حفريات لغوية – أثر الأساطير الآفرواسيوية في اللغات الأوربية
عبد المنعم عجب الفيا
21 January, 2012
21 January, 2012
كان المفروض ان تمثل هذه المقالة من الحفريات، الحلقة الرابعة من سلسلة (الجذور المشتركة بين العربية والانجليزية) ولكن لاهمية الموضوع وشموليته، وتماسه مع حقول معرفية أخرى، آثرت أن تاتي تحت هذا العنوان: " أثر الاساطير الآفرواسيوية في اللغات الأوربية".
ففي البداية عندما هممت بعقد هذه المقارنات الصوتية والمعنوية بين بعض المفردات في العربية والانجليزية، كنت أظن أن المسالة لا تعدو تشابه بضعة كلمات هنا وهنالك. وما حسبت وقتها أن الموضوع أكبر وأعمق من ذلك بكثير وأنه يتجاوز المقارنات اللغوية ليضرب بجذوره في اعماق التاريخ والحضارات والديانات القديمة. فهو إذن مسألة أولوية حضارية وثقافية قبل ان يكون مسألة لغوية.
في اثناء قيامي بتقصى مزيد من المفردات المتشابهة لفظا ومعنى بين العربية والانجليزية، لكتابة مادة الحلقة الرابعة من السلسلة المذكورة توقفت عند الكلمة الانجليزية phallus والنسبة إليها phallic وكان قد لفت انتباهي قبل ذلك، التشابه بينها وبين كلمة "فلك" بالفتح- في اللهجة السودانية العربية. وهي غير فَلك بمعنى نجم وغير فُلك بالضم في معنى سفينة.
وقد قادني البحث عن مصدر هذا التشابه وأصله إلى اكتشاف مفردات أخرى كان وجه الشبه فيها غائب عني، منها كلمة bullفي الانجليزية وعدد من اللغات الاوربية الاخرى، بمعنى ثور، وقد قادني التدبر فيها إلى اكتشاف العلاقة بينها وبين كلمة "بعل" في العربية واللغات السامية من جهة وبينها وكلمة "فحل" العربية و"فالوس" الاوربية، من جهة أخرى.
ثم ما لبثت أن توصلت بعد تدبر إلى أن جميع هذه الكلمات : بعل وثور وفحل وفلك، وما يقابلها في اللغات الاوربية ذات جذر واحد يتعلق بإله الفحولة والخصوبة والنماء والتكاثرفي ميثيلوجيا شعوب شمال افريقيا ( السودان ومصر) وشعوب منطقة الشام القدماء من الفينيقيين والكنعانيين، والبابليين ببلاد ما بين الرافدين. ويسمى هذا الاله عند الكنعانيين الفينيقيين "بعل" أي الاله الثور. ولكنه يتخذ اسماء أخرى عند باقي الشعوب القديمة.
فكلمة phallus تعني في الانجليزية واللغات الاوربية الاخرى قضيب الذكر. في اللاتينية أيضا phallus وفي الاغريقية phallos وتستعمل الكلمة حديثا رمزيا كمصطلح في التحليل النفسي عند فرويد وجان لاكان. وبالبحث عن مصدر هذه الكلمة "ايتمولوجيا" تحيلنا المراجع إلى كلمة bull في الانجليزية بمعنى الثور الفحل وهي كذلك في اللغات الاوربية الاخرى. ولكن عندما نبحث عن أصل كلمة bull تحيلنا ذات المراجع إلى كلمة bhel وإلى كلمة phallos الاغريقية مرة أخرى.
وقد لفت نظري أن كلمة bhel التي أحالتنا إليها المصادر، شبيهة بل تكاد تتطابق مع كلمة "بعل" في العربية. ولا يكاد يوجد، من حيث النطق، فرق بينها وبين كلمة bull الانجليزية. و"بعل" كلمة سامية نجدها في الفينيقية الكنعانية وفي العربية والعبرية والحبشية الامهرية وتنطق في جميع هذه اللغات كما في العربية.
