سباق “المواثيق”.. ضوء في آخر النفق
khalidtigani@gmail.com
حكى سياسي ضليع أن ممثلي "الإسلاميين" في قيادة الجبهة الوطنية السودانية المعارضة لنظام نميري منتصف السبعينيات كانوا يجهدون أنفسهم في إحكام صياغة مواثيق مغلظة تؤكد على الوجهة الإسلامية وتطبيق أحكام الشريعة في نظام الحكم الذي كانت تحالف المعارضة ينوي إقامته عند نجاح مساعيه لإسقاط نظام النميري، وكان زعيماً بارزاً في الجبهة الوطنية يسارع دائماً على التوقيع على أي ميثاق يتضمن النصوص أعلاه دون تردد، ولما كان زملاؤه المقربون يحتجون على صنيعه وينعون عليه الخضوع لأجندة "الإسلاميين"، كان يرد عليهم قائلاً دعونا من ذلك فهو مجرد حبر على ورق، هل تظنون أن أحداً سيحفل بما هو منصوص فيها عندما نحقق غرضنا، دعونا ننجز مهمتنا الأساسية أولاً إسقاط النظام، وبعدها لكل حادثة حديث.
تكشف تلك القصة الواقعية عن مثال نموذجي للعقلية الانتهازية التي اتسم بها غالب ممارسات الطبقة السياسية السودانية التي عرقلت نشوء مشروع وطني راكز وأصابته في مقتل بغلبة التكتيكي على الاستراتيجي في نهج ممارستها للعمل السياسي، ولذلك تجدها مولعة بإبرام المواثيق والعهود لتحقيق أغراض مرحلية محددة في أوقات وظروف سياسية بعينها، لكنها لم تثبت أبداً أنها كانت جدية في إلتزامها بما تتعهد به من اتفاقات.
ولذلك لا يبدو مستغرباً في العرف السائد وليس فريداً ولا نسيج وحده ممارسة الاستهانة بالعهود والمواثيق والتمادي في نقضها، في نعي شهير لمولانا أبيل ألير لهذا المسلك، وهو داء قديم متمكن من عقلية الطبقة السياسية السودانية، لا يكاد ينجو منه أحد منذ بواكير انشغالها بالصراع على السلطة بلا رصيد من أجندة مصالح وطنية عليا تتسامى فوق المصالح الحزبية الضيقة.
وما تقسيم السودان بعد نحو ستة عقود من الاستقلال إلا إحدى الثمرات المرة لأول تنكر للطبقة السياسية لعهدها للجنوبيين عشية الاستقلال بتحقيق مطلبهم المًلح بالفدرالية، التي كان قصر النظر السياسي وغياب الرؤية المبصرة يصورها حينها كفراً بواحاً وسبيلاً سالكاً للانفصال، وهو ما تحقق فعلاً في عهد الحكم الحالي الذي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري بزعم عريض, الحفاظ على وحدة البلاد في وجه تمرد زاحف أواخر الثمانينيات فإذا هو يسلم بتقسيم البلاد على مائدة التفاوض في نصر بلا حرب لدعاة الوطنية الجنوبية وضغوط الانفصاليين الشماليين، وليحقق "النظام الإسلامي" الحاكم بنفسه "المؤامرة" التي كان يتهم الاستعمار والغرب بتدبيرها لفصل الجنوب وتفتيت وحدة البلاد. وهو ما يقود لسؤال بدهي طالما أن قادة الحكم مقتنعون بهذا الاتهام الذي لا يزالون يرددونه في المنابر العامة، فلماذا إذن رضوا بأن يكونوا هم أنفسهم أداة تنفيذ المؤامرة المزعومة؟!
وما كانت الانقلابات العسكرية في ظاهرها، المدنية الحزبية في جوهرها لأول أمرها، التي تحكمت في البلاد لنحو خمس عقود وعرقلت استقرارها ونهوضها، إلا ثمرة أخرى لتنكر بعض النخب السياسية لعهود دستورية تواثقوا عليها لتأسيس نظام ديمقراطي يكفل الحرية والتبادل السلمي للحكم، ولكن استعجالها للوصول إلى السلطة أو لمجرد السعي لتصفية حسابات بسبب صراعات مريرة قادها للتنكر لتعهداتها لتتحول لاحقاً هي نفسها إلى ضحية لتآمرها وبأيدي من قادتهم إلى السلطة بليل.
