أمّة السودان التي وُلِدت ..الحلقة الأخيرة.. أحزابنا
عبد الجبار محمود دوسه
7 July, 2011
7 July, 2011
في الحلقات من الأولى وحتى الخامسة، تحدّثنا عن ميلاد أمّة السودان وعن بعض موارد الأرض التي تستوعبنا وتحدثنا عن موضعنا بين الأمم ومدى معاصرتنا للتحولات التي بدت تأخذ طريقها إلى نمط التفكير لدى الشعوب والنزعة نحو التنصّل من أيدلوجيات القرن الماضي والتفاعل مع حاجة عصر السرعة والإنفتاح، كما استشرفنا إمكانية استنباط واستخدام معايير إضافية لتجويد تعريف هوية أمّة السودان وتثبيتها، وفي ذلك الإتجاه تحدثنا عن الحرّية وروح الإنتماء وطرحنا رؤيتنا فيهما، ولأن أي مشروع من ذلك القبيل لا بد أن تتبناه منظومة سياسية أو كيان سياسي أو حزب، وأن يكون مطروحاً من خلاله، لذا من الضرورة بمكان أن نمضي في حوارنا نحو تشريح منظوماتنا وكياناتنا الحزبية لنقف على بعض مما يمكن أن نسمّيه بؤر الإشعاع الفكري فيها، ومدى تمدد مساحة التقاطعات السالبة والمظلمة بين هذه البؤر مما نتج عنه التناسل المتوالي للتجارب السياسية المضطربة والتي أدت بدورها إلى العجز في القدرة على إنتاج دولة مستقرّة سياسياً وقادرة على قيادة الأمّة السودانية بثبات نحو آفاق النماء والتطور، ونستشرف معاً بعض الذي يمكن أن نطلق عليه العجز الجماعي في تطوير أفياض تلك البؤر لتصبح منارات مشعّة للإبداع ومعزّزة لديمومة وحاء وجودة المساجلات الفكرية بين التنظيمات السياسية، وإلى أي مدى يمكن التحلل من تلك الكوابح والإنطلاق نحو آفاق فكر تنظيمي معافىَ.
لكلمة حزب في اللغة معاني عديدة تتباين حسب ورودها ولكننا هنا معنيون بمعناه الذي يعبّر عن الجماعة أو الطائفة، وحيث أن مدلول الكلمة لا يُشكّل إفساداً لها أو لإستخدامها كمضاف فإن الإفساد إذا وُجد ينمو ويعشعش في المباديء والأهداف والوسائل التي تتبناها الجماعة أو الطائفة التي هي في محل المضاف إليه، وبمعنى أكثر دقة فالأمر في غالب الحالات يتعلق بفساد طقوس الممارسة، حيث أن في بعض الأحيان تكون المباديء نقية ولكن يُفسدها الممارسون لها من خلال أحد ثلاثة أو أكثر من أسباب، فإما بإعتلال دواخلهم أوطغيان أطماعهم الذاتية أوبضعف إستنبطاتهم التظيمية وإبداعاتهم في إنتاج الوسائل والآليات، على سبيل الدلالة مثلاً إتخاذ الدين مطيّة لتحقيق مآرب ذاتية وضيعه، كأن يتبنى الحزب الأقوال التي تتطابق مع قيم الدين وتكون ممارسات مؤسساته وقياداته ومنسوبيه مجافية تماماً معها في المضمون، أو أن يتبنى الحزب شعارات الديموقراطية والشورى بينما تعكس الممارسات بداخله كل مضامين الدكتاتورية والأحادية والإستفراد بالقرار، أو أن يتبنى الحزب الشعارات الثورية والتقدّمية بينما لا يجنح فعلياً إلا إلى الخضوع والإستسلام والتخلّف، بيد أن هنالك الكثير من الأمثلة في هذا الإتجاه لكننا نكتفي بهذه الحزمة منها لأنها كافية لإعطاء الصورة في بُعدها المقصود، وهذا التخبّط في الممارسة يكون تأثيره كبيرأ وبائناً في ظل غياب نظام سياسي متماسك وراسخ في بلد الممارسة، وليس بالضرورة بالطبع أن تكون المباديء والأهداف سياسية فقط وإنما تتعداها لتستوعب كل نشاط يؤثّر على المجتمع وبالطبع حينها يحتمل التباين في الرأي.
