من هم سكان السودان قبل ظهور المسميات القبلية الحالية -9-

 


 

 

حول أصول سكان السودان 9 

ahmed.elyas@gmail.com


قبيلتي الزنافجة  والخاسة
الحلقة الأخيرة رقم 7 التي نشرت  في موقع سودان نايل وجريدة الصحافة كانت عن قبيلة الحدارب، وقد نشرت الحلقة رقم 8 في صحيفة الصحافة عن قبيلة البليين، ثم هذه الحلقة التاسعة عن قبيلتي الزنافجة والخاسة. وقد سبق وإن نَشرْت مقالاً عن البليين في موقع سودانايل تحت عنوان "السكان قبل القرن الخامسعشر الميلادي والحلقات المفقودة بين الماضي والحاضر: قبيلة البليين نموذجاً" ولذلك سوف لن أعيد نشره وسأقفذ هنا من الحلقة رقم 7 إلي الحلقة رقم 9  

قبيلة الزنافجة
الزنافجة من قبائل البجة التي لم ورد عنها قليل من المعلومات. فقد جاء ذكرها عند اليعقوبي وابن سليم والدشقي والمقريزي. ويمكن تقسيم النصوص التي وردت عنها إلى مجموعتين: الأولى عند اليعقوبي والدمشقي والثانية عند ابن سليم والمقريزي. قال اليعقوبي في كتاب البلدان ص 19 -20:

"ومن العلاقي إلى أرض البجة الذين يقال لهم الزنافجة خمس وعشرون مرحلة. والمدينة التي يسكنها ملك الزنافجة يقال لها بقلين. وربما صار المسلمون إليها للتجارات، ومذهبهم مثل مذهب الحداربة، وليس لهم شريعة إنما كانوا يعبدون صنماً يسمونه ححاخوا."

جعل اليعقوبي في نهاية القرن الثالث الهجري (9 م) موطن الزنافجة على بعد خمسة وعشرين مرحلة من العلاقي وهي نفس المسافة التي قدرها لموطن قبيلتي الحداربة والكدبيين رغم أنه لم يذكر أن الزنافجة والحداربة يعيشون سويّاً كما ورد عند ابن سليم والمقريزي. وفي كتابه التاريخ وضع اليعقوبى الزنافج مع سبعة قبائل أخرى بما فيهم الحداربة في مملكة نقيس – المملكة الأولى من ممالك البجة - المجاورة للمسلمين وعاصمتها هجر.

وقد كان الحداربة حكاماً لمملكة نقيس كما يفهم من نصوص المصادر العربية، وقد تعرضنا لذلك عند حديثنا عن قبيلة الحداربة. لكن اليعقوبي وضح في كتابه البلدان – النص أعلاه – أن للزنافجة مملكتهم وعاصمتهم الخاصة بهم وهي مدينة بقلين. وجعل موقع كِلا المملكتين على بعد واحد من وادي العلاقي. فهل يا ترى حدث خطأ في نقل المسافة - في النص أعلاه – بين وادي العلاقي وموطن الزنافجة؟ وكيف أعاد اليعقوبي – في النص الثاني – وجود الزنافجة في مملكة نقيس؟ لم تسعفنا المصادر العربية بمعلومات تساعد على توضيح ذلك.

والنص الوحيد الذي تعرض لذلك هو نص الدمشقى الذي أكد وجود مملكة للزنافجة إلى جانب مملكة الحداربة حيث قال: "البجة وهم صنفان: حداربة وملكهم يسكن هجر، والزنافجة وملكهم يسكن مدينة نقلين" ويبدو اختلاف بسيط في اسم المدينة بتغيير حرف الباء عند اليعقوبي بحرف التاء عند الدمشقي، لكن يبدو أن كلا الكاتبين يرجعان إلى نفس المدينة. ولا يبدو أن الدمشقي اعتمد في معلوماته على اليعقوبي لأن المادة التي أوردها عن الزنافجة لا تتطابق مع ما ورد عند اليعقوبي.

وقد نجد بعض المساعدة أيضاً عند اليعقوبي نفسه في إلقاء المزيد من الضوء على هذا الاشكال. فقد ذكر اليعقوبي أن المملكة الثانية من ممالك البجة يقال لها "بقلين"  فتأكد وجود بقلين كمملكة مستقلة عند اليعقوبي في كتاب البلدان وعند الدمشقي،  وكما هو واضح عند كليهما أن بقلين هي مدينة الزنافجة. فإن الزنافجة إذاً مملكة مستقلة عن مملكة الحداربة، ويفهم من ترتيب ممالك البجة عند اليعقوبي أن المملكة الثانية - مملكة الزنافجة – في بقلين تجاور المملكة الأولى نقيس.

