مبروووك ، ميته وخراب ديار

 


 

د. حسن بشير
21 June, 2012

 



نبارك للجميع زيادة أسعار الوقود وغاز الطعام إضافة لرفع فئات عدد من الضرائب وفرض رسوم إضافية وتحرير سلعة السكر (المنفلتة) والشروع في مناقشة صرف منحة بمبلغ مائة جنيه كاملة الجنيه ينطح الجنيه، ابتداء من يوليو القادم. لقد أوفت الحكومة بوعدها وهي في هذه الحالات، والحق يقال وفية جدا لا تنكص عن عهد. نبارك بشكل خاص للذين راهنوا علي ان الحكومة لن تفعل ذلك رأفة بالشعب!! لكن الأمر لم يكن مفاجئ فقد توقعنا ان تفعل الحكومة ذلك ووضعنا منتصف العام سقفا لتوقعاتنا، بل حتى عندما قالت الحكومة بأنها ستطبق الزيادات ابتداء من يناير القادم قلنا أنها لن تصبر، لم يكن ذلك رجما بالغيب وإنما قراءة في عقلية السياسة الاقتصادية الحاكمة للدولة وفي عقيدتها الاقتصادية التي تتمحور حول ان يدفع الشعب رفاهية الحكام وتكلفة الحكم مهما ارتفع الثمن.
سنري إذن إي هدف ستحقق الإجراءات التي تم اتخاذها، هل فعلا ستعيد التوازن للاقتصاد وتنقذه من التدهور المستمر؟ وهل فعلا ستوفر المناخ الملائم للاستثمار وتعيد عجلة الإنتاج إلي الدوران؟ هل ستسد العجز في الموازنة بتحقيق نمو ايجابي (وهذه من أهم النقاط)؟ هل ستعيد التوازن لميزان المدفوعات وتعمل علي استقرار قيمة الجنيه السوداني بشكل يفتح المجال أمام تدفقات النقد الأجنبي وتحويلاته إلي الداخل؟ هذه هي الأهداف التي أشار إليها العديد من المسئولين الحكوميين. مع ذلك فقد كان وزير المالية السيد علي محمود أمينا عندما ذكر ان هذه الإجراءات هي (.. إجراءات حكومة مفلسة " Bankruptcy مفلسه"). وهذه عبارة صريحة تؤكد ، إذا احتاج الأمر لتأكيد أن الشعب يجب ان يدفع تكلفة الحكومة وتكلفة إفلاسها وأخطائها وان يدفع رفاهية المنتمين إليها والموالين لها، الذين لن تضيرهم في شيء إجراءات تخفيض أعداد الجالسين منهم علي المناصب بضعة مئات. هذه قطرة في محيط جيش جرار من الحكام وأتباعهم في المركز والولايات، كما ان غالبيتهم المطلقة قد راكمت من الأموال واقتنت من الأصول ما يكفيهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم لحياة رغدة.
أثبتت هذه الإجراءات ان ليس من شواغل أهل الحكم في السودان حياة الشعب ومعاناتهم وهم  علي قناعة تامة بأنهم لن يحاسبون او يدفعون ثمن تدهور حياة عامة الناس التي تقدر بحوالي 90% او إذا ارددنا حساب أدق بالميل إلي تأييد هذا النهج فسنقول ان نسبة الذين يعانون ولا أمل لهم  في ان تنظر الحكومة الي معاناتهم لن تقل عن 85% من سكان السودان.من الأدلة علي ذلك ان الحكومة لم تكلف عناء إعادة هيكلة نفسها التي وعدت بها مرارا وتكرارا.
فوق كل ذلك واهم من يظن ان الأمر سيتوقف عند حد ردة الفعل الفورية للأسعار علي الإجراءات الحكومية التي ستصل بمستويات التضخم للسلة الرئيسية لسلع الطعام والشراب والخدمات الأساسية الي 50% فما فوق. لكن الأسعار لن تتوقف عند هذا الحد فهناك العبء الاقتصادي لرفع فئات الضرائب والرسوم وفرض رسوم جديدة وهو (العبء) لم يقل كلمته بعد سواء علي تكاليف الإنتاج او مستويات المعيشية وبالتالي  معدلات الفقر وزيادة نسب  البطالة بعجز القطاعين العام ولخاص عن توليد فرص عمل حقيقية تفي بتشغيل نسبة  من الخرجين يكون لها اثر ايجابي علي معدلات البطالة السافرة المتفشية اليوم.
لقد تم رفع فئات ضرائب التنمية وهي ضرائب تراكمية علي  رقم الأعمال ذات اثر تراكمي سيء علي المنتجين، إضافة إلي تحويلها الي المستهلك الذي استنفدت قواه الشرائية حتى نهايتها، تم رفعها علي الواردات من 10% الي 13%. لقد سبق ان نبهنا من قبل إلي ان الطاقة الضريبية في السودان قد استنفدت وبالتالي فان اي زيادة في الضرائب ، مباشرة او غير مباشرة ستشكل عبء زائد (  Excess Burden) مما يعني نتيجة  مهلكة للقطاع الخاص والمنتجين خاصة المتوسطين والصغار منهم لضعف القدرة التنافسية في السودان. إلا أن مثل هذه الأمور لا تعني شيء لصناع القرارات الاقتصادية (التي لا يمكن تسميتها سياسات) في هذا البلد. بذلك تم رفع فئات  إرباح الأعمال او سيحدث حسب الوعود الحكومية الوفية في هذا المجال وقد تم بالفعل رفع فئة الخصم والإضافة علي الواردات إلي 5%، وهذه الأخيرة بالرغم من أنها شكل من أشكال التحصيل خصما علي او إضافة إلي ضرائب أرباح الأعمال إلا أن الموردين و(التجار) يقومون بتحويلها بشكل فوري إلي أسعار وارداتهم او أسعار المبيعات ويحولونها بذلك من ضريبة مباشرة يتحمل عبئها صاحب الأرباح الي ضريبة غير مباشرة يتحملها المستهلك. في نفس الوقت يحتفظ الموردون بفواتيرهم ليتم خصم هذه النسبة من ضرائب أرباحهم لاحقا والحكومة تعلم ذلك علم اليقين وتمارس التواطؤ مع أصحاب الأرباح بشكل تاريخي موثق.
تزامنت زيادة فئات الضرائب التي لم تستثني منها الضريبة علي القيمة المضافة التي تجاوزت جميع سقوف التطبيق المتعارف عليها، لتصل نسبتها علي الواردات ألي 17%، في الوقت الذي يعتبر فيه أهم  هدف لتطبيق هذه الضريبة هو تحرير التجارة الخارجية وإلغاء الضرائب التراكمية مثل رسوم الإنتاج والرسوم الجمركية، تزامنت زيادتها مع رفع الدولار الجمركي بنسبة غير مسبوقة من 2.7 ج للدولار الي 4.4 ج للدولار الواحد ، بنسبة 61.4%، بهذا الشكل تحولت الأمور إلي (ميته وخراب ديار).
انتظروا لتروا نتيجة تحول العبء القانوني الراهن الذي فرضته الإجراءات الحكومية الاقتصادية الأخيرة إلي عبء اقتصادي لتروا تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية الفادحة. إن القوانين الاقتصادية مجردة ولا تعرف المجاملة او التسويف وهي مثبتة في صحتها، وما عليكم إلا الانتظار للتأكد.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]

 

آراء