قيام أحزاب سياسية في أي مجتمع يتطلّع إلى تبنّي نظرية التعددية وتبادل السلطة عبر التنافس الديموقراطي من خلال الإنتخابات يقوم على تدافع الأحزاب إلى الفوز في الإنتخابات والوصول إلى السلطة بحيث تتمكن من تنفيذ برنامجها الإنتخابي الذي يقوم على مباديء ورؤية الحزب للقضايا العامة التي تتفاعل وتؤثّر وتشكّل حياة الشعب وتمهد بسلاسة طريق النماء والتطور، والنقيض بعدم تمكّنها من الفوز هو أن تبقى نشطة في مقاعد المعارضة بحسبان أن معارضتها إنما هي الرقابة الدائمة على أداء غريمها وصقل تجربتها، وأيضاً ذلك يقوم على رؤيتها وبرنامجها، فهي في حقيقة الأمر تمثّل حكومة في الظل. هذه الممارسة لا تستوي في ظل إضطراب أو فراغ دستوري كالذي ظللنا نعيش فيه منذ الإستقلال، فالحالة السودانية تعبّر بوضوح عن حالة إضطراب دستوري دائم، تنتقل فيها الدولة من دستور إنتقالي إلى آخر بينما يفعل التناقض والتناطح فعلهما في إبطاء الإنطلاق وتعرية الممارسة وتقزيم النتائج.
عرفت الحزبية طريقها إلى ساحة العمل العام في السودان منذ ما يقل عن القرن بربعه تقريباً، ورغم هذه المدة التي لا تعتبر قليلة إلا أنه لم يتهيأ لها حرية الممارسة المبرأة من الرقابة إلا بعد خروج المستعمر، كما لم تجد هذه الأحزاب فرصة الممارسة في مناخ تعددي معافىَ إلا في آماد وجيزة لم تتجاوز 11 عاماً متقطّعة هي فترات الديموقراطية الثلاث، وهي مدة لا يمكن سوى أن نطلق عليها أنها فترات نفضٍ للغبار وإعادة لترتيب وضخٍ للدينامية في مفاصل الأحزاب بعد أن أقعد بها حُجّاب الدكتاتورية وحُرّاس الشمولية. بيد أن بعض الأحزاب تاهت بالمشاركة فيما أعتقدت بانها ستجده من فرصة للعمل بصمت في وهاد تلك الدكتاتوريات والشموليات بنوايا متعددة منها ما أسمته بالتغيير من الداخل أو أستغلال الدكتاتورية لتمكين برنامج الحزب أو بدافع القهر والإقصاء الذي تعرضت له إلا أن ذلك لم يزدها إلا خسارة.
تنقسم الأحزاب السودانية إلى أربعه مجموعات غاية في الوضوح من حيث الشكل والرؤية الظاهرة، فهناك مجموعة الأحزاب التي نسمّيها أحزاباً تقليدية، ولعل مذهب الذين أطلقوا هذا المسمّى ربما كان مقصدهم هو دمغ هذه الأحزاب بصفة تنم عن الجمود إذا اعتبرنا التقليدية هي أقرب إلى المحافظة وأن منطق العصر يجنح إلى تفسير المحافظة على أنها جمود، المجموعة الثانية هي الأحزاب العقائدية أو الأيدلوجية وهي أحزاب تتبنى إمّا فكراً يسارياً بكل مسافاته من أقصاه إلى أقصاه أو تتبنى فكراً يمينياً على الإمتداد بين اعتداله وتطرفه. أما المجموعة الثالثة فهي الأحزاب التي يُطلق عليها الأحزاب الليبرالية ومنها ما هو متطرف في رؤيته الليبرالية بما يُفهم عند الكثيرين بأن ذلك ربما لا يتوافق واقعياً مع المجتمع الذي تعمل فيه، ومنها ما هو معتدل في تبنّي الليبرالية وفق محاذير وحدود، بيد أن الليبرالية نهج تنهل منه الأحزاب غير العقائدية بقدر، وأخيراً مجموعة الأحزاب الشمولية التي أسستها الحكومات الدكتاتورية، وهي أحزاب تستمد بقائها من السلطة الحاكمة وبدونها تموت، هي تماماً كالأسماك خُلقت لتعيش حية في الماء وإذا ما جفّت المياه أو تبخّرت ماتت، وقد لا يستقيم أن تُسمّىَ أحزاباً حيث أن العرف هو أن تكوين الحزب يسبق تولّي السلطة وليس العكس، ولأنها نشأت كذلك أصبحت تتهاوى مع تهاوي السلطة التي أنشأتها وهو مآل طبيعي، حيث لدينا مثال الإتحاد الإشتراكي أو تحالف قوى الشعب العاملة أيام حكومة الرئيس الأسبق الراحل المشير جعفر النميري وكيف كانت سطوته وإعلامه عندما كانت السلطة عباءته، فلما كشفت إنتفاضة أبريل حجابه تهاوى ولا يكاد يُرى أو يُسمع عنه إلا لماماً. كما أن تجربة الحزب الوطنى في نظام الرئيس السابق محمد حسنى مبارك في مصر مثال آخر، وأيضاً حزب التجمع الدستوري الديموقراطي في تونس بعد انهيار حكومة الرئيس زين العابدين بن علي، بل أن