وهكذا جرى توقيع العديد من المواثيق بين الأطراف السياسية السودانية، التي يؤكد التنكُّر لها في كل مرة سوء الظن في رشد النخبة السياسية، كان من أشهرها ميثاق الدفاع عن الديمقراطية الذي تواثقت عليه القوى السياسية عقب انتفاضة أبريل لمنع عودة الحكم العسكري بعد التجربة المريرة لنظامي عبود ونميري، وفي ظل صمت لم يخلو من تواطؤ وشماتة بعض دعاة الديمقراطية اليوم تمكن النظام العسكري الثالث من مفاصل السلطة ليلبث فيها إلى يوم الناس هذا.
وجاء ميثاق أسمرا في أعقاب مؤتمر القضايا المصيرية منتصف تسعينيات القرن الماضي جامعاً قوى المعارضة الرئيسية في مواجهة الحكم الإنقاذي، وما لبث إلا قليلاً حتى تسللت قواه الرئيسية لواذاً متحللة من عهودها لبعضه البعض، لتنخرط في مفاوضات جزئية مع "المؤتمر الوطني" لتنجب العديد من الاتفاقيات الثنائية التي تفاوتت حظوظ موقعيها في الاغتراف من كعكة السلطة والثروة، ولكن قادت كلها في نهاية الأمر إلى نتيجة واحدة إضفاء المزيد من التعقيد على الأزمة الوطنية التي تفاقمت في عصر ما بعد التقسيم، التي تنذر بالمزيد من التشرذم والتمزق في بلد لا تنقصه الأزمات المستفحلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
أما الحكم الإنقاذي فقد فات "الكبار والقدرو" في تفننه في إبرام المواثيق والاتفاقات مع معارضيه، والتي لا تعني له إلا وسيلة لـ "يقطع بها فَرَقة"، ثم السعي من أول يوم في التفلُّت من التزاماتها في لهاث لا ينتهي من أجل الاحتفاظ بالسلطة وبأي ثمن، لا يحمل هماً ولا يعبأ بالتبعات على الوطن، حتى إنه يستحق بجدارة الدخول في موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية بكثرة الاتفاقيات السياسية الموقعة في حالة إدمان تفاوض مستدام لم يسبقه عليها أحد من العالمين.
بهذه الخلفية التي تثبت خلو الذاكرة والممارسة الفعلية للطبقة السياسية السودانية على امتداد طيفها من رصيد أخلاقي في احترام المواثيق والعهود يشفع لها في أن تكون محطَّ آمال وطنية حائرة في سبل الخروج من المأزق الوطني الراهن، يثور تساؤل كبير حول جدوى "المواثيق" التي تغرق الساحة السياسة السودانية حالياً، وإلى أي مدًى ستكون جدية وصالحة وتملك القدرة على انتشال السودان من محنته الحالية إذ ليس هناك ما يثبت أن النخب السياسية المتصارعة نسيت شيئاً أو تعلمت شيئاً من سيرتها المنكرة في التنكُّر للعهود والمواثيق حتى بعد أن وصل حال البلاد إلى شفا الانهيار والتشرذم.
ففي الساحة تدور حرب سياسية ضروس بين ثلاثة مواثيق، "الفجر الجديد" لجماعات المعارضة المدنية والثورية، و"الفجر الإسلامي" لجماعات إسلامية خارجة من تحت عباءة "الحكم الإنقاذي"، و"الدستور الجديد" الداعي له حزب المؤتمر الوطني الحاكم، تتسابق للتأثير على مجريات الوضع السياسي الراهن وخلق النظام السياسي السوداني الجديد الآخذ في التشكل بعد انتهاء عصر الدولة السودانية الموحدة التي خلفت الاستعمار بتقسيم البلاد وفصل الجنوب، وتنذر بالمزيد من التفتيت لما تبقى منها في ظل استمرار النزاع المسلح في "هلال التمرد" الممتد من دارفور، مروراً بحدود الجنوب الجديد، وحتى النيل الأزرق شرقاً. مع غياب أفق لتسوية سلمية شاملة.