ولا يستبعد أن يكون هنالك جزء من الزنافجة يعيشون في مملكة نقيس خاصة وأن اليعقوبي ذكر أن مملكة بقلين" كثيرة المدن واسعة" ويرى كراوفورد (The Fung Kingdom of Sennar p 103 – 107) أن مملكة بقلين يمكن تحديد موقعها بالقرب من الساحل في المكان المعروف اليوم بـ Bacla والتي ظهرت على خريطة  Almeidaعام 1662 م باسم Baghela، كما ظهرت في خط رحلة Zorzi في القرن السادس عشر على بعد خمسة عشر يوماً جنوب سواكن. 

ويضيف كراوفورد أن اسم بقلا قد تردد كثيراً في المنطقة الواقعه شمال وغرب كرن، ولذلك لم يتردد في جعل موقع مملكة بقلين بالقرب من الساحل في تلك المواضع، خاصة وأنه وضع مدينة هجر عاصمة الحداربة شمال تلك المناطق. ويلاحظ أن كراوفورد يضع معظم مواطن البجة ما بين الساحل وخور بركة.

وأرى أن موقع مملكة بقلين ربما كان إلى الغرب والشمال من المناطق التي ذكرها كراوفورد، أولاً لأنه ذَكَر أسم هضبة تقع إلي الغرب من كرن تحمل نفس الأسماء التي ترددت في المنطقة الواقعة شرقي كرن، وذكر أن الاسم في الأصل ربما رجع إلى اسم لتلك المنطقة. وثانيا ليس هنالك ما يمنع امتداد المنطقة غرباً إلى ما بعد خور بركة. وكانت تلك المناطق كما اتضح من وصف المصادر العربية تتمتع بوفر مصادر المياه والمراعي والمزارع مما يجعلها مواطن استقرار لقبائل البجة.

وإلى جانب ذلك فإن كثيراً من سكان مناطق غربي خور بركة قد بدأوا ينزحوا شرقاً منذ القرن الرابع عشر الميلادي لأسباب سياسية وطبيعية. فأغلب الظن أن مملكة الزنافجة – بقلين -  كانت تمتدة في المناطق الوسطى من خور بركة وفي شماله وشرقه.   

وفي النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (10 م) أورد ابن سليم معلومات عن الزنافجة تختلف عما ورد عند اليعقوبي. ذكر ابن سليم (كتاب أخبار النوبة) نصين عن الزنافجة ربط في أحدهما بين الحداربة والزنافجة ولم يجعل لهم كياناً مستقلاً بل جعلهم تابعين للحداربة حيث ذكر عند حديثه عن البجة:

"ومنهم جنس آخر يعرفون بالزنافج هم أكثر عدداً من الحدارب غير أنهم تبع لهم وخفراؤهم يجبونهم ويحلبونهم المواشي ولكل رئيس من الحدارب، قوم من الرنافج في حملته، فهم كالعبيد يتوارثونهم بعد أن كانت الرنافج قديماً أظهر عليهم"

وقد نقل المقريزي نص ابن سليم هذا كما هو. وفي النص الثاني أشار ابن سليم إلى وجود الزنافجة في مكان آخر فقال:
"ومن هذه الموضع [شمال بلاد علوة] طرق إلى سواكن وباضع ودهلَك وجزائر البحر، ومنها عبر من نجا من بني أمية عند هربهم إلى النوبة، وفيها خلق من البجة يعرفون بالرنافج انتقلوا إلى النوبة قديماً وقطنوا هناك وهم على حدتهم في الرعي واللغة، لا يخالطون النوبة، ولا يسكنون قراهم، وعليهم والٍ من قبل النوبة."

رجع النص الأول إلي الزنافجة في فترتين زمنيتين: الأولى – قديما – حيث كان الزنافجة أقوياء "أظهر عليهم" وربما كان الحداربة في تلك الفترة تحت سيطرة الزنافجة. والفترة الثانية وهي التي ساد فيها الحداربة وأصبح الزنافجة تحت سيادتهم. والنص الثاني يشير إلى وجود الزنافجة بعيداً بجوار النوبة وتحت حكمهم. وتثير هذه المعلومات الكثير من الأسئلة مثل: متى كان زمن قوة الزنافجة؟ ومتي ضعفت قوتهم؟ وما السبب أو الأسباب التي أدت إلى ضعفهم؟ ومتي استقر الزنافجة بجوار النوبة؟ وما هي أسباب تحركهم؟ وهل تحولوا من المنطقة الشرقية نحو النيل أم جاءوا من منطقة أخرى؟

