مستقبل التعايش السلمي في السودان … بقلم: د. المعتصم أحمد علي الأمين

 


 

 




سبتمبر 2012م

مستقبل التعايش السلمي في السودان
وفرص إعادة الوحدة بين السودان ودولة جنوب السودان
د. المعتصم أحمد علي الأمين(*)
تمهيد :
لا تسعى هذه الورقة إلى إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء بقدر ما تسعى إلى أن تستشرف المستقبل وما يمكن أن يحدث فيه من خلال التطورات السياسية الحالية، ومن ثم تتعرف إن كانت هناك فرص  أو احتمالات ولو في المستقبل البعيد إلى إعادة النظر في أمر الوحدة بين السودان ودولة جنوب السودان أو أن الصراع سيكون ديدن البلدين !.
فانفصال دولة جنوب السودان أو استقلالها قد تم بالفعل في 9 يوليو 2011م ولم يعد بالإمكان الوقوف أمام عجلة التاريخ إلا بقدر استخلاص العبر والدروس ومن ثم أخذ  بداية جديدة تحفظ مصالح الطرفين وتجنب أخطاء الماضي المرير.
والتفكير في أمر إعادة الوحدة على المستوى القريب يواجه بعدة  مصاعب تحول دون الاستمرار فيه ، وذلك لوجود عقبات محسوسة من هذا الاتجاه ، ولعل أولها ربما يكون  عدم القبول الشعبي والجماهيري في كلا البلدين بالتفكير في أمر إعادة الوحدة ، وذلك لمرارات الحرب القديمة التي استمرت لأكثر من خمسين عاما، كما أن الشعبين ربما يتطلعان لبدء حياه جديدة بمعزل عن التجارب التي  خاضها من قبل ، ومن هنا فإن الاتجاه نحو  تكريس الأمر الواقع  والانفصال قد لايكون خياراً لدى السياسيين فقط ولكن خياراً جماهيرياً لكلا الشعبين ولهم رأي واضح في ذلك وأبلغ تعبير عن ذلك تصويت 98% من الناخبين الجنوبيين لصالح الاستقلال ، وأنه لايمكن للوحدة أن تتحقق إلا بعد أن تأخذ تجربة الانفصال أو الاستقلال مداها  الزمني كاملا ويتوصل كلا الطرفين -ربما بعد عشرات السنين- إلى قناعات جديدة ، وميول جديدة وتأثيرات محلية وإقليمية وعالمية مختلفة ، وأن  تثبت أهمية الوحدة وضرورتها ليس عبر التنظير السياسي ولغة العواطف وحسب ولكن عبر المعايشة والرغبة في جني ثمار الوحدة عند كلا الطرفين.
أضف إلى ذلك أن المجتمع الدولي والإقليمي قد لايكون راغبا مرة أخرى  في إعادة مشكلة الصراع بين شمال وجنوب السودان ثانية  بعد قرار الإنفصال في 9 يوليو 2011م ، وأنه يرغب ويتطلع  كما تتطلع شعوب المنطقة إلى بداية جديدة غير مرتبطة بصراعات الماضي ومراراته .
وفيما يبدو أيضا أن دول الجوار الإقليمي وخصوصا تلك الملاصقة لدولة جنوب السودان قد تأثرت كثيرا بالحرب الأهلية السودانية ، وأنها أصابها ما أصابها جراء هذه الحرب ، كما أنها تتطلع أيضا إلى الاستثمار في مناخ السلام في جنوب السودان ،  خصوصا وأن جنوب السودان بما يحويه من ثروات هائلة وأراضى زراعية وغابية شاسعة يعتبر من أكبر الإغراءات  لهذه الدول في الاستثمار في  مناخ السلام حتى لو كانت مستفيدة جزئيا  في الماضي من الحرب!، لذلك هي غير مستعدة لإعادة تجربة الحرب الأهلية  والنزاع مابين العروبة والزنوجة والشمال والجنوب والإسلام والمسيحية والوثنية ، وسوف تكون من أكبر الدول المشجعة على إبقاء الأوضاع كما هي عليه بعد الانفصال .
مرحلة بناء الثقة :
مرحلة بناء الثقة أهم مرحلة في  مراحل إعادة فرص الوحدة مرة أخرى ، ومن المهم الصبر عليها سنوات طويلة حتى تؤتي أكلها في آخر المطاف.
ومرحلة بناء الثقة في بداية أمرها ربما تكون من أصعب البدايات وذلك للتوتر الشديد الذي أصاب العلاقات بين الطرفين بعد الانفصال ، وعدم التوصل إلى  حل للقضايا العالقة ، ومن أهمها ترسيم الحدود والنفط وبعض الجماعات الإثنية والسياسية في السودان التي عمل البعض منها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان إبان فترة النزاع الطويل من 1983م إلى 2005م .
لذلك من المستحسن ألا تكون بداية مرحلة بناء الثقة ثنائية لأنه من المحتمل بشكل متزايد أن يؤدي ذلك إلى تزايد الصراع بسبب التخّوف والشكوك وتاريخ الصراع الطويل ، وهذا ماحدث  في  بدايات تكوين علاقة طبيعية عقب انفصال جنوب السودان وأدى إلى نشوب معارك هجليج والعديد من المناطق الحدودية ( أبريل2012م ) ، لذلك يستحسن في هذه المرحلة الترحيب بدور دول الجوار والمجتمع الدولي في حل القضايا العالقة .
وتدخل دول الجوار والمجتمع الدولي قد يكون غير مرحب به من جانب السودان بسبب اعتبارات عديدة لعل من أهمها التدخل السالب في بعض شؤون السودان الداخلية ، وتعقيد الأزمة بأكثر من سابقتها  ، ولعل وصول جنوب السودان إلى مرحلة الإنفصال الكامل قدم   فيه المجتمع الدولي دورا ما في الوصول إلى هذه النتيجة على الرغم من موافقة النخبة السودانية على ذلك ومعهم قطاع عريض من الشعب السوداني بدليل قبول مسألة الانفصال بسلالة دون احتجاجات أو اضطرابات عنيفة ترفض هذا التوجه بعد مرور عام على وقوعه(1).
