلل اقتصادى بالولايات المتحدة
Aburoba04@gmail.com
نشرت صحيفة النيويورك تايمز الامريكيه مؤخرا مقالا فى غاية الاهميه للكاتب والاقتصادى الانغولى القدير امانويل مندز غارسيا تناول فيه سياسات التحرير الاقتصاديه التى انتهجتها الاداره الانغوليه فى السنوات التى أعقبت انتهاء الحرب الاهليه التى اجتاحت الدوله الأنغوليه والتى أودت بحياة الالاف ان لم تكن الملايين من أبناء الشعب الانغولى فى محاوله منها لتشجيع قطاع الاستثمار الخاص. انتهجت الحكومه الانغوليه مجموعه من الاليات والسياسات الاقتصاديه التى تم تمريرها عبر بوابة البرلمان مستعينه بكثير من بيوتات الخبره العالميه منها مجموعة المكنزى العالميه والتى تخصصت فى جميع الاستشارات الفنيه والاستراتيجيه لما تملكه تلك المؤسسه الاستشاريه من امكانيات بشريه من مختلف انحاء العالم وآخر مكنونات التقنيه والنظم المستحدثه.  فى ذلك المقال سرد السيد غارسيا الخلفيه المعلوماتيه والبنيه الاقتصاديه الموروثه من حقبة الفتره الاستعماريه التى كانت تخضع فيها تلك الدوله للاستعمار البرتغالى والذى أصل ورسخ لسياسات المركز والتخطيط الفوقى الذى يملى على الاطراف التوجيهات من جهاز مركزى يستحوذ على انتهاج المبادرات واليه تعود المرجعيات التى انتهجتها الحكومه الانغوليه فى العاصمه لواندا انذاك. قامت الحكومه بمراجعة تلك السياسه البرتغاليه القديمه حيث تمت اعادة صياغتها وتحديثها لتلائم الحوجه العالميه الجديده ومعطيات القرن الحالى والمستقبل عموما. استثمرت الحكومه الانغوليه عائدات النفط التى ازدادت بسبب توقف الحرب الاهليه و(الفائض النقدى) الذى نتج عن توقف الاستدانه لتمويل الحرب الاهليه لتوفير احتياجات الجيش الحكومى وبقية الاجهزه الامنيه والمتعلقه بدعم تلك الحرب وبالتالى توقف الحرب منح الحكومه فرصه لالتقاط انفاسها ومن ثم توجيه تلك البنود الى الاستثمار. اثنى  كاتب المقال على جهد الحكومه فى التركيزعلى توفير الجو الملائم للشركات العالميه بالولوج الى الاستثمار بتقصير الظل البيروقراطى وتسهيل الاجراءات والحوافز العديده لتلك الشركات للعمل على جذب الاستثمار العالمى على أمل انعاش القطاعات الاخرى المتعلقه بكل استثمار من سياحه وتنمية عقارات وصناعات خفيفه ومتوسطه بينما اتجهت الحكومه الى تحسين البنيه التحتيه وتطوير مصادر الطاقه والتعليم والصحه. ولكن غارسيا انتقد وبشده تركيز الحكومه على الشركات الكبيره والمتوسطه دون الاهتمام بأصحاب الاعمال الصغيره ونبه الى خطورة تمركز معظم التطور فى أو حول العاصمه لواندا حيث تطور العمران والمراكز الشاهقة العلو والبنايات الجديده دون الاهتمام بالقطاعات التى تمس حياة الانسان البسيط والتى توفر فرص العمل له لتحسين معيشته. انتعش الاقتصاد الانغولى لدرجه كبيره وارتفعت ارباح الشركات فى لواندا وظهرت طبقه غنيه جديده ولكن الطبقه الوسطى انحسرت وقل نموءها وهو مؤشر اقتصادى سئ لأن الطبقه الوسطى هى بمثابة الدينمو المحرك لكل الاقتصاديات وبدونها لا يستقيم ظل النموء الاقتصادى. أيضا ازدادت حدة الفقر فى الريف وزادت نسبة البطاله مما يدلل على فشل أو خلل فى الخطه الاقتصاديه ككل. فى تقديرى ان تلك السياسات لم تفشل الفشل الكامل الذى تعنيه الكلمه ولكنه تخطيط مختل التوازن فى بعض نواحيه لأنه يكرر نفس النهج أو (الغلطه) التى ترتكبها كثير من بيوتات الخبره التى لا تستوعب التركيبه الاقتصاديه والاجتماعيه للدول الناميه أو تتناول بعض القطاعات بكثير من السياسات العامه دون النفاذ الى التفاصيل المهمه التى تتضمن تلك التنوعات والتعقيدات الاقتصاديه التى لا تتواجد أو تتماثل مع أو بالدول الغربيه.