الأمثلة في العالم على قدر ما تستوعب الأوعية الناشدة، وليس المؤتمر الوطني في السودان ببعيد من ذلك لطالما كانت التنشئة مؤسسة على جرف هار، وعندما تغيب السلطة سيغيب نجمها، وعلى أي حال كل الأحزاب التي نشأت على يد السلطة لم تنظر أبداً إلى يومٍ يمكن أن تفقد فيه مظلّة السلطة إلا من خلال منظار الرخم وهي تتكالب على قصعة فلما قضت أوطارها ونهشت أوصالها ولم يعد هناك إرباً يُغريها تفرّقت وتركت الهيكل يتهاوى ويندثر، وبالتالي لم تستثمر الفرصة لتبني علاقة قوية مع الشعب وتؤمّن رصيداً جماهيرياً قائماً على مباديء وإنما سعت إلى بناء علاقة قائمة على سائد ومُستَعبد وآمر ومُنفّذِ وقوي وضعيف والحقيقة أن فاقد الشيء لا يعطيه.
في ظل غياب الأرضية المشتركة لتعريف هوية الأمّة، الشيء الذي تبعه عدم استنباط إطار ونظام سياسي متوافق عليه، أصبح كل حزب ينطلق من أرضية متنافرة مع الآخر وبدت الخطوط متقاطعة بعُقدِها ولم تعد هناك قواسم مشتركة تتآزر وإنما أضحت هناك مناكرة تتعاذر ومسالب تؤثّر وهو الأمر الذي كبّل فاعلية التعددية وأطلق العنان لعربدة الدكتاتورية والشمولية. لكن واقع حال هذه الأحزاب يؤكّد وكأنه بينها وبين تجديد القيادات قطيعة، أو كأن قياداتها التاريخية مع حفظ حقها في جهودها لبناء تلك الأحزاب ما زالت رغم فعل الدهر بما هو فطري في ضرورة تقدّمها في العمر ومع دعواتنا لهم بطول العمر إلا أنهم ما زالوا يتشبّثون بالقيادة وكأن لسان حالهم يقول لم نهنأ بها بعد ضمن نطاق الدوّلة أو السلطة.
لا يمكننا عقد محاكمات أدبية وسياسية لدور هذه الأحزاب في النتائج السالبة التي آلت إليها الدولة السودانية المعاصرة إلا بالقدر الذي شارك فيه كل حزب سواء في السلطة أو المعارضة، ولا نملك الأحقّية في ذلك إلا بقدر ما نزن فيه بالقسطاس كأفراد من الشعب وندلو فيه بدلائنا كشأن عام حين يُطرح في منتدى تشاركي، أما فترات الحكم الدكتاتوري والشمولي فإن وزر الأحزاب أو التنظيمات التي وظّفت نفسها لخدمة تلك الحكومات لا بد أن يترسّخ تواجدها في أذهان الشعب بقدر مساهمتها في إذلاله ولا أقول معاناته لأن الأولى كانت دائماً أطغى، ومثل ذلك التواجد ليس سوى محاكمة خامدة لكنها بلا شك ستكون حارقة لتلك الأحزاب في أي إختبار إنتخابي حقيقي. وبالتعمّق في حقيقة الرؤى السياسية التي تتبناها الأحزاب فالقياس لمدى قدرتها على التفاعل مع طموحات الشعب تنعكس في مدى قدرة هذه الأحزاب على تضخيم وحفز وشحن نبض الشارع بدينامية مقاومة ثابتة ودائمة ومؤثّرة على الدكتاتوريات والشموليات وذلك إما بإجبارها على تغيير سلوكياتها وتماهيها تدريجياً مع مقتضيات التعددية أو بإسقاطها، وهو الإختبار الذي لم تنجح فيه بعد، ولا يستقيم القول أن انتفاضتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 هي من صنع كامل للأحزاب، موقفها يومذاك أقرب في وصفه من موقف أحزاب اللقاء المشترك من ثورة الشباب اليمني اليوم، بيد أن النذر اليسير من ذلك تلاشى مع الزمن، ولعله من المنطق أن تكتسب الأحزاب إيجابيات في تجربتها الذاتية ولا سيما في البناء الفكري لدى منسوبيها غير أن الزمن لم يصقل ذهنيتها الفكرية ولم يرتّب بنيتها التنظيمية ولم يطوّر خطابها الإستقطابي وإنما بدت وكأنها هَرِمت. ولا يذهبن البعض إلى التبرير بأن الدكتاتوريات لم تتح لها مناخاً للنمو، لأن التجربة الخمينية برغم تحفّظنا على الكثير فيها إلا أنها كانت تحت نظام أعرق دكتاتورية وأشدّ قوة وأعمق تجربة ومع ذلك نمت الخمينية وترعرعت في نفوس الشيب والشباب معاً إلى أن أطاحت بالنظام الإمبراطوري الفارسي وكان حينها الإمام الخميني نفسه خارج إيران. إذن العلّة تكمن في غياب المضمون في الرؤية التي تُعالج الإشكاليات التي تُعقّد حياة الشعب وتطور الوطن، وانعدام سحر البيان وضعف منظومة وهيكل البنيان وفي إختلال بلاغة الخطاب الإستقطابي.
