مزادات الربيع العربي
د. حسن بشير
13 January, 2013
13 January, 2013
غيوم كثيفة تملأ سماء أقطار ما صار يعرف بالربيع العربي ومحيطها. يمكن ملاحظة ذلك بوضوح من خلال تعقد الأزمة السورية وامتداداتها خاصة ما يحدث في العراق والأردن ولبنان. كذلك الحال في العديد من الدول الإفريقية التي اشتعلت فيها نيران الصراع والأزمات من مالي ذات العلاقة المباشرة بسقوط نظام ألقذافي ، جمهورية إفريقيا الوسطي، الكنغو الديمقراطية مرورا بالصراعات المتقدة في السودان، دولة جنوب السودان وصولا ألي القرن الإفريقي. لا يمكن عزل هذه الأحداث عن بعضها البعض بروابطها السياسية – الاجتماعية – الاثنية والعقائدية. كان متوقعا ان تثير ثورات الربيع العربي ما أثارت من ردود أفعال وسيكون مخاض تلك الثورات طويلا وتداعياتها كبري بشكل لا يتيح إمكانية التكهن بنتائجها النهائية علي هذه الدولة او تلك وعلي المنطقة والعالم بأثره.
كل ذلك مفهوم إلا أن (الربيع العربي) قد انكشف علي مزادات مفتوحة من كل نوع. وبما ان ما جري قد جر وراءه تداعيات اقتصادية شديدة التأثير فقد كان لأجراس المزادات الاقتصادية أصوات اعلي ورنين يصم الأذان. لكن قبل الدخول في المزاد الاقتصادي فان التوقف عند مزادات اخري مهم. أول مظاهر(الربيع العربي) هي إحلالها لأنظمة علمانية دكتاتورية، إلا أنها علي الأقل ومن الناحية النظرية كانت تحترم خصوصية الأفراد (مصر وتونس)،تم إحلالها بأنظمة يسيطر عليها الإخوان المسلمين وبعض من التيارات السلفية وهذه خطوة كبيرة الي الوراء. كل ادعاءات جماعات الإسلام السياسي باحترامها للديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحرية التعبير وفقا للمعايير الدولية المتعارف عليها تصطدم بجدار من الممارسات المناقضة للأقوال في الممارسة العملية، مما يحولها الي مزادات للكسب السياسي في مناخ من قلة الوعي وغياب مقومات الاختيار السليم بسبب عهود طويلة من القمع المادي والمعنوي الذي غيب المعرفة والإدراك السليم للأشياء.
يمكن الاستدلال علي ما ذهبنا إليه أعلاه بالجدل الدائر في مصر وتونس حول مرجعيات النظام السياسي الجديد والتأسيس له عبر نظم دستورية قانونية تحظي بقدر مناسب من التوافق. إلا إن ما يحدث هو العكس تماما فقد ساد نوع سافر من التغول علي الحريات العامة ومن أهمها حرية التعبير، كما ساد نوع مقيت من التضليل السياسي بقول الشيء وفعل ضده. أصبح هناك جدل عقيم حول أولويات الحكم -مصر كمثال - هل هي محاربة التحرش الجنسي وختان الإناث أم هو كنس الأوساخ من الشوارع وتشغيل المخابر وتسيير المواصلات؟ يحدث ذلك في وقت تعاني فيه المجتمعات العربية من التضخم المتصاعد، معدلات خطيرة من البطالة ومستويات الفقر المرتفعة.
سادت في دول (الربيع العربي) مزادات سياسية حول الانتخابات، الدستور، الاستفتاء ، قوانين العزل السياسي وغيرها، مع شهوة جامحة لجماعات الإسلام السياسي في السيطرة السريعة علي مفاصل الدولة والاقتصاد. لم يتأخر الدعم لهذا الاتجاه والخطير فيه، ان جزء مهم منه يأتي من كيانات لا تتمتع بصفة الدولة خاصة من حيث المؤسسات والبعد الجيوبولتيكي إقليميا ودوليا ناهيك عن مبادئ الحكم الرشيد والممارسة الديمقراطية، آذ أن سكان اكبر دولة داعمة لسيطرة الإسلام السياسي لا يتعدي تعداد تظاهرة واحدة في شارع الستين اليمني. في هذا المناخ من الطبيعي ان يطغي الاتجاه المعادي للمشاركة الشعبية الواسعة وحرية التعبير في دول الربيع العربي في تكامل أنظمتها مع أنظمة من نفس النمط، الا ان وصولها للحكم لم يكن عن طريق ثورة ولم يمر عبر صناديق للانتخابات بمشاركة سياسية معقولة، بالرغم من ان صناديق الانتخابات في حد ذاتها، لا تعني بالضرورة الديمقراطية، خاصة مع ملاحظة ان عدد المشاركين في الاستفتاء علي الدستور المصري لم يصل الي الثلث من الذين يحق لهم التصويت وبالرغم من ذلك فان الاقتراع بنعم لم يصل إلي الثلثين. هذه نتيجة مخادعة ومخلة بجميع المعايير الخاصة بالديمقراطية والتمثيل الحقيقي لأصحاب المصلحة التي يجب ان تحظي بمشاركة شعبية واسعة خاصة بعد ان تأتي مباشرة نتيجة لثورة شعبية لم تنطفي جذوتها بعد. في هذه الحالة فمن الطبيعي ان تتوق هذه الأنظمة وتوابعها للعيش في الظلام وتخاف من اي صباح جديد لتعودها علي العيش في الظلام.