قرأت ذلك المقال وكأنى أقرأ لمحلل سودانى يتناول الوضع الاقتصادى أو التنموى والاستثمارى بالسودان لأنه يشبه والى حد كبير حال التنميه فى السودان والخريطه الاستثماريه المتخمه فى الوسط من فرط تركز ذلك النشاط.  ولأن السودان مر بتجربه مماثله بعد خروجه من أطول حرب أهليه شهدتها القاره الافريقيه ولقد كتبت عدة مقالات بهذا الشأن ولأن هناك تشابه وتماثل كبير بين كثير من حكومات القاره الافريقيه فى النمط التفكيرى حيث تكررت أخطاء تمركز التنميه فى منطقه معينه حيث عانى السودان ومنذ عهد الرئيس الاسبق النميرى حيث تمركزت التنميه فى وسط السودان أو بالاحرى فى الخرطوم وحولها ماعدا مشاريع معدوده قامت بانشائها حكومه نميرى وعلى عجل وبدون دراسات متأنيه ارتكبت فيها أخطاء كلفت البلاد الكثير من الاموال وولدت الكثير من الغبن والمرارات ونفس تلك السياسات انتهجتها حكومة الانقاذ الآن حيث أن الزائر لمدينة الخرطوم يلحظ كل تلك (الانوار المولعه) والمنازل والبنايات الفخمه الى توحى و تشير الى حراك اقتصادى على السطح و لكنه (سطحى) فقط وعاجز عن الوصول الى بقية المناطق. كنت قد أشرت فى مقالات سبقت تعجبى من انشاء مشاريع استثماريه جيده كمصنع جياد لتجميع السيارات والاليات فى حول منطقة الخرطوم حيث أنه لو تم انشاء ذلك المشروع  فى عطبره, ام روابه, أو القضارف أو أى منطقه أخرى كان سيكون له تأثير ونقله أو طفره فى أى من تلك المناطق تفوق ما قد جناه ويجنيه المصنع من موقعه الحالى ويعوض عن أى ارتفاع طفيف فى تكلفة الانتاج التى قد تطرأ لبعد الانتاج عن السوق ولكن ذلك الارتفاع يمكن استيعابه أو هضمه فى مقابل العائد الاستراتيجى المرجو. رسم سياسة موحده لتأطير وترسيم الخريطه الاستثماريه والتنمويه من منحى تنموى وجغرافى بحت بعيدا عن الميول والاغراض السياسيه لايتم بالتمنى من قبل المستثمر الذى ينوى الاستثمار والحكومه التى تصادق على قيام مثل تلك المشاريع فحسب ولكنها منظومه مدروسه تتضمن مشاركة قطاعات متعدده وأجهزه مختصه تتحرى تناسب وتماشى تلك الخريطه وسياساتها مع متطلبات التنميه للدوله و لتلك المناطق. تنمية الريف هى شعار رفعه قادة حكومه المؤتمر الوطنى الحاليه منذ زمن طويل ولكن سياساتها الفعليه تناقض التصريحات التى تملأ الصحف. ان ما أدعو له ليست بدعوة رفاهيه ولكنها دعوه تنصب فى صميم ما (تصبو) اليه الحكومه ولأنها فيها اجابات وحلول لكثير من مشاكل البلاد التى تعانى من ويلات حرب أهم اسبابها عدم توازن التنميه.  القاسم المشترك الذى نجده فى كل مطالب الحركات التى حملت السلاح فى جنوب السودان, شرق السودان, دار فور, ومؤخرا فى شمال كردفان هو عدم توازن الخريطه التنمويه ولكنا لا نفيق من قراءتنا لمطالب تلك الجماعات الا ونصدم بمشروع استثمارى يتمحور داخل (كرش الفيل) التى انتفخت أوداجها قبل مناطق تخمتها ويجعلنا فى حيرة من أمرنا.