من المهم الإشارة هنا إلى أن هذه "المواثيق" الثلاث تشكل لافتات لتوازنات القوى وفق المعطيات الراهنة، وتشير إلى التوجهات العامة وتكتيكات الأطراف السياسية المنضوية تحتها بأكثر مما تعبر حقيقة عن تضامن صارم شديد الإلتزام بتعهداتها، ولذلك تصح قراءتها في خانة قدرتها على تحريك الفعل السياسي، في ما تبقى نصوصها خاضعة للفهم بمنطق التكتيك المرحلي ولا تعني بالضرورة أنها تعبر بدقة عن الالتزام المستقبلي بتعهداتها.
ولذلك فإن "ميثاق الفجر الجديد" نال قصب السبق في إثبات قدرته على كسر حالة الجمود وملء الفراغ الناجم عن غياب مبادرة فعالة تشغل الساحة السياسية بأجندة البحث عن مخارج من المأزق الراهن. ولعله لم يدر بخلد قادة الحركات الثورية والمعارضة المدنية وهم يوقعون في العاصمة الأوغندية كمبالا في السادس من يناير الماضي على هذا الميثاق على عجل، وبلا تدابير محكمة مما أوقعه تحت دائرة النقد من بعض مؤيديه، بأنه سيجد كل هذا الصيت الذائع.
وفي الحق فإن أصحاب "الفجر الجديد" مدينون بالشكر الجزيل لخصومهم في "المؤتمر الوطني" الذين قادوا بالنيابة عنهم حملة علاقات عامة ناجحة غاية في التوفيق لأغراض المعارضين، وفي دلالة بالغة على خلو جراب الحزب الحاكم من حس سياسي محنك، فقد نقل هجوم قادة الحكم الضاري هذا الميثاق من حدث كان من الممكن أن يظل معزولاً في ضواحي كمبالا تتداوله المواقع الإسفيرية، إلى حدث سياسي حاضر بقوة في قلب العاصمة الخرطوم ليصبح الشغل الشاغل للساحة الوطنية والمحرك للأجندة الوطنية.
والسؤال المطروح لماذا تكفل الحزب الحاكم بقيادة حملة العلاقات العامة الناجحة هذه لصالح "ميثاق الفجر الجديد" على الرغم من أن هدفه بالطبع هو مكافحته والقضاء عليه؟. هل أخطأ الهدف ام أخطأ الوسيلة والتصويب؟. من الواضح أن قادة المؤتمر الوطني رأوا في نصوص الميثاق في شأن علاقة الدين والدولة والتي تنص على "إقرار دستور وقوانين قائمة على فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة لضمان عدم استقلال الدين في السياسية"، فرصة لدمغ التحالف الجديد بـ"العلمانية"، وسانحة يمكن اهتبالها لكسب الرأي العام المحافظ إلى جانب الحزب الحاكم الذي تآكلت شعبيته بسبب الأزمات المتلاحقة لا سيما الاقتصادية الضاغطة بشدة على المواطنين، فضلاً عن تضعضع مشروعيته الإسلامية تحت ضربات الانقسامات والانتقادات الحادة التي يواجهها من الإصلاحيين في داخل صفوفه.
كما وفرت دعوة "ميثاق الفجر الجديد" لإعادة هيكلة القوات التنظامية مجالاً لتعزيز مخاوف اهالي الوسط من تبعات سيطرة قوى الهامش مما هو راسخ في الصورة الذهنية الرائجة عن تحولات جذرية في تركيبة وتوازنات المعادلة الراهنة في البلاد والتي أفرزت صراع المركز والهامش بكل محمولاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
من الصعب التكهن بقياس مدى النجاح الذي لقيه خطاب "المؤتمر الوطني" في استثارة تعاطف الرأي العام النيلي، ولكن يجدر لفت النظر إلى أن حدة لغة خطاب قادته وتناقضها أحياناً، فضلاً عن لجوئه إلى إعادة تقديم نفسه كحارس للبوابة الإسلامية مع استدعاء شعارات يفضحها الواقع المعاش، قللت إلى درجة كبيرة درجة التجاوب مع الحملة المضادة، وتبدو المسألة في الوعي العام أقرب إلى جولة جديدة من الصراع على السلطة مع المعارضة أكثر من كونها فصلاً جديداً في صراع حقيقي على الوجود والهوية.
