قراءة في ورقة الصادق المهدي: دور الصحوة الإسلامية في تأمين حقوق الشعوب. بقلم: بابكر عباس الأمين

 


 

 


إضافة لتركها الكتاب، يقول الصادق أن الصوفية فوضت أمرها لولي هو حلقة الوصل بالنبوة، وطاعته من طاعة النبي. بيد أنه لا يستنكر هذا المبدأ من أصله، إنما لأنه يعتقد أن جده محمد أحمد هو الأكثر تأهيلاً له، كما أشار في "الحجة الثامنة" إلي أن ملامح دعوة المهدي خلصت إلي "ربط بين الدعوة والحاجة الملحة إلي ملء الفراغ القيادي بالجلوس علي مقعد الخلافة عن النبي (ص) الشاغر." ليس هذا فحسب، بل ذهب إلي أن الأمة مُلزمة بطاعة جده لصدور أمر غيبي له. وههنا يكمن الخلاف بين المهدية كنظام فاشي لا يطيق الرأي الآخر، والصوفية ذات الطبيعة الليبرالية، التي لم تفرض علي الأمة اتباع وليها، ولم ترفع راية جهاد علي الذين لم يؤمنوا بها من المسلمين. ولكيلا يحدث فراغ في مقعد الخلافة عن النبي بعده، أوصي محمد أحمد بجلوس عبدالله التعايشي عليه قائلاً: "هو مني وأنا منه وسلِّموا إليه ظاهراً وباطناً، فجميع ما يفعله بأمر من النبي وأعلموا يقيناً أن قضاءه فيكم هو قضاء رسول الله."
كيف كانت حقبة الذي يفعل أوامر الرسول الكريم؟ يكاد يقشعر البدن من التطرق لتلك الفترة الشبيهة بحكم صدام حسين، والتي كانت حقبة حروب خارجية وداخلية، وفتك بالمعارضين السياسيين. خارجياً، حارب التعايشي مصر والحبشة وأرتريا. ومثلما فعل صدام بتقريب عشيرته في تكريت، واستعداء الأكراد والشيعة، قام عبدالله بتمكين قبيلته وحرب القبائل التي لم تؤمن بمهديتهم، كالشكرية والجعليين والكبابيش، وإنشاء جهاز أمن لحمايته مكَّون من آلاف اختارهم من قبيلته. بيد أن صدام السودان قد "تفوق" علي صدام العراق لأنه قام بسبي الحرائر المسلمات، إذ بعث له محمود ود أحمد ب 234 جارية من المتمة، مما حدا بنسائها الهروب أو إلقاء أنفسهن في النيل، تفادياً للسبي والعار. والحق أن مثل هذه البلطجة لم تحدث حتي من الغزاة والمحتلين كالتتار، أو الحروب الصليبية، أو اليهود في فلسطين. وإن كان للصادق – الذي ما برح يكرِّر الحديث عن البشير والجنائية – شجاعة أدبية، لقدِّم اعتذاراً لتلك القبائل الثلاث لما إرتكبه التعايشي من جرائم ضد الإنسانية معها.
تجدر الإشارة إلي أن بعض منظري ومؤيدي "المشروع الحضاري" قد اتخذوا من المهدية مرجعية لمشروعهم الوهمي. العالم عبدالوهاب الأفندى، علي سبيل المثال، له آراء رومانسية عن المهدية، حين ذكر أن تدمير الدولة المهدية هو نتاج مباشر لتدخل القوي الأجنبية ورغبتها في تصفية المشروع المهدوي. وإن افترضنا أن هذه القوي الأجنبية لم تقض علي هذا المشروع، واعتبرنا أن فترة التعايشي كانت كدولة المدينة من حيث العدل وصون الحقوق، واستمر حكمه حتي عام 1930. هل كان لديه أفق أو حيلة أو وسيلة لإنشاء بنية تحتية اقتصادية وتعليمية، كالسكك الحديدية، خزان سنار، جسري النيل الأزرق والأبيض، كلية غردون والمدارس الثانوية؟ يضيف الأفندي، في أسلوب شبيه باسلوب الصادق في تعظيم المهدية، إلي أنها أدت إلي إحلال السودان موقعه بين الأمم؛ كأن الملكة فكتوريا قد وافقت صاغرة أو طائعة علي دخول الإسلام وزواج علي ود دكين، مما أصاب ملكات وأميرات أوروبا بالغيرة فتنافسن لزواج أبي عنجة ومحمود ود أحمد.