وهنا علينا أن نتذكر أن العين وهو من الحروف الحلقية، غير موجود في اللغات الاوربية. وذلك بخلاف اللغات السامية التي تتميز بالحروف الحلقية كالعين والحاء والغين. وعلينا ان نتذكر أيضا أن الكلمات حينما تهاجر من لغة إلى أخرى تفقد بعض خصائصها الصوتية وتكتسب بعض الخصائص الصوتية الاخرى التي تلائم اللغة التي انتقلت إليها. ولذلك عندما انتقلت كلمة " بعل" من اللغات السامية، فقدت حرف العين الذي لا وجود له في اللغات الاوربية واستعاضت عنه ببعض الحروف اللينة.
ومن معاني بعل في اللغة العربية: زوج. جاء في القرآن الكريم :" وهذا بعلي شيخا". وفي العبرية أيضا، بعل، تعني، زوج. وفي الحبشية الامهرية كذلك، ولا تزال بعل في الامهرية حية مستعملة في لغة الكلام بمعنى زوج.
أما في اللغة الفينيقية الكنعانية، فبعل تعني ثور. وبعل الاله "الثور" معروف في الديانات السامية القديمة بخاصة في حضارة أوغاريت الفينيقية. حيث كان يجسد في صورة ثور، رمزا لإله الخصوبة والجنس والفحولة والتكاثر. ولا تزال مدينة بعلبك في لبنان تحمل اسمه.
وقد وردت الاشارة إلى الاله بعل في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالي:" أتدعون بعلا وتذورن أحسن الخالقين". إي اعتبدون ربا غير الله.
وفي هذا السياق يقول لسان العرب:" بعل صنم لقوم يونس، وفي الصحاح انه صنم لقوم الياس. وقال الازهري أنه صنم من ذهب يعبدونه". وذكره لصنم الذهب هنا فيه إشارة لعجل بني اسرائيل. فقد جاء في التوراة انه لما غاب موسى عن قومه في صحراء سيناء وعاد اليهم بعد فترة وجدهم يعبدون عجلا من ذهب Golden Calf أو بالعبرية: " عجل هاذهب" والهاء هنا تقابل اداة التعريف أل في العربية. وقد وردت الاشارة إلى هذا الخبر أيضا في القرآن الكريم.
وقد تركت كلمة بعل بالمعنى الديني ظلالها في اللغة. فمن معان بعل في العربية، سيد ومالك. جاء في حديث الايمان: "أن تلد الأمة بعلها" اي سيدها ومالكها (انظر لسان العرب). وبعل البيت، سيده وربه، ومنها قولهم : إذا كان رب البيت للدف ضاربا. قارن بين قوله تعالى :" وهذا بعلي شيخا". وقوله تعالى: " وألفيا سيدها لدى الباب".
أما كلمة phallusفتقول المصـادر الغربية أن أصلها من كلمة bhel وهي فعل في الاغريقية بمعنى ينتفخ ويتضخم، والاشارة الى عضو الذكورة هنا لاتخفـى( انظر موسوعة ويكيبيديا الانجليزية ومعجم ايتمولوجي بالروابط ادناه). غير أن هذه المصادر لا تشرح لنا كيف جاءت فالوس من الفعل المذكور.
لكن انظر الشبه اللفظي بين bhel و"بعل" ! ومن ذلك توصلت إلى ان phallus هي تحوير لكلمة "بعل" حدث فيها ابدال حيث قلبت الباء فاء وحذفت العين. والزائدة us او os "وس" علامة التذكير في اللاتينية والاغريقية. وتبادل الباء والفاء معلوم في علم الصوتيات. وأوضح دليل على ذلك نطق الحرفين ph ، فاء، في اللغات الاوربية، فكأن فالوس هي بالوس. وبذلك ننتهي إلى أن عضو الذكورة في الكلمة الاوربية phallus يشير في الاصل إلى الثور الفحل "بعل" ثم عمم وصار يقصد به قضيب الذكر مطلقا.
لكن إذا نظرنا في bhel مرة أخرى نجدها تشبه كلمة "فحل" العربية، وهذا يفتح الباب على احتمال أن تكون كلمة "فالوس" أخذت أصلا من صيغة فحل بمعنى بعل. فأسقطت الحاء لانه لا يوجد ما يماثلها في اللغات الاوربية واستعيض عنها بحرف لين. وفحل ربما كانت لغة عربية قديمة في بعل. مثل مكة وبكة، وثوم وفوم. والبعل فحل. يقول لسان العرب: " الفحل معروف الذكر من كل حيوان". وهنا تلتقي فالوس وفحل عند أصل واحد هو بعل!
