دبلوماسية فاعلة لسودان ما بعد الانفصال
محمد المكي ابراهيم
سفيرسوداني سابق لدى باكستان وزائير وتشيكوسلوفاكيا
تستمد الدبلوماسية دورها ومهامها من الواقع الذي يعيشه الوطن الذي تمثله. واذا كان حال السودان الموحد معروفا لدينا فان حال سودان ما بعد انفصال الجنوب ليس خافيا ولكنه يحسن بنا توصيفه بشكل موجز في هذه النقاط
1-انه سودان اقل ثراء من السودان الموحد حيث يفقد كل مقدرات الجنوب المتحققة(وعلى رأسها النفط) والكامنة(الثروات الغابية والزراعية الناشئة عن وفرة الامطار) زائدا الثروات المعدنية المتوقعة
2- انه اصبح جارا لدولةجديدة بينه وبينها تاريخ من الخصومة ومناطق الاحتكاك.وبينه وبينها منافسة واسعة على عطف العالم ومساعداته
3-انه سودان اقل وزنا من النواحي الاستراتيجية والعسكرية بحكم انه فقد علاقة الجوار مع ثلاث دول افريقية(كينيا ويوغندا والكونغو الديمقراطية) وفقد رافدا مهما لقواه العسكرية يتمثل بابناء الجنوب الذين خدموا في قواته المسلحة على كل الجبهات بما فيها جبهة الجنوب نفسها كما فقد ثلث مساحته وقريبا من ثلث سكانه
4- انه اكتسب سمعة سيئة كبلد فقد وحدته الاقليمية بسبب ممارساته التمييزية ضد مواطنيه . وانفصال الجنوب عنه يعني تأكيدا لمعاني العنصرية وما يترتب عليها من النبذ والعزلة
هذه الحقائق الاربع لابد ان تكون نصب عيني كل مشتغل بالعمل الدبلوماسي من قمة هرمه الى اصغر ملحقيه و على ضوء تلك النقاط يتحدد دور الدبلوماسية وواجباتها في مرحلة ما بعد الانفصال ويمكننا التعرض لكل واحدة منها على النحو التالي:
1-دبلوماسية الفقر
يتحكم في دبلوماسية البلدان الفقيرة عنصران مهمان هما الجهد التنموي المحلي واستجلاب الاستثمارات من الخارج .وعلى كثرة حديثها عن هذين العنصرين فان الانظمة الشمولية غير مؤهلة لتحقيق ايا من الهدفين إذ ان تحقيقهما يتطلب وجود مجتمع مفتوح يسوده القانون بوصفه الضمانة الاكيدة لحقوق كل المساهمين في العمل التنموي والاستثماري.وقد رأينا بأعيننا مظالم السلب والنهب التي انغمست فيها انظمتنا الشمولية فأصبحت بلادنا منطقة طاردة ليس فقط للاشخاص وانما ايضا للرساميل والافراد القائمين على ادارتها.وكثيرا ما تفلح الدبلوماسية في اثارة اهتمام الافراد والمؤسسات بالعمل في السودان ولكن اول زيارة للبلاد تكشف لهم استحالة العمل في المناخ الشمولي بمحرماته الكثيرة وتقلباته الهوائية وفساده المتعدد المصادر. وفي مثل ذلك المناخ لاينجح الا المحتالون واللصوص الذين يأتون بهدف الهبر السريع ثم مغادرة البلاد .
لكي ينجح الاستثمار المحلي للقطاعين العام او الخاص لابد من توافر اجواء الحرية والرقابة الصحفية النزيهة وسيادة القانون ممثلا بالقضاء العادل الشريف مع استقامة السياسات العامة وعدم تعرضها للتقلب والتغيير المفاجيء وكلها امور لا يمكن ان تحدث في بلاد تفوض تخطيطها الاقتصادي لسلطة تشريعية وتمنح حرية المراقبة لمجتمعها المدني ولكنها تحدث بسهولة تامة في البلدان الخاضعة للنظم الشمولية حيث يسيطر مزاج الدكتاتور ومصالح اعوانه على نشاط البلاد الاقتصادي .
الى جانب المناخ العام لبلد ديمقراطي هنالك ايضا اشتراطات اخرى تتعلق بتوفير الايدي العاملة للاستثمار عن طريق التدريب ورفع الكفاءة وتعليم اللغات وايجاد كادر وطني يقف الى جانب المستثمر ويدعمه ويتعلم منه اصول المهنة تمهيدا لسودنتها على المدي البعيد(1)والواقع ان تصورنا للاستثمار الاجنبي يتوهم قدوم فيالق من المهنيين والخبراء يقومون بتركيب آلاتهم ويديرون مصانعهم وفي نهاية المطاف يقدمون لنا انتاجهم لنستهلكه وهو تصور خاطيء وغير مرغوب فيه لكون الاستثمار في حقيقة الامر شراكة كاملة بين الاجنبي والسوداني ويمثل العاملون المؤهلون (رخيصو الاجور) اهم الدوافع التي تجعل المستثمر يترك بلاده المتقدمة وحياتها الرغدة ليأتي الى مناخاتنا القاسية.