وبالطبع نفتقر إلى المعلومات التي تساعد على الاجابة على هذه الأسئلة أو بعضها، ولكن ذلك لا يمنع من محاولة استقراء ما توفر من معلومات وإلقاء ما يتيسر من ضوء على مسألة الزنافجة. ونبدأ بمحاولة تلمس متى ضعف الزنافجة وسادت قوة الحداربة؟ ربما نجد الاشارة الصريحة لقوة الحداربة فيما ذكره المسعودي  (مروج الذهب ج 2 ص 18) في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (10 م) حيث قال:

"وقد كانت النوبة قبل ذلك أشد من البجة، إلى أن قوتي الإسلام وظهر، وسكن جماعة من المسلمين معدن الذهب وبلاد العلاة وعلاقي و عيذاب، وسكن في تلك الديار خلق من العرب من ربيعه بن نزار بن معد بن عدنان، فاشتدت شوكتهم، وتزوجوا في البجة، فقويت البجه بمن صاهرها من ربيعه"   

وواضح أن البجة الذين أشار إليهم المسعودي هنا هم الحداربة الذين صاهروا ربيعة وتقوا بهم وأصبحوا – كما وصفهم – ابن سليم "شوكة القوم ووجوههم" فهل نربط بداية قوة الحداربة بمصاهرتهم ربيعة في النصف الأول من القرن الرابه الهجري؟

وإذا قبلبنا بداية ظهور قوة الحداربة بهذا التاريخ فمن هم البجة الذين ذكرت المصادر العربية غاراتهم على المسلمين في مدن الصعيد وعلى القاهرة والذين حاربهم المسلمين في ثلاث مواقع كبيرة قبل مصاهرة الحداربة لربيعة؟ هل هم الزنافجة أم قبيلة أخرى من البجة لم تذكر المصادر اسمها؟

في واقع الأمر فإن الحداربة هي القبيلة الوحيدة التي تردد ذكرها في المصادر العربية وكانت على صلة بمناطق التعدين وعلى علاقة بالمسلمين، وورد ذكر الزنافجة بدرجة أقل وملحقين بالحداربة. ولذلك فمن غير المرجح أن يكون الزنافجة هم القوة البجاوية التي ناهضت المسلمين قبل العمل في المعدن وقبل ظهور قوة الحداربة. وإذا قبلنا ذلك ربما كان الحداربة هم البجة الذين أورد الواقدي الروايات التي تقول بمشاركتهم الأقباط بجيش كبير للدفاع عن صعيد مصر.

ومن ناحية أخرى فهل نقبل ظهور الحداربة بتلك القوة فقط بعد مصاهرتهم لربيعة  في الفترة الزمنية الواقعة بين تكامل العمل في التعدين نحو منتصف القرن الثالث الهجري وبين وقت كتابة ابن سليم في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري؟ هل هذا الوقت كافٍ لنمو قوتهم وتحقيقهم كل تلك الامتيازات والسيادة ؟

فرسوخ الأوضاع القبلية والطبقية بالصورة التي ذكرها ابن سليم تتطلب زمناً طويلاً وأجيال متعاقبة يرسخ بين أفرادها ذلك التنظيم الطبقي ويصير ممارسة مقبولة في الكيان الجتماعي. ولذلك فافتراض وجود قوة الحداربة قبل مصاهرتهم ربيعة وأن تلك القوة ازدادت بتلك المصاهرة يبدو أيضاً مقبولاً. فيكون الحداربة كما افترضنا عند الكتابة عنهم سابقاً هم القوة التي ناهضت المسلمين منذ قدومهم مصر. ولا يمنع ذلك من وجود الزنافجة إلى جوارهم في ذلك الوقت كقبيلة أقل قوة منهم.

وننتقل إلى نص ابن سليم الثاني لمحاولة التعرف على الزنافجة المستقرين في منطقة النوبة. وضح ابن سليم أنهم انتقلوا إلى النوبة [قديما] ونهم رعاة ويسكنون في قراهم الخصة بهم لا يخالطون النوبة ولا يتحدثون لغة النوبة بل لغتهم الخاصة وأنهم تابعون للنوبة عليهم والٍ من قِبَلهم.