فيما يتعلق بالمزادات الاقتصادية فقد تجلت في بدع جديدة سيطر عليها نموذج (وديعة – قرض – منحة). تحولت وظيفة استقطاب الودائع من وظيفة مصرفية بحتة الي وظيفة لدول ما. هذه الودائع التي يمكن ان تسحب في اي وقت خاصة في حالة انحراف الوضع عن المسار المرغوب فيه، موجهة لنصرة جماعة سياسية معينة وليس لأهداف ذات علاقة بقدرة الأنظمة المصرفية وكفاءتها بشكل يضمن مقومات النظام التمويلي ومناخ الاستثمار. أما القروض فهي اذا كانت دولية فتأتي بشروطها المعروفة السياسية والاقتصادية وسيدفع ثمنها الشعب ، أما تلك الإقليمية منها فهي مبهمة وبعيدة عن الشفافية والإفصاح مما يجعلها أسوأ بجميع المقاييس من قروض صندوق النقد الدولي علي سبيل المثال. فيما يتعلق بالمنح فهي خارجة عن الإطار المتعارف عليه حولها، إذ إن المنحة تعطي لغرض معين يرتبط بمنافع محددة من حيث الزمان والمكان والمشروع والمستفيد ، إضافة إلي الثمن المقابل لها الذي يجب تسديده للمانح. بهذا الشكل فان نموذج(وديعة – قرض – منحة) السائد اليوم في مناخ (الربيع العربي) يتحول الي مزاد مفتوح علي الطريقة طرح هذا الربيع في بورصة ما والذي يستطيع المزايدة يفوز بالعطاء (واللِما يشتري يتفرج).
في إي اتجاه يسير ذلك النموذج؟ ولمصلحة من؟ وبأي هدف؟ ولماذا تستثمر قطر أكثر من غيرها في هذا المزاد وتفوز دائما بالعطاءات وتكسب الرهان دون منافس؟ حدث ذلك بشكل أكثر وضوحا في مصر، أما السودان فلم يحصل حتي علي الوديعة الموعودة وأخر ما كسبه هو قرض من مصرف صيني بضمانات نفطية مستقبلية وهو قرض في حد ذاته محاط بالغموض وعدم الشفافية المطلوب في حالة الإقراض والاقتراض. اللاعبون الدوليون المحركون لتلك المزادات لا زالوا يحركون خيوط اللعب من وراء ستار، وفي هذه المرة هو ستار نقدي، امني، استخباراتي يجر وراءه الكثير من الأسئلة كما يقود إلي الكثير من الضحايا الحاليين والآتون في الطريق.
هل ما يجري الآن هو تكريس لعالم جديد برؤية محددة، بعد احتواء الثورات العربية وحرفها عن مسارها وإغراقها في صراعات جانبية لا نهاية لها؟ هل هو تدعيم للفوضى الخلاقة؟ هل هو محاولة للاستدراج السياسي لبناء نمط معين من الأنظمة أو ربما للقضاء علي نوع معين من الأعداء؟ لمصلحة من يتم كل ذلك وأين هي مصالح الشعوب التي انتفضت بحثا عن الحرية والكرامة وحقها في حياة تليق بالإنسان تحت ظل أنظمة تحترم إنسانيتها وتلحقها بركب الحضارة والتقدم الاجتماعي؟ تلك أسئلة مع الكثير غيرها تبحث حائرة عن إجابة.
في كل الأحوال فان أبعاد الصراع قد اتسعت ولم تعد تدور في حدود الدول المعنية او فقط بين ( الشعب والنظام). لقد كان زلزال الربيع العربي قوي هز العالم وأيقظ أقطابه وادخلها في عهد جديد من الصراع. يمكن القول ان عصر جديد للتحرر، بمفاهيم جديدة للحرية والانعتاق من الظلم الاستعباد قد بدأ في التكون. ومن الممكن ان تشكل المعارك الدائرة الآن في كل من مصر وسوريا وإيران، ان تشكل عنصرا حاسما في اتجاه المسار الجديد وتحديد نتائجه وبالتالي تستجلي بوضوح اكبر حسابات الربح والخسارة في جملة المزادات الدائرة الآن. بمعني كيف ستحسم تلك المعارك ولمصلحة من ومتى وبأي ثمن؟ عندها ستتسع دائرة أنظمة ما بعد (الربيع) وسيكبر تأثيرها الإقليمي والدولي، وستكون الصورة أكثر وضوحا.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]