ولعل أصحاب "ميثاق الفجر الجديد" مدينون أيضاً بالشكر الجزيل لجماعة ميثاق"الفجر الإسلامي" الذين أصابوا الحملة الحكومية ضدها في مقتل، ذلك أن ميثاق الخرطوم الذي يأتي رداً على ميثاق كمبالا، في سياق ثنائية الإسلامية مقابل العلمانية، إلا أنه في للواقع عزز إلى درجة كبيرة افتراضات ميثاق المعارضة، في شأن تشخيص الأوضاع المأزومة الراهنة التي تعيشها البلاد، ومع اختلاف المنطلقات إلا أن الميثاقَين توصلاً إلى نتيجة مشتركة فيما يختص بتحميل نظام المؤتمر الوطني لا غيره المسؤول عن إدخال البلاد في نفق مظلم.
ومن يقرأ الانتقادات الحادة لحكم المؤتمر الوطني التي حفل بها "ميثاق الفجر الإسلامي" سيتعين عليه أن يفرك عينيه جيداً ليتأكد إن كان يقرأ في وثيقة "الفجر الجديد" أم ميثاق "الفجر الإسلامي"، وهي للمفارقة علامة إيجابية أن التناقض الحاد بين الطرفين في المنطلقات أفرز في نهاية الأمر أرضية مشتركة في تشخيص المأزق الراهن الذي تعيشه البلاد، مما هو محل إنكار مستميت من الحزب الحاكم. وهو ما يؤكد أن الحاجة الملحة للتغيير أصبحت مطلباً عاماً لا يمكن تفاديه، وإن بقي السؤال الكبير من يشكل ملامح المرحلة المقبلة؟، وهل يملك لطرف واحد أن يحدد خياراتها، أم أن الشعب صاحب المصلحة الحقيقية هو الذي يفرض في نهاية الأمر النظام السياسي الذي يتوق إليه بكل حرية.
والمفارقة الأخرى أن الميثاق الإسلامي شنَّ هجوماً لاذعاً على المعارضة المدنية والمسلحة، لكنه أفسد في الوقت نفسه على "المؤتمر الوطني" الاستفادة من "الكرت الإسلامي" حيث نعى على النظام الحاكم أوراق اعتماده الإسلامية واعتبره يرفع شعارات من باب الأماني "ظلَّ يرفعها بلا سند من حقائق الواقع من تراجع مستمر وتدحرج بالبلاد نحو الهاوية"، ورماه بكل مثلبة من النفاق واقتراف الفساد إلى تكريس القبلية، قبل أن تصنف جماعة "الميثاق الإسلامي" نفسها هي الأخرى معارضة تسعى لخلافة النظام الراهن عند سقوطه لتحقيق ما تصبو إليه من "حكم إسلامي خالص".
من الواضح أن "المؤتمر الوطني" الذي أجهده إدمان اللعب على تناقضات الآخرين يجد نفسه أخيراً محاصراً بين قطبي رحى، وقد انقلب السحر على الساحر، ولم يعد في جرابه حيل جديدة يستخدمها لتخفيف حدة عزلته غير المجيدة، التي ازدادت بفعل التمرد عليه حتى من قِبَل أقرب وأخلص مؤيديه، ولم يعد من سبيل إلى المزيد من الهروب إلى الأمام بترحيل الأزمات وتأجيل حلها في انتظار معجزة ما.
فقد كشف الحراك الذي أحدثه ميثاق "الفجر الجديد", على علاته الكثيرة, أن الحزب الحاكم لا يملك أية مبادرة للخروج من النفق الذي أدخل فيه البلاد بعد ربع قرن من الحكم المطلق، وأن التعامل بردود الفعل لم يعد ذا جدوى، وأن التخويف من أجندة المعارضة لم تعد كافية لحشد التأييد، وأن استخدام حجة كتابة دستور جديد للبلاد لا تصلح في حد ذاتها كمبادرة سياسية لتخليص البلاد من أزمتها في غياب إرادة سياسية مدركة ومستعدة لدفع استحقاقات ذلك. وفي غياب توافق وطني واسع على تعاقد على الأسس الجديدة لبناء دولة سودانية جديدة من بين الركام الحالي.
نقلاً عن صحيفة إيلاف السودانية
الاربعاء 27 فبراير 2013
/////////