في ظل هذا الواقع الحزبي الذي يمكن أن نقول أن الإهتراء يفعل فعله فيه بهدوء، لا بد أن يستأسد الحزب الذي نبت وترعرع في إبط السلطة وأن يستأسد ويعلو خواره، وهو خوار أشبه بذلك الذي صدر عن عجل السامري، يبدو بروح ولا يعدو كونه خوار صادر عن تجويف خاوي في جماد. الشعب السوداني الآن ينطبق عليه حال الشعوب التي نشأت تحت وطأة حكومات شمولية أحادية القرار لا يمكن لنهج تفكيرها إلا أن يتأثر بنهج الشموليه، لأنها تترجم تراكمات الثقافة التي نشأت عليها، أي ثقافة تعظيم الرئيس الفرد، الشعوب التي تتربى على ثقافة الشمولية تختزل الوطن والشعب والدولة كلها في شخص فرد، وتواصل دفاعها عن الفرد تحت عدة أسباب، فإما مقهورة بالخوف أو مغسولة الدماغ بتراكم التنشئة والتوجيه المعنوي او تقرباً للحصول على منافع ذاتيه أو لدرء الشر عن نفسها، وهي حالة تقتضي من الأحزاب أن تُبدع في صياغة ثقافة سياسية مغايرة تنزع تلك السوأة وتعيد الأدمغة إلى السويّة. ضرورة وحتمية التعافي يجب أن تكون الشاحذ لهمم قيادات هذه الأحزاب في أن تبدأ بهزّات عنيفة بداخلها لتجدد أنسجتها وتصقل مفاصلها التنظيمية وتقوّي رؤاها وتقرأ حركة الشباب وطموحاتهم ثم تصمم خطاباتها الإستقطابية بما يستوعب تلك الطموحات ويُرسي فعال الإنتقال، وفوق ذلك تكون قادرة على تقديم التضحيات من أجل التغيير، ليس كافياً العزف على تاريخ مضى من التضحيات، فكما لم يتوقف الزمن فإن الباطل ممثلاً في الطامعين من متسلطي السلطة ومحتكريها لن يتوقفوا، وستتواصل محاولات الإستيلاء على السلطة في الوطن بغير تفويض الشعب سواء عبر الإنقلابات أو الثورات المسلّحة أو غيرها، وكلها واقع أفرزته ضرورات متراكمة لا يمكن إقامة إعوجاجها إلا بأحزاب قوية تملك رؤية معاصرة وتمارس السياسة من منطلق الواقعية، وهذا بالتالي يفرض أن يتسارع الإصلاح داخل الأحزاب وأن يتصاعد ويتسارع نضالها وتضحياتها، بل ينبغي أن تكون قادرة على الإبداع في إستنباط الوسائل والآليات بأفضل مما كان سابقاً، وإلا وُصِمت بأنها أضحت أحزاباً عاقرة وبالتالي ستبقى بائرة وسيبحث الشعب عن أحزاب جديدة. نتوقف عن هذه السلسلة من أمّة السودان التي ولدت ثم نبدأ بعد 9 يوليو لنرى إلى أي مدى يمكن للإنفصال أن يكون قد أيقظنا من نومنا العميق.
عبد الجبار محمود دوسه
7/7/2011
Abdul Jabbar Dosa [jabdosa@yahoo.com]