ومن هنا لابد وأن تتفهم النخبة السودانية الحاكمة أن تدخل المجتمع الدولي لابد منه في هذه المرحلة على تحفظاتها السابقة وإلا تحوّل الصراع إلى صراع مزمن كما في حالة ( كشمير) بين الهند وباكستان أو (شط العرب ) بين إيران والعراق ، كما أن بعض  سياسي جنوب السودان فيما يبدو لايضعون اعتباراً للاتفاقيات الثنائية على الإطلاق ، ، وربما حتى الإقليمية بدليل التفاهمات العديدة التي وقع علهيا الطرفان وخصوصا في الجانب الأمني ولم يتم احترامها . ، وأن قضايا الحدود يستحسن  حلها باكرا حتى لو أدى ذلك إلى تقديم تنازلات من هنا أو هناك لأن من شأن ذلك على المستوى البعيد أن يولّد تكاملاً اقتصادياً مفيد أولا لسكان الحزام العريض المشترك بين الطرفين بدلا من الأحزمة العريضة من حقول الألغام والحشود العسكرية كما بين كوريا الشمالية والجنوبية . وأن يعلم  الجميع أن الإرادة الإلهية هي من وضعت الطرفين في جوار إلى يوم الدين ولا مندوحة من الوصول إلى تفاهم مشترك .
تلي مرحلة محاولة حلحلة القضايا العالقة بوساطة من دول الجوار والمجتمع الدولي مرحلة احترام التعايش المشترك لمواطني الدولتين   وعدم إلحاق الضرر الأمني أو الاقتصادي بهم أو إجبارهم على الرحيل أو الانتقال إلى مناطق جديدة لأن من شأن ذلك على المستوى البعيد أن يخلق متعاطفين محتملين مع الطرف الآخر في حالة الرحيل والمغادرة  الطوعية ،  وهذا على المستوى البعيد كفيل بأن يصب في مسألة التعايش المشترك ، وأن تصبح ذكريات التعايش المشترك حلوة لا تشوبها المرارة ، ولا تنتقل آثار الصراع إلى أجيال جديدة لم تكن معايشة لمرحلة الانفصال ، وفي احتمالية وصولها إلى السلطة في بلدها الأصلي فربما يكون ذلك دافعا على الأقل للتعامل مع الآخر من دون حساسيات مسبقة أو جراح قديمة.
ومن مراحل بناء الثقة أيضا التقدير السياسي لموقف الآخر وعدم مجاراته في خطواته المعادية لتنوع التحديات والمخاوف التي يمر بها وخصوصا دولة جنوب السودان ، حيث إنها لم تتشكل بعد وينقصها الكثير لتصبح دولة من دول الإقليم ، كما أن التحديات العسكرية والاقتصادية والإثنية والأطماع الخارجية أمامها معقدة جدا ، وفي أحيان كثيرة تقدم على خطوات معادية للشمال القصد من ورائها ربما تعزيز بعض مواقع مراكز القوة لدى الأطراف المتصارعة في الجنوب ، وليس المقصود الوصول بالنزاع إلى مراحل جديدة لذلك على القيادات والنخبة السودانية أن تنتبه لذلك .
فعلى سبيل المثال كان البعض يعتقد أن الدكتور رياك مشار هو رجل السلام والتفاهم مع السودان في مرحلة من المراحل لاعتبارات احتكاكه الوثيق مع الشمال  وتعليمه وتفاهماته إبان الحرب الأهلية عبر اتفاقية الخرطوم للسلام 1997م، إلا أن البعض فوجىء بقيادته وتبنيه الهجوم على منطقة هجليج الشمالية،  وهذا الموقف ربما يكون إنعكاساً للصراع الجنوبي جنوبي أكثر من كونه حالة عداء صارخة للشمال (2) .
كذلك من المراحل المهمة لبناء الثقة ضرورة أن تقوم العلاقة على الاقتصاد وليس على عامل آخر وذلك لأن رباط الاقتصاد أثبت أنه أقوى رابط يمكن أن يجمع بين الدول بالرغم من خلافاتها الدموية  والأيديولوجية عبر التاريخ البعيد والقريب ولعل تجربة الاتحاد الأوربي من أقوى المؤشرات على ذلك كما أن تجربة السودان وإثيوبيا  في العقود الأخيرة ربما دلت علي ذلك .
ومن حسن الحظ أن المصالح المشتركة بين السودان ودولة جنوب السودان تعتبر   الأكبر في القارة الإفريقية حيث تجمع مابين النفط والثروة الحيوانية والزراعية والغابية والمواد الغذائية والأسواق في حالة نادرة  لا تتكرر بين الدول المتجاورة، ومن هنا يمكن أن يمثل الاقتصاد الدور الأكبر في مرحلة بناء الثقة بعيدا عن تحميله بالأجندة السياسية والضغط على الآخر من أجل تبني مواقف سياسية تصب في مصلحة الطرف الآخر أو العكس .
لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى نتائج وخيمة خصوصا وأن فترة الحرب الأهلية الطويلة عملت عملها في شيطنة الآخر واتهامه بكل النقائص والعيوب الموجود منها والمتخيل ولا تحتاج إلا للقليل لتعاود ضغائنها .
مرحلة العلاقات الطبيعية :
وهذه المرحلة تعقب مرحلة بناء الثقة ، وهي مرحلة حساسة لأن العلاقات لم تصل بعد إلى خواتيمها  المرجوة ومعرضة للانتكاس  لعدة أسباب ! ، حيث نجد أن كثيرا من الدول ذات الظروف  المشابهة  التي كانت لها عداوات وحروب تاريخية مشتركة متشابهة يمكن وبكل بساطة أن تستعيد أجواء الصراع وحدته إن لم يكن الطرفان على حذر شديد من تراكمات الماضي.
ولعل أهم خطوة يجب أن يقوم بها الطرفان  الحرص على مسألة الندية في التعامل لأن تجارب السياسة والتاريخ تعلمنا أن بعض الدول المنفصلة عن دولها الأم تود أن تعامل على  قدم المساواة من قبل دولتها القديمة  على وجه الخصوص، وتضخّم هذه النقطة ( ربما بشكل مرضي) يمكن  أن يؤدي إلى تأزم العلاقات في حالة عدم التعامل بالندية اللائقة ، وهذه تكون من الصعوبة بمكان لأن حظوظ الدولتين  في العادة  لا تكون متساوية في التنمية أو الخلفية الحضارية والثقافية ، ولايمكن إجبار الأهالي وقادة الرأي على العام التعامل مع الدولة المنفصلة  بندية هم لايشعرون بها بسبب الفارق الاقتصادي والحضاري الثقافي ، ومن هنا تتضخم مسألة التعامل بندية على  المستويات الشعبية أولا ومن ثم تنتقل إلى القيادة ويسهل إثارة العداء بسببها .
نرى هذه المسألة بشكل واضح في العلاقات المشتركة بين مصر والسودان وخصوصا على الجانب الشعبي منها ، حيث يشتكي كثير من السودانيين من التجاهل  الشعبي المصري والتعامل بعدم ندية بين الشعبين، وان السودانيين يعاملون المصريين بكرم  واهتمام والآخرون يكادون لايحفلون بهم أو يخطر  على بالهم ، وأن مقالا سلبيا من كاتب مصري  مغمور يمكن أن يُشعل حربا إعلامية في الخرطوم، وهذا الأمر على مرارته إلا أن   الاقتصاد والاستقرار السياسي لايغري البعض في شمال الوادي بالالتفات جديا إلى الجنوب ، وأن هذه المعادلة لايمكن التحكم فيها حكوميا بقدر ما يجب تركها لتصاريف القدر وحركة الاقتصاد لتعمل عملها حتى تتغير كثير من المعادلات في المنطقة .