ولكن من أين جاءت كلمة "فلك" في العربية السودانية بمعنى عضو الذكر؟ هل أخذت مباشرة من " فالوس" في اللغات الاوربية أو من النسبة إليها "فالك" ؟
نحن نستبعد ان تكون " فلك" أخذت من اللغات الاوربية مباشرة، فلو كانت كذلك لوجدناها فقط بين جمهور المتعلمين الذين تأثروا بالثقافة الغربية ولكنا نجدها بين عامة الناس وفي البيئات الريفية البدوية غير المتعلمة. ونرجح ان اللهجة السودانية قد ورثتها عن مصدر آخر غير العربية. فهنالك مثلا كثير من الالفاظ السودانية لا نجدها في العربية بذات الصيغة ولكنا نجدها في اللغات السامية الاخرى كما هي.
هذا، ولم تكتفي اللغات الاوربية باستعارة كلمة بعل بمعنى ثور من اللغات السامية بل أخذت أيضا كلمة ثور ذاتها Taurus مكونة من تور بالتاء كما في اللهجات العربية، وعلامة التذكير في اللاتينية وس us. وبالبحث عن أصل هذه الكلمة في اللغات الاوربية تثبت المراجع الغربية انها سامية الاصل من ثور( انظر معجم ويكيشنري بالمصادر ادناه). فهي في العربية ثور وفي العبرية سور أو شور إذ لا يوجد حرف الثاء في العبرية وتحل محله السين والشين.
وتستعمل Taurus غالبا في لغة الابراج. ويقع برج الثور في عز فصل الربيع (ابريل) وذلك في اشارة إلى الاله الثور"بعل" رمز الخصوبة والتكاثر والحياة في الحضارات السامية القديمة. وفي تقديري وارجو ان يكون صحيحا أن برج الثور يقابل عند العرب النجم " سهيل" حيث وجدت بلسان العرب تحت مادة " فحل" قوله: " والعرب تسمي سهيلا، الفحل، تشبيها له بفحل الابل، لاعتزاله النجوم، وذلك أن الفحل إذا قرع الابل اعتزلها".
وإذا صح التقدير فان تشبيه النجم سهيل بالفحل يتضمن إشارة إلى الاله الثور الفحل "بعل" وهذا يقوي ما ذهبنا إليه من أن فحل لغة في بعل. إلا أن ما يشككني في الربط بين برج الثور "بعل" وسهيل، مقولة يرددها أهلنا وهي :"سهيل الما عقبها سيل" أي انهم يجعلونها في آخر أيام الخريف. إلا إذا قدرنا أن الخريف عندنا يقابل الربيع عندهم.
والآن إذا نظرنا في اسباب تاثير الساميين اللغوي على الاوربيين نقول أن هذا التاثير اللغوي وراءه تاثير حضاري وديني. وظل هذا التاثير الحضاري والديني حتى ظهور المسيحية وانتشارها في أوربا. فالمعروف ان المسيحية ديانة سامية شرقية. وقبل المسيحية أخذ الاغريق الكثير من الاساطير الدينية من الفينيقيين والبابليين ومن حضارة وادي النيل. ومن ذلك إله الخصوبة "بعل" والذي صار عندهم دينيسيوس. وتذكر المصادر ان دينيسيوس كان يجسد في صورة ثورأي "بعل".
وتشير المصادر أن الساميين الفينيقيين أخذوا بصفة خاصة عبادة الاله الثور من حضارة وادي النيل. فكان الفراعنة منذ الاسرة الاولى، يجسدون اله الخصوبة والفحولة والتكاثر " ابيس" و"منفيس" في صورة انسان برأس ثور. إن اتخاذ بني اسرائيل عند خروجهم من مصر وهم في رحلة التيه في صحراء سيناء العجل إلها يدل على تاثرهم بديانة الفراعنة. وتذكر المصادر أن الاله " ابيس" كان يصور في صورة عجل أسود. ( انظر آلهة المصريين بالانجليزية بالرابط أدناه بالمصادر).