بطبيعة الحال يقع العبء الاكبر على عاتق النظام السياسي في توفير ما يتطلبه الاستثمار من خدمات وخبرات وواجب الدبلوماسية هو الترويج لمقدرات البلاد بما في ذلك قدرتها على توفير الكوادر المؤهلة التي تتحدث لغة المستثمر وتلبي معظم احتياجاته.ولا يحتاج الدبلوماسيون السودانيون لمن يرشدهم الى تفاصيل الدور المنوط بهم في ذلك الصدد فقد تمرسوا على الاتصال بالافراد والجماعات خارج السودان وعرفوا الطريق الى عقولهم وقلوبهم ولكن واقع الاهمال والفساد كثيرا ما جعل الهرب افضل الخيارات امام المستثمرين.
تحتاج البلاد النامية لرعاية الدول الكبرى لتساعدها على النهوض من عثراتها الاقتصادية وتضع اقدامها على طريق الديموقراطية والحرية لشعوبها . ومن حق السودان ان يقيم علاقاته الخاصة مع الغرب وان يستفيد من خبراته الصناعية والمالية دون الانسياق وراء عداوة غير مؤسسة.وليس صعبا صداقة الغرب مع الاختلاف معه حول فلسطين واسرائيل وغيرها من القضايا فذلك امر مفهوم والاهم هو انهاء العداوة بيننا وبين الغرب ومصادقة من شئنا من دول اوروبا وامريكا والتعاطي معها بحرية دون ان نعرض انفسنا لتهم رعاية الارهاب او الوقوع تحت طائلة العقوبات الدولية.ودون نشوء تلك الصداقة ليس لنا ان نطمع في استثمارات اومساعدات تاتينا من العالم الخارجي.
2- دبلوماسية الجوار
تقع مسئولية الانفصال على عاتق النظام الشمولي الذي افقد المواطن احساس المواطنية وجعل الجميع – شماليين وجنوبيين- يستمرئون الهجرة القاصية على الاقامة تحت وطأة الذل والامتهان وفقدان كل ما تنطوي عليه المواطنة من حقوق.اما الآن وقد وقع الانفصال فان افضل ما يمكن تحقيقه هو استمرار العلاقات مع الجنوب دولة وافرادا واختراق الحواجز التي خلقها الانفصال بحيث تستمر وتزدهر العلاقات المشتركة بين الشطرين.ويعني ذلك فتح الحدود امام تبادل السلع والافراد وخاصة الطلاب الراغبين في التعليم والمرضى القادمين للاستشفاء والقفز فوق تلك الحدود لتبادل المعارف والافكار عن طريق وسائل الاعلام من راديو تلفزة وفضائيات.
ليس خافيا علينا نغمة التطرف والحقد التي تروج لها بعض الاوساط حول حرمان الجنوبيين من الجنسية وحق الاقامة في الشمال وهو تطرف غير متمدن يأتي من نفوس حاقدة هي التي اضاعت الجنوب وتريد الان ان تعاقبه بدلا من معافبة نفسها ومعاقبة منسوبيها الذين تسببوا في الانفصال.ولقد كان سلوك الدول المستعمرة مع مستعمراتها السابقة اكثر رأفة وتمدنا فلم تطرد منسوبي مستعمراتها السابقة ولم تحرمهم من التعليم في مدارسها والاستشفاء في مشافيها
ويبدو ذلك التهديد والوعيد خاليا من المنطق والمحتوى اذا تذكرنا ان الحكم القائم قد اخلى طرفه من
مسئولياته تجاه الصحة والتعليم فان التلويح بحرمان الجنوبيين من خدمات غير موجودة أصلا لهو تهديد غير ذي معنى وتقتضينا روح المسئوليةان نقدم اليهم كل مابوسعنا من خدمات ومساعدات وان نردف ذلك بالاعتذار عن كل ما أصابهم على ايدي الانظمة الشمولية التي اساءت اليهم كما اساءت الينا وظلمتهم كما ظلمتنا. وفي مستقبل الايام نطمع باحكام الروابط بيننا بالطرق البرية والنهرية ورحلات الطيران الداخلي المكثفةshuttles ونطمع في جامعات ومشاريع اقتصادية مشتركة وبتنسيق دبلوماسي بيننا وبين دولة الجنوب يتيح لنا تمثيل بعضنا البعض لدى بعض الدول والمنظمات.وعن طريق التعاون المكثف بيننا سنجد ان الانفصال قد تحول في واقع الامر الى نوع من الحكم الكونفدرالي يحفظ علاقات المودة والتعاون بين البلدين رغم احتفاظ كل منهما بحكومتها واستقلال قرارها.