فهل حدث ذلك عندما فقد الزنافجة قوتهم ووقعوا تحت سيادة الحداربة واختار بعضهم الهجرة غرباً نحو النيل؟ ويبدو ذلك معقولاً وممكناً. أم هم من بقايا البجة البليميين الذين كانوا يقطنون المنطقة قبل انتشار المسيحية، واعتنقوها، وكما أشارت المصادر فقد  كانوا مستقرين في موقع وسط بين مملكتي نوباتيا وعلوة على الناحية الشرقية للنيل. وهذا هو المكان الذي أشار ابن سليم إلى وجود الزنافجة فيه، لكنه لم يشر إلى معتقدهم بينما وضح أن الزنافجة في منطقة البجة يعبدون صنماً لهم.

ولا أعتقد أن  الزنافجة في منطقة النوبة هم من البليين الذين ذكرهم الادريسي لأن هولاء كانوا أقوياء وغير خاضعين للنوبة. ويبقى موضوع زنافجة النوبة والبليين المسيحيين في منطقة النوبة – مثل كثير من موضوعات تاريخ البجة قبل القرن الخامس عشر الميلادي –  في حاجة إلى تضافر جهود المؤرخين والآثاريين وعلماء اللغات لعدم توفر المعلومات في المصادر المتاحة.

وفي نفس القرن الذي كتب فيه ابن سليم رابطاً الزنافجة بالحداربة يطالعنا ابن حوقل (صورةالأرضص 60) ببعض المعلومات عن قبيلتين تعيشان في نفس المنطقة  قريبتا الشبه بما كتبه ابن سليم عن الزنافجة هما: بلاقابات وحنديبا. يقول ابن حوقل: "وتحازي سواكن بطون تعرف برقابات وحنديبا، وهم خفراء على الحدربية، وخفارتهم لعبدك وهم تحت يده" جعل ابن حوقل برقابات وحنديبا خفراء على الحداربة بينما جعل ابن سليم ذلك للزنافجة." وقد علقنا عند الحديث عن قبيلة الحداربة ما يمكن أن يكون قصده ابن سليم من"الخفارة"

ويلاحظ أن ابن حوقل دخل منطقة البجة الحداربة – كما رأينا أعلاه – ولذلك ربما اعتبرت معلوماته أوثق من معلومات ابن سليم الذي دخل منطقة النوبة ولم يدخل منطقة البجة. وبما أن اليعقوبي ذكر أن مملكة بقلين (مملكة الزنافجة) مملكة واسعة وكثيرة المدن، فيرجح ذلك أن سكانها يتكونون من قبائل متعددة. فربما كانت قبيلتا برقابات وحنديبا من بين قبائل مملكة بقلين، أو فرع من قبيلة الزنافجة.

ويبدو معقولاً أن تعيش في مملكة بقلين الواسعة والكثيرة المدن قبائل متعددة مستقرة ومتنقلة. وقد وردت في المصادر معلومات مقتضبة عن مملكة بقلين لا تساعد على إلقاء الضوء على أوضاعها. وصف اليعقوبى سكان مملكة بقلين بأنهم يقلعون ثناياهم، وهو الوصف الذي حعله ابن حوقل لبازين سكان المملكة الثالثة عند اليعقوبي. وذكر اليعقوبي أن سكان بقلين يختتنون ولم أجد هذا الوصف في المصادرالعربية في غير هذا المكان.

وشبه اليعقوبي ديانه أهل بقلين بالمجوسية والنصرانيىحيث ذكر: "أنهم يضارعون في دينهم المجوس والنصارى" بينما ذكرت أغلب المصادر أن البجة الداخلة يعبدون الأصنام. ولست أدري معني تشبيههم بالمجوس والنصارى، هل في طقوسهم أم في تدينهم؟ أم أنه أراد شيئاً آخر.   

قبيلة الخاسة
الخاسة من القبائل الكبيرة والقدبمة في المنطقة فقد ذكر عيزانا كما ورد عند آركل (A History of the Sudan ص 172) في نقشه في القرن الرابع الميلادي أنه ذهب لحرب النوبة الذين أغاروا على عدد من القبائل من ضمنهم قبيلة الخاسة. وحدد ابن حوقل مواطن الخاسة ما بين خور بركة وسواحل البحر الأحمر، وذكر أنهم "بطون كثيرة في السهل والجبل". ويبدو أن المعلومات عن هذه المناطق لم تتوفر للكتاب المسلمين بعد عصر ابن حوقل في القرن الرابع الهجري (10 م) وحتى امتداد حدود المماليك في مصر غلى سواكن  664 هـ / 1265 م. وأول إشارة بعد ابن حوقل للخاسة جاءت عند ابن سعيد (ت نحو 685) في كتاب الجغرافيا ص 60 (موقع الوراق) أثناء حديثة عن تلك المناطق فذكر أن:

"سحرته من أجناس الحبشة المذكورة وعمائرهم ممتدة مع هذا النيل من الجانبين. وفي شرقيه من مدن الحبشة المشهورة كلغور، وهي مجمع لهم في كل ناحية وبها ملتقى من يريد البحر أو النيل أو البرية. وموضوعها حيث الطول ثلاث وستون والعرض إحدى عشرة درجة. وفي شمالي سحرته من النيل إلى البحر بلاد الخاسه وهم مذمومون بين أجناس الحبشة وقد اشتهر عنهم أنهم يخصون من يقع إلى أيديهم ويدفعون ذكور الآدميين في صداقاتهم ويفتخرون بذلك."