يقول عالم الانثروبولوجيا الفذ جيمس فريزرفي كتابه The Golden Bough (الغصن الذهبي) أن الاغريق اخذوا عبادة آلهة الخصوبة والفحولة مثل ادونيس وافروديت من قدماء المصريين والبابليين والفينيقيين. ويقول أن أدونيس في الاصل السامي، هو أدون أو أدوناي بمعنى رب وهو نسخة شابة من الاله بعل. ويقابله عند البابليين الاله تموز. ويذهب فريزر إلى ان فكرة الاله المصلوب المجسدة في المسيحية مستمدة من طقس قتل رمز إله الخصوبة والنماء كل سنة ودفنه في المزارع كضمان لعودة الربيع واستمرايته كل عام.- الغصن الذهبي ص 300-304
والجدير بالذكر، أن جيمس فريزر، قد خصص في كتابه مساحة لمناقشة التقليد القديم بشان قتل الملك "رث" عند قبائل الشلك بجنوب السودان وقبائل الانقسنا بجنوب النيل الازرق، ودفنه حيا ، وذلك عند المرض الشديد او الهرم حتى تنتقل روح الرب منه الى خلفه والى رعيته من بعده، سليمة معافاة، حفاظا على استمرارية الخير والتكاثر والخصوبة. يُذكر ان كتاب (الغصن الذهبي) صدر أول مرة سنة 1906 ويعد، الكتاب، عمدة، في مجاله.
هذا، وقد بلغ اعزاز الفينيقيين بالاله الثور"بعل" أن اتخذوه رمزا للحرف الاول من الابجدية "أليف". وأليفAleph في اللغة الفينيقية الكنعانية هو الثور المخصص للحرث وهو في الانجليزية ox وقد أخـذ الاغـريق اسم الحرف الاول ورسمه A من الفينيقية. وهو في الكتابة الفينيقية A نفسها مرسومة افقيا متجهه يسارا لتشكل رأس ثور. ومن أليف الفينيقية نحت الاغريق كلمة Alphabeta اسما لمجموعة حروفهم الهجائية. وهي مكونة من الحرف الاول في الاغريقية، ألفا، والحرف الثاني بيتا (الباء) وهي من بيت الكلمة السامية المعروفة. وفي الانجليزية Alphabet (انظر الحلقة الاولى من مقالنا: الجذور المشتركة بين العربية والانجليزية).
وفي ذلك يقول المؤرخ الايطالي سبتينو موسكاتي في كتابه (الحضارات السامية) أنه "من المقطوع به، أن الصورة الفينيقية للأبجدية هي التي سادت في العالم السامي، ثم انتشرت فيما وراءه باعثة الابجديتين اليونانية واللاتينية.. ولكن ليس المقطوع به الى هذا الحد ان الاختراع الاصلي يرجع الى الفينيقيين خاصة، وإن كانت هنالك عدة دلائل تؤيد هذه النسبة" فهو يرجح أن الكتابة الفينيقية " اشتقت من الرموز الهيروغليفية المصرية". ص 95.
للاطلاع على تاريخ نشوء وتطور انتقال الابجدية الفينيقية إلى الاغريقية واللاتينية واللغات السامية الاخرى انظر الرابط :
http://en.wikipedia.org/wiki/Greek_alphabet
مصادر:
1- سبتينو موسكاتي، الحضارت السامية، ترجمة د.السيد يعقوب، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 1997
2- فقه اللغات السامية، كارل بروكلمان، ترجمه عن الالمانية د. رمضان عبد التواب، استاذ اللغويات - كلية الاداب - جامعة عين شمس، مطبوعات جامعة الرياض، 1977
3- لسان العرب، ابن منظور، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة.
4- James Frazer, The Golden Bough, Oxford Press,1994
5- http://en.wikipedia.org/wiki/Phallus
6- http://www.etymonline.com/index.php?term=phallus
7- http://www.ancientegyptonline.co.uk/bullcult.html
8- http://en.wikipedia.org/wiki/Bull_(mythology)
abdou alfaya [abdfaya@yahoo.com]