وهذا ما يجب أن يعرفه الأخوة في دولة جنوب السودان : وهي أن الدولة المركزية في السودان ولدت ربما قبل اكثر من خمسة قرون ، واستقرت الحياة الحضارية على آليات معينة  طبعت الشخصية السودانية بطابعها الخاص ، وأن محاولة إدماج المواطن الجنوبي طوال الحقبة الماضية اي بعد الاستقلال وحتى الانفصال  فشلت . وأن مسألة الندية في التعامل الجماهيري متروكة لظروفها الخاصة التي  لا تستطيع جماعة ما التحكم فيها  بقدر ما تتحكم فيها تصرفات الدهر وعطاياه ،  وأنه من الممكن بعد سنوات قلائل أن تتغير النظرة إلى الآخر رأسا على عقب ولكن ليس عبر  الرغبة والجبر.
كذلك من أهم ما يجب أن يميّز حقبة العلاقة الطبيعية بين البلدين عدم التحّيز لجماعة عرقية أو دينية  داخلية  من قبل الطرف الآخر دون الباقين لأن من شأن ذلك أن يثير شكوكا عميقة في الهدف النهائي من التفضيل ! وهل هناك تخطيط مسبق لتغيير المعادلة السياسية الموجودة والانتقام من الطرف الآخر بالرغم من تحسن العلاقات وأخذها منحى طبيعيا.
وتفضيل طرف دون آخر في الدولة الأخرى أمر  محبوب  جُبلت عليه النفوس   لأن ما يجمع مثلا بين مسلمي جنوب السودان والسودان أكبر بالتأكيد مما يجمع بين السودان وبقية مكونات الجنوب الدينية ، وإن فرص التعاون بين الطرفين سهلة ، إلا أن ذلك يثير شكوكا عميقة لدى الجهات التنفيذية في دولة جنوب السودان ، وربما يرجع بالعلاقة إلى انتكاستها الأولى. كما أن علاقة دولة جنوب السودان بالسكان السودانيين المنحدرين من أصول زنجية قد يثير شكوكا عميقة لدى النخب السودانية حول طبيعة التخطيط المستقبلي لدولة الجنوب ، وهل تسعى لإنتاج مشروع السودان الجديد بالرغم من التظاهر بعودة العلاقات إلى طبيعتها الآمنة ؟.
والجدير بالذكر هنا أن شبهة التعامل مع الطرف المماثل  للخارج تكاد تكون الأصل في التعاملات الخارجية حيث يرغب أصحاب الشركات الغربية مثلا في أن يكون وكلاؤهم التجاريون من الطوائف المسيحية في الشرق مثل الأقباط والموارنة والأرمن على سبيل المثال ، وكان هذا الأمر ولايزال من الأمور المتبعة عند الأوروبيين  مما مكّن هذه الطوائف من أن تصبح قوى اقتصادية هائلة  داخل العالم الإسلامي(3) .
وبالتالي إعادة إنتاج هذه الأفكار من قبل المسلمين لدى الطوائف المسلمة في الدول التي تغلب عليها المسيحية والوثنية أو على الأقل نخبها الحاكمة يمكن أن يثير حساسيات بالغة بسبب النتائج التي يمكن أن تتمخض عنها وخصوصا أن كثيراً من السكان لم يحسموا أمرهم بعد بالانضمام إلى الدين السماوي الذي يودون.
كذلك  يستحسن في فترة العلاقة الطبيعية أن يُترك أمر الاختيارات السياسية والعلاقات بين الدول لكل طرف دون تدخل فيها بالرغم مما يمكن أن تحمله من مرارة جراء إقامة علاقة غير مناسبة ومُضرة بالأمن القومي لدى طرف دون الطرف الآخر من وجهة نظره ! مثل إصرار دولة جنوب السودان على إقامة علاقات استراتيجية مع إسرائيل ومعرفة السودان أن من شأن هذه العلاقة الاستراتيجية  الضرر به بسبب تعارض المشروع الإسلامي والقومي مع المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين ، وإن أحدهم سيقوم بتصفية الآخر في نهاية المطاف ! ، لذلك ليس من المتوقع كما أثبتت التجارب التاريخية إقامة علاقة طبيعية مع اسرائيل والعرب أو المسلمين  إلا في فترات محدودة وبغرض الهدنة وليس بغرض التعايش النهائي بين الطرفين ، ولعل علاقة إيران مع إسرائيل في مرحلة من المراحل كانت استراتيجية وجيدة إلا أنها سرعان ما انهارات مع الثورة الإسلامية في 1979م ، وفي هذا الطريق نفسه تسير علاقة تركيا ومصر مع إسرائيل ، أما علاقة دولة جنوب السودان مع إسرائيل فيمكن أن تكون استراتيجية ودائمة ، وهي حتما تتعارض مع العلاقة مع  السودان بيد أن إثارتها وانتقاد دولة الجنوب بسببها يمكن أن يؤثر في طبيعة العلاقة بسبب الصراع القديم ووجود هواجس وصاية شمالية عند الجنوب لايمكن أن ترضى بها، لذلك  طالما أن العلاقة مع إسرائيل لم تضر بشكل مباشر  السودان فيُستحسن السكوت  عنها ومراقبتها مراقبة لصيقة لعل نهاية العلاقات  تحدث  بسبب آخر لايكون السودان طرفا فيه. أما إذا أضرّت العلاقة بالسودان فلا مندوحة من إثارة الأمر بصراحة مع الجنوبيين ولو أدى ذلك بالعودة بالعلاقات إلى مراحلها الأولى المتسمة بالقطيعة. حيث يجب أن تقدّر دولة جنوب السودان أن الامن القومي السوداني وخصوصا فيما يتعلق بإسرائيل ومخططاتها في المنطقة خط أحمر لايمكن تجاوزه(4) .
ومن جهة أخرى فإن  للإعلام المحلي دوراً كبيراً في استدامة العلاقة الطبيعية من خلال تفاعله الصادق بما يدور من أحداث في كلا البلدين ، وإزالة الصورة السالبة التي انطبعت عن الآخر إبان الحرب الأهلية الطويلة ، فمن دون علاقة شعبية حقيقية عند الطرفين  لا يمكن أن يتولد تعايش مشترك .