تحدث ابن سعيد عن بلاد الخاسة بين النيل والبحر، وإذا قصد بالنيل هنا نيل الحبشة -  الذي كان يتحدث عنه في السطور السابقه – فهويشير إلى النيل الأزرق الذي ذكر أنه ينبع من بحيرة حورس التي تقع على خط الاستواء. وهذا الموقع لا يتناسب ووجود القبيلة في المناطق الشمالية لأن النيل الأزرق لا يمر شمالاً. وربما قصد بالنيل نهر عطبرة أو خور بركة وكلاهما لا ينبع من بحيرة تانا. وأغلب الظن أن الاشارة هنا لخور بركة فابن سعيد جغرافي عاش في الغرب الاسلامي ولم يزر هذه المناطق، وربما لم يعتمد على مصادر ذات صلة ومعرفة بالمنطقة فجاء في معلوماته بعض الاضطراب. ويبدو ذلك واضحاً من وصفه للقبيلة وهو الوصف الذي انفرد به والذي يعكس ضعف معلوماته عن المنطقة وسكانها.

وأتت معلومات مختصرة جدّاً عن الخاسة بعد ابن سعيد في القرن الثامن الهجري (14 م) عند النويري في كتابه (نهاية الأرب ج 1 ص 66) وعند الدمشقي والمقريزي في القرن التاسع الهجري (15 م) وقد جاءت معلومات النويري والمقريزي متطابقة أذ جعلا مدينة سواكن موطناً للخاسة، وذكرا أنهم مسلمون ولهم مملكة خاصة بهم.

ذكر الدمشقي في كتابه (نخبة الدهر في عجائب البر والبحر) أن الخاسة يعيشون إلى جوار الحداربة، وقسمهم إلى قسمين: "خاسة السفلى كفار، وخاسة العليا مسلمون، وهم أقل الناس غيرة ونخوة على النساء. وغالب هؤلاء لا يلبسون المخيط، ولا يسكنون المدن" ويبدو أن معلومات المصادر العربية عن البجة وبلادهم كانت في غاية الندرة والاضطراب حتي بالنسبة للمقريزي الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي في مصر.

ويلاحظ على موقع القبيلة عند ابن حوقل أنه إلى الجنوب كثيراً من سواكن التي جعلها النويري – ونقل عنه المقريزي – موطناً للخاسة، بينما لا يرتبطون عند الدمشقي بسواكن، ومن الممكن عنده أن تكون ديارهم إلى الجنوب. ومعلومات ابن حوقل تعتتبر أكثر مصداقية من النويري – الذي كان عائشاً في مصر لكنه لم يزر المنطقة – وأصدق من معلومات الدمشقي الغريب عن المنطقة.

ويرى كراوفورد أن موطن الخاسة كان بالقرب من كرن، بينما يضعهم موزنجر جنوب أسمرا بناءاً على ما ذكره ابن سعيد من أن موطن الخاسة شمال سحرتة. فقد جعل موزنقر موقع سحرتة جنوب أسمرا. ويبدو أن قبيلة الخاسة – كما وصفتها المصادر -  كانت قبيلة كبيرة ربما امتدت من مناطق أسمرا جنوباً حتى مدينة سواكن شمالاً. فقد ذكر الدمشقي والنويري أنهم مسلمون مما يوضح ارتباطهم بالمسلمين شمالاً. وذكرا أن لهم مملكة خاصة بهم مما يوضح مدى قوتهم وعدم خضوعهم للحداربة الذين رأينا قوتهم وسيطرتهم على المناطق الواقعة إلى الجنوب والغرب من سواكن.

وقد يؤيد قوة الخاسة واتساع مواطنهم شمالاً وجنوباً ما ذكره الدمشقي من أن الخاسة قسمين متميزين: خاسة العليا وكانوا مسلمين وخاسة السفلى الذين قال عنهم أنهم كفار، مما يشير إلى بعد مواطنهم في الجنوب. 

 

آراء