نعود للحبيب الصادق وهو يتحدث الغرب قائلاً: "وجدت في الفلسفة الغربية آراءاً مشرقة، ولكنني مهما بحثت لم أجد رؤية فلسفية غربية حديثة واحدة لا يوجد نظير لها في تراثنا الفلسفي." هذا الجزء يحمل في أحشائه التناقضات، إذ أن الاستهلال بالغرب يفيد بوضعه كمعيار؛ وإن كان المتحدث واثقاً مما يقول لما استهل الجملة بالاشادة بالفلسفة الغربية، ولا تطرق لها، في أسلوب تسميه الفرنجة All the way around. ورغم أن جميع الفلسفات والحضارات لها بُعد أممي كإرث للبشرية، إلا أن جذورها الأولي تنبت في بيئة ثقافية تفرز أحياناً نُظماً خاصة بها. المذهب الفردي، مثلاً، هو وليد حضارة الغرب، وليس لدينا نظير له، ولا يلائمنا، وربما لا نحتاجه. والواقع أن تناقض الصادق يكشف عن نفسه بصورة أفضل في "الحجة السادسة"، حيث ذكر أن الحضارة الغربية تجربة إنسانية هامة، خاضت ثلاث ثورات تحررية في العلم والسياسة والاقتصاد. وكان ما ذكره الصادق عن تداعيات تلك الثورات في العالم الإسلامي هو مجرد رد فعل، وليس فعل.
ومن ضمن الملفات التي تتطلب استنساخ، كما جاء في الحجة التاسعة، نادي الإمام باستنساخ الماضي في "العلاقات مع الآخر الملي" وحقوق المرأة. يجد المرء، أيضاً، تناقضاً واضحاً في هذا الملف مع مفهومه لمبادئ حقوق الإنسان، التي وردت في ذيل الورقة، وهي العدالة والمساواة والحرية والكرامة والسلام؛ والتي يُفترض أن تعني تساوي المواطنيين في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن دينهم أو جنسهم (ذكر وأنثي). وفيما نعتقد أن تعبير "الآخر الملي" لا يجوز لوصف أهل الكتاب في هذا العصر، لأن ذكر "الآخر" يفيد بأن هنالك مقابلاً هو "الأنا"، ووجود حاجزاً بينهما، قائماً علي أساس الدين. وعليه، فإن حديث الصادق عن دولة المواطنة يصبح محل شك، وليس من المقنع ان نعذره لأن الخطاب موجَّه لمؤتمر إسلامي، لأن الذي يقتنع بمبدأ لا يتغير بالمكان سواء كان في إيران أو الفاتيكان. ولعلنا لا نبلغ الشطط إذ نقول أنه لا يوجد فرق كبير بين النظام الحالي ونظام ديمقراطي يرأسه الصادق، لأن مرجعية الأخير هي أيضاً أسلمة هلامية؛ كما شهدنا من طرحه لقوانين بديلة لقوانين بدرية الانقلابية، بعد أن نكص من شعار حملته الانتخابية "إلقاء قوانين سبتمبر في مزبلة التاريخ."    
الفجوة الرئيسية في الورقة، والتي تنبئ عن فجوة فكرية لدي الصادق، تتضح فيما أثاره عن علاقة  الماضي بالمستقبل، مع غياب تام الحاضر. وقد لخصها الإمام نفسه في أول جملة: "الصحوة الإسلامية، هل هي عودة للماضي أم مخاطبة للمستقبل؟" ففي حين أن الجملة تطرقت لماض نختلف حوله، وقفزت لمستقبل غير معروف كنهه، نجد أن هنالك غياب تام للحاضر، حيث لم يقدِّم الصادق شيئاً. ولا شك أن المُجدد الوحيد هو المرحوم محمود محمد طه، الذي قدَّم اسهامات رائعة هي السبيل لخروج المسلمين من مأزق القوقعة والتقليد، وتنسجم مع صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، من خلال مفهومه عن القرآن المكي والمدني، وإنصافه للمرأة. وكان كل ما أثاره الإمام الصادق هو مجرد شكليات، شبيهة بركب الموضة تماشياً مع صهره، كحديثه عن أن الحجاب ليس من الإسلام في شيء. وبهذه المناسبة، فإن الإمام مندهشاً بابن العاص، لأنه حسب ما ذكر، أنه هو الذي دعاه ليصاهر الأسرة، وأصرَّ علي ذلك رغم معارضة شرسة من أسرة المهدي.   
والخلاصة، أن مثلبة الصادق أو أزمتة الحقيقية هي أنه لا ينظر للمهدية كحلقة من حلقات التاريخ السوداني لها خيرها وشرها، بل كبداية لهذا التاريخ. ولا ريب أن هذا ظلم وإجحاف لحلقات أساسية شكَّلت الهوية الثقافية السودانية من ممالك كوش، الفونج، المسبعات، الفور، النوبة والبجة. وهذه المسألة بالنسبة للإمام ليست قناعة شخصية فحسب، بل يريد إقناع الآخرين بها، كأنها حقيقة علمية. والمهدية، للحبيب، ليست ماض ذهبي فقط، بل آلية تقدِّم حلول لمشكلات حالية أو مستقبلية، كما ذكر عن توحيد أهل القبلة في الحجة الثامنة "الحاجة لوظيفة للهداية"، كأنها نهاية التاريخ وفرانسيس فوكوياما، ولعمري هذا خطل الرأي بعينه.  
(انتهي)
Babiker Elamin [babiker200@yahoo.ca]

 

آراء