ومن المتوقع في هذه الفترة أن تتقدم إحدى الدولتين اقتصادياً عن الأخرى بشكل متزايد وسريع في التنمية الاقتصادية ، ومن  المحتمل أن تكون تلك الدولة هي  السودان بسبب البنية التحتية والخبرات الإدارية الثرة التي تراكمت طوال عقود والتخلص من عبء إداري وعسكري تمثل في الجنوب نفسه ، لذلك من المتوقع أن تحدث هجرة جماعية جديدة من جنوب السودان إلى الشمال ربما بأكثر مما شهده  إبان الحروب الأهلية (1955-1972-1983م-2005م) وخصوصا لو فعلّت اتفاقيات الحريات الأربع ، ومن المؤمل أن يلعب الإعلام دورا كبيرا في تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة عن الآخر مثل ضعف دور الأسرة في جنوب السودان !،  وانتشار الأمراض الجنسية المعدية مما يوّلد  تأففا ضد  الوافدين الجدد، وهذا ما درج عليه الإعلام السوداني في غالبيته العظمى في تناول مهاجري دول الجوار بما يكرهون وخصوصا من الهضبة الإثيوبية ! ووصفهم بأوصاف غير كريمة مثل أنهم ناقلون أساسيون لمرض الايدز! بالرغم من أن الغالبية  منهم ربما تكون هجرتها لظروف اقتصادية وهم أبعد ما يكونون عن الوصف الإعلامي التقليدي في السودان وغالباً ما يستطيع أفراد قلائل تشويه صورة جماعات سكانية كاملة في بلاد الاغتراب (5) .
من هنا إذا تفهّمت أجهزة الإعلام السودانية حساسية وضع المهاجرين وخصوصا من جنوب السودان من هذا التعميم فإن من ذلك يمكن أن ينمي رصيدا ممتازا في أمر العلاقة المشتركة .
بيد أن اللاعب الأساسي لضمان علاقة طبيعية بين البلدين هو الاقتصاد،  وكما  رأينا من قبل قدرة التنسيق الاقتصادي المشترك على  تجاوز مرحلة بناء الثقة المشتركة فإن الاقتصاد أيضا يجب أن يكون حِجر الزاوية في استدامة العلاقات وخصوصا فيما يتعلق بالجماهير  مباشرة مثل تفعيل مبدأ الحريات الأربع وهي حرية المرور والإقامة والتملك والعمل لأن من شأن ذلك أن  يعصم العلاقات من أن تنتكس مرة أخرى ، ولا بأس من إقامة بنية اقتصادية مشتركة مثل طرق المرور السريع والكهرباء والسدود والنفط والثروة الحيوانية والسمكية  فكل ذلك يضمن استدامة العلاقة لأن هناك قطاعات جماهيرية  معتبرة  يمكن أن تتأثر في حالة تأزم العلاقات مما يجبر السياسيين وأصحاب الأيديولوجيات المعادية على الخضوع للتيار الشعبي العريض الذي يرغب في تحسين العلاقة  قبل اتخاذ خطوات مضرة بالطرف الآخر.
كما لا ننسى أن احترام الخصوصية الثقافية والخيارات الوجدانية يجب أن يكون ديدن الطرفين لأن المساس بهذه القيم يمكن أن يشكل جُرحا بالغا في أمر العلاقة المشتركة وقد درجّت القيادات الجنوبية في السباق على رفض صريح لقوانين الشريعة الإسلامية مع السماح للجنوب أن يحكم بما يراه مناسبا من قوانين!.
ويستحسن وجود اتصال مباشر وفوري بين القيادتين وأن تحدث مصارحة فورية عن كل ما يشعر به الآخر من تقصير ، لأن حل الأزمات في بدايتها كفيل بأن يوجد  لها معالجة صحيحة من دون آثار جانبية .
كما أن على القيادتين والشعبين البناء على الجوامع المشتركة وهي كثيرة وعدم الالتفاف نحو نقاط الخلاف لأن ما يجمع بين الطرفين أكبر وأجل ويمكن أن يُبنى عليه.
المتغيرات الكبرى وتحسن العلاقات :
المقصود بالمتغيرات الكبرى أن تحسن العلاقات قد لا يحدث على المستوي المتوسط أو حتى البعيد في حالة استمرار الأنظمة والأيديولوجيا المسيطرة على السلطة في كل من السودان ودولة جنوب السودان بسبب ميراث الحرب بين الطرفين والصراع الشرس بينهما في ميادين الحرب أو حتى في طاولة المفاوضات ، حيث تولّدت قناعات عند الطرفين بأن بقاءهم في السلطة ايديولوجيا ووجودياً لايمكن أن يتأمن أو يستمر ما لم يتم القضاء على الطرف  الآخر قضاء تاما(6) .
ومن هنا فإن هذه الجزئية تبحث في شكل التغيير الذي يمكن أن يحدث أثناء وبعد تغّير المنظومات الحاكمة في كلا البلدين  (وهذه من سنن الحياة) والتداعيات التي يمكن أن تتمخض عنها.
على العموم يمكن القول أن دولة جنوب السودان هي المهددة أكثر بحدوث تغيير شامل في بنيتها الحاكمة بسبب حداثة تجربة الحكم وعدم وجود دولة مركزية سابقة في الإقليم الجنوبي تجمع  بين  أشتاته المتنافرة وتضُمها بين جناحيها بعكس الواقع في الشمال الذي عرف حضارات وممالك قديمة ربما منذ ما قبل التاريخ مرورا بالممالك الإسلامية وإنتهاء  بالدولة الحديثة بعد الاستقلال.
بيد أن ذلك الأمر لايعني بالضرورة أن الانهيار لابد وأن يتم حتما في جنوب السودان ، فمن المحتمل أن تحدث انهيارات في الشمال لأن دولاً عديدة في المنطقة تتماسك جزئياتها الإثنية ربما أفضل من السودان انهارت  مثل الصومال الذي تجمع مكوناته مابين اللغة والدين والمذهب الديني والسلالات البشرية  المشتركة وبالرغم من ذلك أنهار  .
كما يجب ألا ننسى أن الدول الغربية وبكل ما تملك من إمكانيات اقتصادية وعسكرية هائلة تستطيع أن تدعم دولة جنوب السودان وأن تبقيها على قيد الحياة مثلما ما فعلت مع إسرائيل ، بينما ينشغل المحيط  المتعاطف مع السودان المكون أصلا من الدول  العربية والإسلامية بثورات الربيع العربي والتداعيات التي حدثت  وسوف  تحدث في المستقبل مما يستلزم سنوات طويلة حتى تستوعب هذه الدول حجم التغيير الذي حدث فيها.