ادارة الملفات  التنموىه والاستثماريه علم عالى التقنيه والتعقيدات الفنيه والتخطيطيه والتى ترتكز على عدة محاور بداخل كل منها ورسمها والتخطيط لتنفيذها يعتمد والى حد كبير على مدى فهم المخططين لحوجة البلاد الحقيقيه وفهمهم الحقيقى للامكانيات,المتطلبات, التعقيدات,والمعطيات الى آخره من التفصيلات التى تخدم كأساس مرجعى مثلها مثل البيانات والاحصائيات التى تتطلبها تلك الدراسات ولكنها تعمق النظره وتنقى الرؤيه لتقليل الأخطاء أو تفاديها.  صحيح ان التخطيط السياسى يوجه تلك السياسات ويؤطرها بحكم ان الساسه فى النهايه مناطه بهم أو يعتمد عليهم فى توفير التمويل اللازم ولكن مراكز الفكر الوطنيه المحليه والاقليميه منها و وبيوتات الخبره  العالميه التى تولى التخطيط الاستراتيجى أهميه قصوى توجه وتعين الحكومات لتنتبه له لتوجيه وتصحيح مسارات التخطيط فى كل المجالات وفى مقالنا هذا نعنى ملف التنميه والاستثمار. وحتى نضع الامور فى نصابها, الاستثمار والتنميه لهما شقان: الاول يختص بالتنميه والاستثمار بمعناهما المعروف من تطوير الاعمال وجذب الاستثمارات لخلق فرص العمل وتطوير البنيه التحتيه وماشاكل ذلك من النشاطات التجاريه المعروفه فى تلك المجالات: الشق الثانى يختص بالاستثمار فى المواطن وتنمية قدراته البشريه وهى الجزء الأهم فى هذه المعادله لأنه يشكل دعامه اساسيه لتسيير تلك النشاطات التجاريه التى تحتاج الى التقنيات وعلوم الاداره الحديثه التى تكتسب بواسطة التعليم وفى نفس الوقت لابد من وجود الرعايه الصحيه لتمكن المواطن من مواصلة التعليم والتطور. الاستثمار فى التعليم والصحه يكاد ينعدم بصوره استراتيجيه وموجهه فى السودان حيث أن نسبة الصرف على هذان المجالان يتقازم أمام نسبة الصرف البذخى والقصير المدى فى مشاريع لاتمت للاستراتيجيات بصله. فى مقارنه عرجاء تماما رأينا كيف ثابرت ماليزيا وانتهجت منحى لم تحيد عنه فى دعم وتنمية المواطن لرفع المستوى المعيشى وتخفيف حدة الفقر حيث نجحت تلك السياسات الى درجه كبيره ومذهله. استنادا على تقرير التنميه وقياس نسبة الفقر العالميه الذى تنشره منظمة الامم المتحده سنويا يشير الى انه و فى سنة 1960 كانت نسبة الفقر فى ماليزيا تصل الى 50% وبحلول عام 2005 انخفضت الى 3.5% وهو معدل نجاح مذهل ولكنه تتويجا لاستراتيجيه سليمه انتهجتها الدوله ونجحت فيه لمواكبتها للمتغيرات واستمراريتها رغم الصعاب وذلك لأهميتها. أدرى أن هناك من يأتيك متشدقا بذكر مشروع تنموى فى هذا الاقليم أو ذاك المكان فى السودان كما رأينا فى مجهودات أسميها (علوق الشده) فى محاولات فرديه هزيلة التخطيط قصيرة المدى والمردود لاتمت للاستراتيجيه بصله كما فى محاولات تنمويه بائسه ومبتوره فى دار فور تلبية لطلبات او محاوله لاسكات حاملى السلاح. أو محاولات تفتقر للأفق الاستراتيجى لمحاولة اعمار الشرق لن تجدى لغير المزايدات السياسيه والزخم الاعلامى. الاقتراب المبتور الذى يفتقر الى الخضوع أو الاندراج ضمن منظومه استراتيجيه هو سمه ملازمه لمحاولات التنميه فى السودان, حيث نرى مشاريع يهلل لها البعض ويكبر لها الاخرون تقام فى دار فور لاتمت للتخطيط بصله, أو محاولات اعمار شرق السودان فى مشاريع أشبه بلستة طلبات العيد لكل الذين يجأرون بالشكوى ويبدون التذمر أو يحملون السلاح فى محاولات ترضيه وقتيه ليست ذات فائده طويله أو مستدامه للوطن. للأمانه الفكريه أنا هنا لست فى موقف المفند لتلك المشاريع من ناحية جدواها أو عدمها وأدرى مدى الظلم الذى حاق بالاقليمين المذكورين ومدى حوجة أهلها الكرام للتنميه وهو ما أدعو له لكل مناطق السودان, ولكنى أنبه الى أن تلك المشاريع يجب أن لا تقام بمعزل عن الخارطه التنمويه والاستثماريه الاستراتيجيه للدوله ككل وليست مبنيه على فرضيه سياسيه ترضية لتلك المجموعه أو هذا الفريق. أود لكل تلك المشاريع فى ملف دار فور ومناطق الشرق أن تنجح ولكن بدون نظره استراتيجيه أتشكك كثيرا فى حدوث تلك الامنيه. ما أنبه له هو أن الاقتراب الاستراتيجى لحلول التنميه هو الذى يدوم واستمراريته لها فوائدها التى لاتحصى, وتكلفتها أقل نسبيا بمقدار العائد المرجو والعمر الافتراضى لتلك المشاريع.
