المهيدي … ذاكرة القرية المستدامة
د. حامد البشير إبراهيم
3 March, 2012
3 March, 2012
(3)
hamidelbashir@yahoo.com
كانت الراكوبة الكبيرة والفناء الفسيح الذي أمامها (الضرا) يمثلان برلمان القرية ومدرستها وناديها، وفوق ذلك يشكّلان معاً ساحة لتجاذب الحديث والقيلولة أثناء نهار السافنا الحار، حيث الناس بأجسامهم النحيلة ووجوههمالشاحبة يتقاسمون مساحة الراكوبة كما يتقاسمون مساحة الحياة الدنيا: أحدهم على مصلاية وإثنين على البروش وآخرون على سجادات البلاستيك، وكبار السن منهم على أسرة وعناقريب، وبعض عيال المدارس على الكراسي المهترئة، وهم يرشفون الشاي والقهوة ويحركون وببطء ــ عجلة الحياة من هذه الراكوبة، وكذلك ينضمون سبحتها ويضعون شاهدها حيث يكون. والسبحة مهمة في حياة الناس الواقعية والمتخيلة الآنية والآتية، الدينية والدنيوية وفي إجراء العمليات الحسابية البسيطة على الرغم من إختفاء ظاهرة ملاك المواشى الذين يحسبون سعيتهم بالسبحة. "البهايم قلت ونفقت، والخريف إتقاصر، والممتلكات لا يحتاج حسابها لأكثر من أصابع اليد الواحدة أو بالكثير اليدين.. والحمد لله"... قالها حسن ود خميس أبوكلتومة بصوته الخافت العميق وكأنه يختزن إحتجاج خمسين عاماً على تهميش الريف الغربي.
السبحة أيضاً مهمة في حياة الناس الإجتماعية ـ السياسية حيث أن شاهد السبحة يرمز للقيادة التقليدية في القرية أو في القبيلة أو في البلد: وحينما تفرض السلطات المحلية إجراءات لم تراعي فيها ملامح ومكونات البناء الطبقي أو التراتبية الإجتماعية في القرية (في المجتمع) مثل تلك التي فرضها جعفر النميري (1970) مع آخرين عندما حلّ الإدارة الأهلية وفُرضت ترتيبات وشخوص دون مراعاة للواقع المحلي، وصف أحدهم الأمر: " تصور إنك أخذت سبحتك في أول المساء (مع المغرب كدا) وبدأت تتجول وتتفقد مُراحك من الماعز داخل زريبته وأنت ماسك أورادك، وفجأة إنقطعت السبحة داخل زريبة الغنم، وقد إختلطت حبات السبحة بالحبات الأخرى... هذا هوا الواقع الآن" كانت كلمات الأستاذ إبراهيم الأغبش المفعم بوعيه الطبقي والمحُتج بإستمرار إلى إنحداره إلى أسفل السلم التراتبي وبروز آخرين على قمته.
- على الرغم من أن ستين عاماً قد إنقضت منذ أن تولى أولاد البلد حكم السودان وأن الحداثة قد غطت شتى مناحي الحياة حتى الِجبَّة والسُروال والنَعاَّل والطاقية والعِمَة كلها أصبحت صناعة صينية (ذكر أحدهم في حلقة الأنس).
- رد عليه آخر: يازول خلي كلام الجبة والسروال حتى السبحة ذاتها بقت صناعة صينية.
- إنت الجماعة الصينين ديل بقوا مسلمين ولا شنو ؟
- ما أظنهم.
- لكن شايف جماعتنا ديل (ناس الحكومة) عسل على لبن معاهم.
- والله حكومتنا ده بقت تقابض ساكت، التسوي غلبها الأيام الفاتت ده.
- ماقالوا إسرائيل ضربتها بشغل هي ذاتها ماعارفاه: صاروخ، طيارة، صاقعة، جن أحمر، غايتو شغل ما معروف.
- ياجماعة كلام الحكومة دا خلوه ... نحن مع الحكومة ده بس "وليد تابع حبوبتو" خلونا من الكلام ده ولا الحكومة ولا الصينين ماغيروا لينا حاجة : الحشاش(الملود) والطواري حقتنا ده ياها شغالين بيها من زمن الإنجليز. بالله خلونا من الكلام ده، الخريف فضل ليه كم يالمهيدي ؟ كان السائل سعد الله (أبوالبُنْ).
كان في تلك الأثناء المهيدي مشغولاً بالرَمُلْ وتفسيراته وقراءاته للمستقبل وللخريف وللمصاريف (التي ربما تأخرت بعض الشئ). كان المهيدي لا يحب السياسة، بل يحب الحياة، كأنه كان يعتبر السياسة نقيض الحياة. كان يرى الحياة في أوضح صورها في الخريف والذي تستبين فيه مفاتن الأرض ومفاتن الحيوانات التي تكثر من العُشار خريفاً. كان خبيراً في الخريف وفي الزراعة وفي السعية، وكلها يجملها في قولة " كلام الدنيا" أما الفكي الصادق شقيقه الأصغر، فكان خبيراً في كلام "الله قال والرسول قال" (كلام الآخرة): وقد تتنافر هذه الثنائية أحياناً (أرنب وسفروق) وقد تتجاذب في أحيانٍ أخرى (دراويش لاقو مُداح) أو (رز بلبن):
إستعدل المهيدي في جلسته وبدأ في حساب عينات الخريف:
اليوم 13/6 تبدأ عينة "العصا العطشانة" وهي أيضاً تسمى "عينة الهكعة"، ومدتها 13 يوم وثلث، تنتهي يوم 25/6، لتبدأ بعدها عينة العصا الرويانة أو الهنعة من يوم 26/6 لغاية يوم 7/7. في يوم 7/7 تبدأ عينة الضراع وتستمر لغاية يوم 20/7. الضراع ده "إن صدق خريف وإن كضب صيف". ثم رجع قافلاً بتركيزه إلى حيث تخطيط الرمل وقراءة مستقبل تأبى على النبوءة وعلى الإستقراء، وفي الأثناء كان صدى ذلك الأنس في راكوبة المهيدي في كردفان الجنوبية يردده شادي من بادية الكبابيش في شمالها تأكيداً لتوأمة كردفان ولوحدانية روحها وإحساسها:
مرق نجم الضُراع وهطلَّن أمطارو
قاموا المنتبهين لزرعو ولذيذ أثمارو
جنابت الشَمِش الجرى طلب نظارو
غادي مسافة يامولاي تقرٍّب حالو
وقد خنقت العبرة موسى آدم شرا وهو يخرج من الراكوبة.
.... إستغفر الله العظيم
الدنيا المتحزِّم بيها عريان
خربانة أم بناية شوك
.. خربانة
مافيها فايدة
فايدة مافي
إستغفر الله ... ألله يرحمه
ويوسده الباردة.....
.....................
...............
نواصل.