3-الوزن الاستراتيجي
اضاع السودان نصف قرن من عمره خاضعا للانظمة الشمولية التي حالت بينه وبين النمو الاجتماعي والاقتصادي.والطريق الامثل لاستدراك ذلك الخطأ يبدأ باستعادة الديموقراطية وتوفير الحرية الاقتصادية للشعب وطلائعه الرأسمالية ليعمل على تنمية البلاد في كافة المجالات وبسرعة لاسبيل لمقارنتها بسلحفائية الدولة وقبضتها الخانقة الخالية من كل ابتكار.ومتى فتحنا الطريق اما م الشعب وطاقاته الخلاقة فان وزننا الاقتصادي سيتزايد وسوف يساعد وضعنا الاستراتيجي في قلب القارة على توفير سوق ضخمة لصناعاتنا تشمل الحزام الافريقي والقرن الافريقي وتمتد عبر دولة الجنوب الى شرق افريقيا ومنظقة البحيرات.ومن شأن العلاقات الجيدة مع دولة الجنوب ان تفتح امامنا دول واسواق الجنوب الافريقي بصورة لم تتحقق لنا حين كنا بلدا واحدا وذلك ان الانظمة القديمة لم تستفد من الجنوب ولم تعمل على تطويره فظل ميدانا لحروبها وفنونها التدميرية ولكن في ظل علاقة متوازنة مع دولة الجنوب سيتحول الى منطقة فاعلة اقتصاديا وسيعود مصدرا للثروة ومجالا للتبادل الاقتصادي الشريف مع توأمه الشمالي.
ان مفتاح التقدم الاستراتيجي للسودان يكمن في ايجاد علاقة سوية مع دولة الجنوب الجديدة.ولتلك الغاية ينبغي ان يبادر السودان الى فتح سفارتنا في جوبا وان يجعل منها كبرى سفاراته في العالم فيحشدها بالدبلوماسيين الذين يحذقون لهجات الجنوب ولغاته ويزودها باجهزة الاتصال المتقدمة ويقيم الى جانبها مدارس ومستشفى ويضمن لها رحلات جوية منتظمة تربطها بالخرطوم ضمانا لسرية التفاكر وسرعة الحصول على التوجيهات
4-استعادة سمعة السودان الطيبة
ليس هذا واجبا اساسيا للدبلوماسية فذلك دور معاهد البحث الاجتماعي والناطقين باسمها من صحفيين وكتاب واذاعيين واذاعيات وتستطيع السفارات ان تقوم بدور النشر والتوزيع على نطاق العالم وخاصة افريقيا والمواطنين الامريكيين السود وكلهم كانوا في حالة اندهاش للفظائع التي جرت في الجنوب ودارفور ضد مواطنين سود بأيدي مواطنين لايقلون عنهم سوادا
ان ما لحق بسمعتنا الدولية بالغ الخطر والاثر ولابد من تداركه بتبيان مصدره الحقيقي المسئول عن وقوعه ولابد هنا من ادراج السودانيين الشماليين ضمن ضحاياه لتعرف افريقيا ويعرف العالم ان الجنوب والشمال سقطوا ضحايا لنفس الايدي الآثمة .واذا قدر لمسئولين عن التعذيب ان يمثلوا امام محاكمنا فان ذلك يعتبر شهادة لصالح سمعتنا الدولية يجب توثيقها واطلاع العالم على تفاصيلها .
وفي الختام
لا بد ان نتذكر اننا لسنا اول ولا آخر بلد يتمزق فان الدكتاورية العمياء كفيلة بتمزيق الوحدة الوطنية لاي بلد من البلاد كما هو مشهود.والامثلة الحديثة للانفصال تأتي كلها من تحت عباءة الدكتاتورية:
باكستان الشرقية (بنغلاديش) :على ايام الجنرال يحيى خان/ يوغوسلاقيا: ميلوسوفيتش/انقسام المانيا الى شرقية وغربية:نتيجة الحرب العالمية التي اشعلها هتلر/ ارترياواثيوبيا:الايام الاخيرة للدكتاتور الاحمر منغستو هايلي مريام/شيكياوسلوفاكيا:نتيجة للدكتاتورية السوفياتية.
صحيح اننا لانستحق ذلك المصير لكوننا شعبا طيبا ودودا ولذلك يتوجب علينا الان ان نعود الى المنابع الاصيلة لفضائلنا ونستمد منها العزم لتضميد جراحنا وجراح اخوتنا في الجنوب ودارفور وهكذا ينبغي ان يكون شأننا دائما مع الدكتاتورية: تهدم فنبني وتقطع الاوصال فتأتي الدمقراطية والدمقراطيون لتضميد الجراح وشد أزر الوطن .ولكن هذه المرة علينا التسلح بالحيطة والحذر لتكون هذه آخر الدكتاتوريات في تاريخ السودان.
*قرأت بمزيد الاعجاب الكلمة الممتازة التي نشرها على صفحاتكم الدبلوماسي الاريب السفيراحمد عبد الوهاب جبارة الله وهي التي شجعتني على نشر هذه الورقة التي قدمتها للقاء ايوا الدوري المنعقد في جامعة ولاية كارولينا الشمالية مطلع هذا العام واعتبر ذلك بمثابة تحية اخوية وتعضيد لمقترحاته النيرة المشمولة في مقاله الممتاز.
Ibrahim ELMEKKI [ibrahimelmekki@hotmail.com]