كما لا ننسى أن تجربة انفصال  دولة جنوب السودان قد يُغري جماعات إثنية أخرى في السودان مثل دارفور بالسعي إلى طلب الاستقلال وتحقيقه مثلما حدث في جنوب السودان ، حيث سيكون المجتمع الدولي أكثر تفهما لمثل هذه المطالب التي لها سوابق في نفس الدولة ، وربما يعتبر أن ذلك الأمر حالة خاصة بالدولة السودانية ولايمكن تعميمه على دول المنطقة التي يمكن أن تنجرف إلى حروب لانهاية لها  بعد  الاعتراف بكل الصراعات الإثنية الموجودة .
إضف إلى ذلك أن المطلوبات المعيشية من الدولة السودانية أكبر بكثير من مطلوبات دولة جنوب السودان ، ويتمثل ذلك في  الخدمة المدنية والصحة والتعليم والزراعة والصناعة والرعاية الاجتماعية وغيرها من مطلوبات عاجلة بينما لاينتظر المواطن الجنوبي كثيرا من السلطة الجنوبية التي لم تتمكن بعد من تغطية كل هذه الاحتياجات  ، ولم يكن لها سابق معرفة بها وبالتالي يعتمد أكثر على نفسه  وجهده البدني والمنظمات الطوعية في رعايته بدلا من الدولة ، ولايسخط كثيرا أو يحتج بسبب حرمانه منها وجُل ما يتمنى أن تُبسط الدولة الأمن وأن تساوي بين الأعراق والقبائل المختلفة بقدر ما تستطيع وأن تحد من انتهاكات الجيش الشعبي(7).
وبالتالي فإن المطلوبات الاقتصادية للشمال  ملحة وعاجلة ويمكن أن تولّد احتجاجات واسعة في حالة فقدانها أو تدهورها وهذا ما سوف يؤدي في آخر المطاف إلى إنهيار  جزئي إذا لم ينتبه القائمون عبر التركيز على الاقتصاد بأكثر من التركيز على السياسة  .
ولكن ومن جهة أخرى افتراض أن الغرب سوف يقف مع دولة جنوب السودان وأن  يعصمها من الانهيار وأن يلتزم بذلك التزاما صارما قد يكون ذلك بعيدا عن  الواقع بسبب تحرك الأحداث السياسية  والأزمة الاقتصادية العالمية وظهور حقائق جديدة على أرض جنوب السودان ، وتوالي أجهزة الإعلام الدولي نقل مختلف الصور في  الدولة الوليدة، ولعل الإعلام الدولي في ظرف عام واحد بعد استقلال الدولة تعرّف على وجهات نظر مختلفة عما يحدث في جنوب السودان  ووضحّت له خريطة الصراع العرقي والقبلي المدعوم من السلطة والذي عادة ما يخلّف ضحايا بعشرات الألوف ، ومثل حالات الفساد المالي المتفشية بين بعض سياسي جنوب السودان ، ومثل الاعتقالات التعسفية ، والديكتاتورية العسكرية،  وديكتاتورية الجيش الشعبي ، وإدارة الدولة   دون إستراتيجية واضحة، وعدم وضع مصالح السكان في الاعتبار عند اتخاذ القرارات المصيرية مثل أغلاق أنابيب النفط أو حتى الدخول في مواجهة عسكرية صريحة مع الشمال في منطقة هجليج (8) ، وفي حالة استمرار تآكل البنية الأخلاقية المرسومة في الإعلام الدولي لثوار جنوب السودان فمن المعتقد أن الغرب سرعان ما يرفع يده عنها ، وأن تصبح دولة فاشلة في أعماق الغابة الإفريقية مثلها مثل كثير من دول المنطقة.
وقد يفكر الغربيون عبر مراكز دراساتهم الإستراتيجية وبعض دول الجوار بإعادة الوحدة مع الشمال  مرة أخرى للتخلص من عبء الدولة الوليدة وربما قطع الطريق أمام نهضة اقتصادية محتملة في الشمال ، أو التفكير في مشروع وحدة مع جمهورية مصر أو ليبيا  خصوصا   أن ايديولوجية الحكم الإسلامية أصبحت تهيمن على كل هذه الدول بعد اغتراب طويل، مما يعجّل بالفعل بالتفكير جديا في الوحدة على أسس إسلامية ، وهذا الأمر إن حدث يمكن أن يؤدي إلى قيام دولة عظمى في المنطقة تهُدد المصالح الغربية ، لذلك يمكن شغل السودان وإغراؤه بإعادة الوحدة أولا مع دولة جنوب السودان ، بدلا من الوحدة مع مصر أو ليبيا. وهذا الأمر إن حدث يمكن أن يعطّل  الوحدة الإسلاميةلان جنوبيي السودان سوف يشترطون  خصوصية السودان وعدم تذويبه  في المحيط المجاور.
ومن جهة  أخرى وبما أن دولة جنوب السودان دولة غنية جدا بمواردها الطبيعية في إقليمها الجغرافي وخالية من السكان تقريبا في محيط ذي  كثافة سكانية عالية كما في حالة يوغندا وكينيا وإثيوبيا فإنه من المحتمل أن تحدث أطماع اقتصادية  في الدولة الجديدة لو استطاعت الدول الكبرى المتعاطفة  رعايتها اقتصاديا وتنمويا ، كما أن سكان الدول الإفريقية المجاورة لدولة الجنوب لهم قبول واسع من النخبة الحاكمة لما  يقدمونه من مساعدة جمة   في سبيل تحقيق الاستقلال، ولقربهم الحضاري والثقافي منهم  ، وبالتالي فإن توطّنهم في الجنوب واحتكارهم قطاعات اقتصادية  عريضة بسبب تفوقهم اقتصاديا   وتعليمياً عن سكان الجنوب سيكون الغالب ، مما يثير حساسيات في المستقبل ، أضف إلى ذلك أن التنافس الاقتصادي بين الدول المجاورة للجنوب قد لايقتصر على الجانب الاقتصادي فقط ولكن كثيرا ما يحاول الاقتصاد  أن يستصحب حماية امنية وعسكرية لاستثماراته  لأن الدولة لازالت ضعيفة وتهيمن عليها القبائل مما يجعل من رأس المال المستثمر خارجياً يلجأ تلقائيا إلى طلب حماية مسلحة مما يعقّد الحياة الاقتصادية ويزيد من تفاقم الأوضاع الأمنية ، أما إذا حدث تنافس اقتصادي محموم بين الجماعات المهمينة على اقتصاد الجنوب فمن الراجح اللجوء للقوة لحماية المصالح وربما تجنيد قبائل جنوبية ضد أخرى واللعب  خلف الستار لحماية الاستثمارات  ومن هنا  ربما تكون الدولة الجنوبية مهددة  في وجودها .
هذا السيناريو حدث في الدولة الصومالية عندما لعبت بعض الدول المجاورة مثل كينيا وإثيوبيا واريتريا دورا في عدم مساعدتها في الخروج من وهدتها الأمنية لأنها تعتقد أن الدولة الصومالية القوية خطر عليها بسبب نزاعات الحدود المزمنة في الأوغادين و NFD ومن ثم بنت هذه الدول علاقات عسكرية مع بعض القبائل الصومالية للأبقاء على الأوضاع كما هي عليه(9) .