اخفاق الحكومه فى استثمار عائدات البترول ولسنوات ليست بالقصيره فى استثمارات راسخه كالصحه والتعليم له تداعيات بالغة الأثر على الوطن والمواطن. حيث تدنت نسبة الصرف على هذين البندين الى أدنى مستوياتهما منذ استقلال السودان اذا وضعنا فى الحسبان نسبة الواردات ومعدلات التضخم ونسبة السكان. التداعيات السالبه على هذين المجالين تفوق التصور حيث أصبح المواطن السودانى القادر ماديا مضطرا  للسفر خارج السودان لخلع ضرس, والتلميذ الذى هوعلى مرمى حجر من حقول البترول وأنابيبه التى تنقله الى موانئ التصدير, يفترش الارض تحت الاشجار لتلقى الدروس, بينما يتشدق البعض بتطور المستشفيات والتعليم فى (الخرتوم). رغم تلك الاخفاقات وقصر النظر التنموى انتهج المخططون (ان كان لهم وجود أصلا) نهج سياسة الترضيات والتى لا أستهجنها من حيث المبدأ,  لأن بعض تلك المطالب مشروعه والمناطق التى طلبتها فى أمس الحوجه اليها, ولكن لأن تلك الترضيات لابد لها أن تتم فى اطار استراتيجى موجه يخدم المنظومه التنمويه والاستثماريه للدوله ككل مرتكزه على تنمية الاقاليم للفائده الاكبر التى يمكن جنيها. ما فائدة التركيز على مشايع سريعه غير مدروسه بنهج اطارى فى دار فور وجنوب كردفان وتجاهل شمال كردفان؟ وسبب استهجانى لهذا المنهج هو و ببساطه لاطائل من تلك المشاريع لأنه وماهى الا (لحظات) وتتسع رقعة الحرب وتنتقل الى شمال كردفان لايمان بعض حاملى السلاح فى شمال كردفان( بجدوى) حمل السلاح ظنا منهم أن سياسة الترضيات ستطالهم فى مسعاهم لجلب التنميه لتلك الديار وهذا ماظللت أحذر منه. كتب الكثيريون من أبناء كردفان وعلى راسهم الدكتور حامد البشير قبل سنوات ونبه الى وجود ذلك التذمر وحذر منه, وكتبت أنا شخصيا أكثر من سبعه مقالات أدعو فيها الى الالتفات الى التنميه فى شمال كردفان كنموذج تنموى اقليمى يمكن تطبيقه على نطاق القطر والولوج الى المشاريع الكبيره مثل مشروع ايصال المياه لمدينة الابيض من النيل الابيض (والذى أوليته ملف كامل من المقالات)  لقطع الطريق على دعاة حمل السلاح لا لشئ سوى لايمانى بعدم جدوى الحرب التى لم تجلب غير الدمار والخراب لأهل دار فور وقبلهم أهل الجنوب. ما أنا بصدده هو اثراء الحوار الاستراتيجى للاقتراب من كثير من معضلاتنا لنزيد من نسبة النجاح لتلك المشاريع ولكن مالم نلتفت وبطريقه جاده للفكر وانشاء مراكز الفكر الاستراتيجى فستواصل بطن (الخرتوم) فى الانتفاخ بما تستحقه وما لاتستحقه ويواصل أهل الأقاليم وأريافهم (يكدكدون) عظامهم الناشفه الا ان يقضى الله أمرا كان مفعولا والله المستعان.
 

 

آراء