ومن هنا ولو تكرر نفس الحدث في جنوب السودان فقد يدفع بقوى قبلية ودينية للإرتماء في أحضان الشمال مرة أخرى والمناداة بالوحدة بعد أن يتبين لها أن ما يجمع ما بينها وبين الشمال هو ما يجمع ما بينها والقبائل المجاورة لها في جنوب السودان ، وأنها بمثلما تتعرض لتهميش في الشمال فإنها تتعرض لتهميش أكبر في الجنوب مع وجود مخاطر أمنية وعسكرية متزايدة  ، لذلك قد يكون ذلك ألامر دافعا ملحاً من دوافع الوحدة في المستقبل المتوسط والبعيد.
أثر المخططات  الخارجية  في العلاقات المشتركة:
تفترض بعض الاستنتاجات أن الدكتور جون قرنق دي مابيور رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان تمت تصفيته عمدا من قبل يوغندا وربما اشتركت معها إسرائيل بعد أن تأكد لها أن مؤسس الحركة الشعبية يسعى بالفعل للاتجاه نحو الوحدة (10) ، ولكن ليس وحدة طوعية سلمية كما يعتقد البعض وإنما خيّل له في مرحلة من المراحل وخصوصا بعد إستقباله الاسطوري في الساحة الخضراء بالخرطوم عقب إتفاقية السلام الشامل في نيفاشا 9 يناير 2005م وتحديدا في يوليو 2005م أنه يستطيع أن يحدث تغييرا شاملا بالسودان عن طريق فرض الأمر الواقع عبر جيشه الشعبي الذي سمحت اتفاقية السلام الشامل بانتشاره في الخرطوم! وعبر كوادره السرية التي تقدر بعشرات الآلاف حول العاصمة القومية، وعبر جماهيره من أبناء الولايات الجنوبية وحلفائه من جماعات المعارضة للحكومة السودانية خصوصا  من بعض دارفور وشرق السودان وجبال النوبة والحزب الشيوعي السوداني وبقية أنصاره في الأحزاب التقليدية .
وأنه يستطيع عبر قوة شخصيته الكارزمية وجماهيريته الواسعة  أن يسيطر على السلطة في الخرطوم   خصوصا وأن السلطة القائمة استمرت لفترة طويلة في الحكم مما أوجد لها أعداء ومنافسين لاعتبارات كثيرة أهمها السعي في طلب السلطة والثروة التي استفردت بها  سنين عددا ( أو طلبا للإصلاح بعد أن رأوا أنهم يمكن أن يصلحوا أكثر) ، ووصولها إلى السلطة عبر الانقلاب العسكري ، وحكمها للبلاد حكماً شمولياً وآحادياً مع وجود مشاركات محدودة وصورية من جماعات حزبية منشقة  من بعض الأحزاب في بعض المراحل والأكبر من ذلك تدهور علاقاتها مع الدول العظمى وبعض دول الجوار الإقليمي .
ومن هنا ربما شعر هؤلاء بخطورة ماسوف يقدم عليه جون قرنق وقاموا بتصفيته بالرغم من أنه لو نجح سوف يحقق تقدما واسعا للمشروع الإسرائيلي وربما الإفريقي والكنسي في المنطقة ولكن فيما يبدو كانوا يفضلون العمل المؤسسي طويل المدى والذي يملك فرص نجاح أكبر ولا يبني علي المغامرة والحظ .
وسبب ذلك هو أن التغيير الذي  يسعى إليه جون قرنق حتى لو نجح في مسعاه سوف يكون محدوداً ومؤقتاً حيث لا طاقة للحركة الشعبية ولا لأنصارها   على تغيير وجه السودان الحضاري الذي استمر على حاله لأكثر من سبعة قرون متتالية .
وأن جل ما تستطيع الحركة الشعبية فعله هو التغيير الفوقي واضطرارها إلى تقديم تنازلات عديدة لحلفائها وللمجتمع السوداني بمختلف اتجاهاته حتى تستطيع أن تحكم على الأقل في سنواتها الأولى من دون معارضة حقيقية يمكن أن تطيح بها ، وهذا الأمر من المحال تقريبا بسبب الهوة الواسعة  بين مكونات الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يسيطر عليها الفكر العلماني والكنسي والزنجي  وبين مكونات السودان الأخرى والتي تشكل أكثر من 75% ، حيث يسيطر على اتجاهاتها الفكر الإسلامي والعروبي لذلك لا يمكن لأقلية مثل هذه كانت في حالة عداء تام مع الشمال طوال الخمسين عاماً الماضية أن تتمكن من حكم السودان لوقت طويل ، وكل الذي يمكن أن ينتج عن تلك المغامرة سيطرة محدودة للحركة على الخرطوم و سرعان ما تنتظم مقاومة نشطة ضدها تطيح بها بأقرب مما يتصور بعض منظرى الحركة الشعبية وأبرزهم الدكتور جون قرنق نفسه .
وبما أن اندفاع جون قرنق فيما يبدو شديدا  ومزعجاً في هذا الاتجاه فقد  كان لابد من الخلاص منه  ومن ثم البدء في تطبيق مشروعهم بعيد المدى المتعلق بفصل جنوب السودان أولا كما هو مخطط له ، ومن ثم إقامة حاجز أمني ونفسي ضخم يمنع أو يؤخر عبور الإسلام واللغة العربية إلى أواسط إفريقيا ، والبدء في تحطيم السودان المتبقي عبر إثارة الحرب في جبال النوبة ودارفور وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان وربما شماله الأقصي حتى تسقط البلاد كلها غنيمة سهلة في يد الحركة الشعبية وحلفائها في آخر الأمر بعد أن تستنفد قوى السودان ،  ومن ثم يمكن أن يتقبل مشروع السودان الجديد ولكن بعد مراحل زمنية متباعدة وعبر الإجهاد الطويل .
وبالتالي فإن هناك إفتراضاً أساسياً له حيثيات وهو أن الحركة الشعبية لتحرير السودان والذين يقفون من خلفها سواء أكانوا إسرائيليين أو كنسيين لهم إستراتيجية بعيدة المدى ضد السودان ، وأن إنفصال جنوب السودان هو المرحلة الأولى والاهم في هذه الإستراتيجية ، وأن الاتجاه نحو تحسين العلاقات وإقامة علاقة طبيعية مع السودان جدياً لا وجود لها أصلا في هذه المخططات ، وتدلل شواهد كثيرة على ذلك لعل من أهمها الاستمرار في حالة العداء والبغضاء حتى في ظل حكومة الوحدة الوطنية التي شُكلّت  من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان طوال الفترة الانتقالية التي استمرت لست سنوات كاملة(2005م-2011م )، حيث لم يحدث تفاهم بين الطرفين إلا عندما يتعلق الأمر بتسهيل عملية التصويت على  حق تقريرالمصير ، فلقد  رأي الجميع أن العلاقة بين الطرفين ساءت في كل مراحلها إلا في مراحل الإسراع بتنفيذ الاستفتاء ، حيث سرعان ما يتدخل المجتمع الدولي والإقليمي وأصدقاء الإيقاد ويحدث انفراج وتنازلات في المحادثات المشتركة إلى أن تُوج ذلك بإعلان حق تقرير المصير لجنوب السودان في يوليو 2011م ، بينما ظلت كثير من القضايا عالقة مثل ترسيم الحدود والجنسية وإدارية أبيي والديون وغيرها  وكان من الصعب تجاوزها والوصول إلى مرحلة حق تقرير المصير لولا إصرار المجتمع الدولي علي ذلك .
ومن ثم رأينا عودة الحرب مرة أخرى حتى قبل استقلال جنوب السودان بشهر  في جبال النوبة 6/6/2011م  وجنوب النيل الأزرق واحتضان الحركة الشعبية لمتمردي دارفور وتتويج ذلك العداء باحتلال منطقة هجليج في 10 أبريل 2012م.
وبالتالي فإن كل ذلك يدلّل على أن الحركة الشعبية لتحرير السودان  لها أهداف  إستراتيجية لعل من أهمها  تحقيق مشروع السودان الجديد القاضي بسيطرة العناصر الزنجية والعلمانية على مفاصل السلطة في الخرطوم ولكن عبر التدرج البطيء بدلا من الاتجاه المتسرع الذي رنا إليه الدكتور جون قرنق فيما يبدو .
ولعل عملية التضييق الاقتصادي المستمر على السودان بما في ذلك إغلاق أنبوب النفط الذي يمنح دولة جنوب السودان أكثر من 98% من مواردها من العملة الصعبة مؤشر واضح على  أن دولة جنوب السودان تسير وفق مخطط مدروس ولا تأبه بأي تضحية في سبيل تحقيق أهدافها النهائية .
وبما أن مشروع السودان الجديد فيما يبدو مشروع دولي لا يقتصر علي جنوب السودان وحسب وإن كانوا رأس الحربة فيه  فإنه   ليس بالبساطة التي يتخيلها البعض لأن السودان في نظر رعاة المشروع مهم جدا لأنه يمكن أن يفشل مشروع الألف عام سعيدة الذي ترنو إليه بعض الكنائس الغربية وخصوصاً البروتستانتية منها وإسرائيل بعد أن يُهيأ المناخ الملائم لنزول المسيح عليه السلام ( أو الدجال ) حيث يعتقد هؤلاء أن معركة كبيرة ستدور رحاها في (هرمجدون) بين أنصار المسيح المخلصين وأنصار الشيطان حيث سيتمكن أنصار المسيح من الأنتصار النهائي ويسيطرون على العالم بلا معارضة لألف عام سعيدة ، ومن ثم يحدث يوم الدينونة الكبرى وينتهي العالم ، وحتى اليهود سيتحولون إلى النصرانية ومن يأبون   سيتم قتلهم ومحوهم من على وجه الارض(11)  .
وبالتالي فإن المعركة متوقع  حدوثها في الشرق الأوسط وفي فلسطين بالتحديد حيث يتحالف المسلمون ضد المسيح وأنصاره ويتم القضاء عليهم نهائيا بعد معركة (هرمجدون) !! لذلك يسعون إلى تمزيق المسلمين وتشتيتهم حتى يكونوا في أضعف حالاتهم عند نزول المسيح   ، وبما أن المصريين يشكلون النسبة الأهم في مواجهة إسرائيل فإن التركيز عليهم أساسي ، والتركيز كذلك على حلفائهم المحتملين في المنطقة وهم السودانيون وقد سبق وأن قدموا مساعدات عسكرية وأرضية لايستهان بها أبان المواجهات ضد اسرائيل في أعوام 1948-1956-  1973م ومن هنا يستحسن سقوط وتمزيق حليف المصريين في أيدي أعدائه قبيل المواجهة النهائية وخصوصا وأن بوادرها أخذت في الظهور مع توحّد العالم العربي والإسلامي تحت الراية الإسلامية مرة أخرى مع ثورات الربيع العربي .
وبالتالي لايعد أمام السودان إلا مواجهة هذه الحقيقة وهي أن الصراع مع جنوب السودان صراع خطير وله أبعاد تاريخية وتوراتية وإقليمية كبرى وأن مسألة تحسين العلاقات والنوايا  الطيبة قد لاتفيد   مهما أبديت حسن النوايا ،وأن على الرسميين أن يبنوا استراتيجية جديدة تنص على ضرورة التخلص من الحركة الشعبية لتحرير السودان في جنوب السوان نفسه عبر دعم خصومها المناوئين لها.
بيد أن عيوب ذلك الاتجاه تتمثل في ضعف وهشاشة البنية القبلية لجنوب السودان وأن مثل هذا الاتجاه يمكن أن يؤدي إلى خسائر فادحة في الأرواح الجنوبية نتيجة الصراع القبلي الذي له  جذور عميقة في التربة الجنوبية  ، وهي نتيجة لايمكن أن يقبل بها الشمال أخلاقيا ، ولأن هؤلاء ظلوا وإلى وقت قريب جزءاً أساسياً من مواطني السودان وأن خسارتهم ربما تفيد جيران دولة جنوب السودان الآخرين الذين يودون وراثة الجنوب بأكمله وليس لديهم اتصال روحي وثقافي بالشمال ، كما أن عواقبها الإعلامية والتنديدية سوف تكون كبيرة وربما فاقت قضية دارفور ، ولايستطيع الشمال تحمل  تلك الاتهامات مرتين، كما أن الجنوب  فيما يبدو متجه نحو محرقة قبلية بلا تدخل أو دعم من الشمال والشواهد كثيرة على ذلك ، وبالتالي الحل يكمن في تنبيه القائمين على أمر الصراع مع السودان ، أن السودان لو أخذ بنفس أساليبهم  في تمويل معارضي الحركة الشعبية فإن الخسائر البشرية سوف تكون كبيرة ولا يستطيع أحد   تحملها ، كما لا ننسى أن السودان له خبرة واسعة في دعم معارضة دول الجوار، وأدت في أحيان كثيرة إلى سقوط النظام عندما جاءت اللحظة المناسبة (حتي لو شارك آخرون في ذلك) كما في حالة إثيوبيا منقستو 1991م  - وكما في حالة معمر القذافي 2011م ، وأدت في أحيان أخري إلى أن يوقف الطرف الآخر دعمه للمعارضة السودانية المسلحة ، كما في حالة تشاد 2009م وإريتريا 2008م، وبالتالي فإن الخبرة السودانية كبيرة ولايمكن الاستهانة بها.
وأفضل ما يمكن للجنوب أن يقوم به هو التنصل من المشاركة في الإستراتيجيات الكبرى لإلحاق الأذى بالسودان ، والتي تنطلق من رؤى توراتية   تحاول الصهيونية الدولية الاستفادة منها بالإشتراك مع كثير من الكنائس البروتستانتية التي ترى أن نزول المخلصّ لايمكن أن يكتمل إلا مع اكتمال إنشاء إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات !!, وحل القضايا العالقة سلميا، والتنسيق الاقتصادي مع الشمال والانتباه إلى أطماع دول الجوار الإقليمي الأخرى.
توصيات الدراسة :
توصي الدراسة بالآتي :
1-      عدم الطرق على مسألة الوحدة حاليا لأن المزاج الشعبي والرسمي في كلا البلدين قد لايكون مهيئا لها، وأن تأخذ تجربة الانفصال أبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية كاملا حتى تتكون قناعات جديدة في أزمان قادمة للبدء في التفكير في بناء تجربة وحدودية جديدة .
2-      تحسين العلاقات  وعدم التصعيد بقدر الإمكان حتى لايتحول الصراع بين الطرفين إلى صراع وجودي مصيري عبر تدخل أطراف خارجية مثل إسرائيل وبعض الجماعات المسيحية المتشددة التي ترتبط بأفكار توراتية لها علاقة بنهاية التاريخ ويوم الدينونة.
3-      ضرورة التجاوب مع حلول  المجتمع الدولي لحل القضايا العالقة بين البلدين ، وأن يستمر المجتمع الدولي في أداء دوره بغض النظر عن تحفظات الجانب السوداني وشكوكه العميقة حول أدواره السابقة
4-    ضرورة التركيز على الاقتصاد حتى يكون اللبنة الاساسية التي تبنى عليها العلاقات بين الطرفين بحيث يتكون تيار  جماهيري عرض ذو ارتباط  نفعي  من الطرفين يدافع عن العلاقات المشتركة .
5-    على السودان تجنب التعامل  بالمثل مع دولة جنوب السودان فيما يختص بدعم المعارضة المسلحة له لأن الجنوب دولة هشة وضعيفة إثنيا ، وأن خسائر الحرب الأهلية فيها قد تكون باهظة ومدمرة كليا  للدولة الوليدة.
6-     يجب ألا يكون هناك تعويل كثير على أن مسالة إسقاط النظام في السودان يمكن تحدث انفراجة كبيرة في العلاقات المشتركة خصوصا لو وصل حلفاؤها إلي السلطة في الخرطوم ،وذلك لأن قدرة المعارضة الإثنية على تشكيل واقع مختلف في الخرطوم شبه منعدمة بعد انفصال الجنوب، وأن حظوظ الحركة الشعبية في الشمال تتزايد مع تحسن العلاقات سلميا.
7-    ضرورة التنسيق السياسي والاقتصادي المشترك لأن الأطماع في ثروات جنوب السودان قد تكون على درجة عالية من الخطورة بحيث يمكن أن تؤدي إلى انهيار الدولة في حالة إصرار دول الجوار الإقليمي بالفوز بحصة أكبر من ثروات جنوب السودان عبر إثارة النعرات القبلية والاختراقات الاستخباراتية والعسكرية  وإغراءات النخب المسيطرة في جوبا.
8-    على السودان الاتجاه نحو الوحدة مع الدول العربية وخصوصا مصر وليبيا، وعدم الالتفاف إلى فكرة إعادة الوحدة مع الجنوب بعد أن جُربت لأكثر من خمسين عاما متتالية واقعدت به كثيرا عن اللحاق برصفائه من دول الجوار الإقليمي، حتى إذا اتجهت البلاد مرة أخرى نحو الوحدة مع الجنوب تكون أكثر قوة وأكثر تجانسا عرقيا ودينيا وأكبر قدرة على استيعاب دولة جنوب السودان.
9-      عدم التعويل كثيرا على الارتباطات الخارجية مع القوى العظمى لتقديم دعم متواصل مع استمرار انتهاكات حقوق  الإنسان  وغياب الديمقراطية لأن من شأن ذلك أن يفضي إلى وقف الدعم الخارجي سريعا.

مصادر الدراسة :

1-    هيلدا فرافجورد جونسون ، اندلاع السلام (نيفاشا ) قصتي مع مفاوضات أطول حروب إفريقيا ، ترجمة فريق ميتافرسي ، دار مدارك للنشر ، الخرطوم 2011م ،ص372.
2-    أحمد المصطفي ابراهيم ، كلهم صقور.. رياك مشار ، صحيفة سودانايل الإلكترونية ، منبر الرأي ، 16 ابريل 2012م .
3-    د. قيس جواد العزاوي ، الدولة العثمانية – قراءة جديدة لعوامل الانحطاط ، الدار العربية للعلوم ، بيروت ، 2008م ، ص 21.
4-     شمس الهدى إبراهيم إدريس ، التدخل الإسرائيلي في السودان كيف ولماذا ؟ شركة مطابع السودان للعملة المحدودة ، الخرطوم 2005م، ص 185.
5-    سارة تاج السر، الاتجار بالبشر .. خصم على الضمير  ، تلخيص ندوة صحيفة الصحافة السودانية 10 يونيو 2010م ،.
6-    د. عبداللطيف البوني ،  صحيفة السوداني، عمود حاطب ليل، العدد 2369   الموافق22 /7/2012م،الصفحة الأخيرة  .
7-    د. واني تومبي ، الانفصال ومهددات الاستقرار في الجنوب ، ترجمة الفاتح زيادة، إصدار مركز دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا، الخرطوم 2008م، ص60.
8-    علي عبدالرحيم علي ، خواطر حول الأزمة السودانية : مكامن الأذى ومفاتح الخروج ، صحيفة السوداني ، الخرطوم ، 7 مايو 2012م .
9-    د. الأمين عبدالرازق آدم ، التدخلات الخارجية وأثرها على الاستقرار السياسي في الصومال 91-2002م، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة ، الخرطوم،2006م ،ص 134.
10-    شمس الهدى إبراهيم ، رحل قرنق هل يبقى السلام ؟ ، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة ، الخرطوم 2005م ، ص 121.
11-    غريس  هالسل، النبؤة والسياسة ، ترجمة محمد السماك ، دار الكتاب المصري اللبناني، القاهرة 2001م ، ص 75 .
Matasm al-ameen [matasm.alameen@gmail.com]
//////////////

 

آراء