لماذا عجزت المؤسسة السودانية عن النهوض بأعباء التنمية القومية الشاملة. بقلم: د.عبدالسلام نورالدين

 


 

 




مدخل الى مجتمع ودولة التعاقد

(الحلقة الخامسة)

د-عبدالسلام نورالدين

abdelsalamhamad@yahoo.co.uk

**
اختلالات بنيوية في هيكل المؤسسة السودانية
-1-

*لم تتخلق المؤسسة السودانية جسدا وعقلا ووجدانا  تخلقا  طببعيا  عبر الزمان  من المكونات  القومية التي تضم شرق وغرب وشمال ووسط وجنوب السودان  ولم تكن امتدادا متطورا  للمجتمعات  التي سادت في الرقعة  الجغرافية التي ترسمت فيها  حدود دولة السودان القومية بمشيئة الغازي التركي المصري- فالمهدية  واخيرا الحكم الثنائي(  1821-1885- 1898 -1956   )-بل أتت للوجود  بتدبير محكم  على يد الخزاف  المثال السياسي-الحكم الثنائي (مصر وبريطانيا)  من اقليم نهر النيل وحده  ثم  أرتاى أن يستلحق بها  بعد فجيعته في افندية  حركة اللواء الابيض (1924 ) الادارة الاهلية  التي اعاد  هيكلة الزعامة فيها  نفس الخزاف المثال  وفق حاجاته  ورغباته  وطمو حاته  و تعبيرا في ذات  الوقت  ايضا عن الطرائق التي يفكر بها وقد نقل ذلك الوضع الذهني الى التطبيق العملي  عبر سيادته  المباشرة  كقدوة ونموذج ينبغي أن  يحتذى وعبر مقررات مناهجة  التعليمية وكقوة سياسة ومالية  ذات حول وطول ليس من الميسور الوقوف في وجهها  -نقل كل ذلك   الي  المؤسسة  السودانية   التي اعادت انتاج الحكم الثنائي وفق طرائقها الخاصة في التصور والتمثل واللغى   فقادها  ما بدا لها   اتساعا في حيلتها   رغم  التدافع الجارف للحركة الوطنية السودانية بعد الحرب العالمية الثانية ان  تتجنب  بحذر بالغ  أو بخوف تصورته مكرا كبارا من جانبها ن تضع تحت مجهر عنايتها  القضايا الكبرى التي  كانت احرى ان تكون في أعلى  قائمة اجندتها الوطنية  (   العقد الاجتماعي -المشروع السياسي الشامل -الاعتراف يالتعدد  القومي والثقافي والديني واللغوي في السودان)   وهي تتأهب لتحرير بلادها من قبضة الاستعمارين المصري والبريطاني حيث  كان من المنتظر منها نظريا على الاقل  أن  تبدأ بخارطة طريق  باستكمال البنية التحتية لكل السودان ( تامين الحصول على الماء للنبات والحيوان والانسان-المواصلات الحديدية والنهرية -تعبيد الطرق الارضية -الجوية -البريد والبرق -استقرار الرحل من الابالة والبقارة -مكافحة الافات الزراعية والحيوانية وصياىة التربة -التصدي للتصحر-التعليم الاساس والاوسط والثانوي-صحة الحيوان والانسان )  التي لا قوام ونمو وتطور للانتاج والتوزيع والتسويق  بدونها  ويبدو أن  دهاء  الوطنيين  سواء ان كانوا  استقلاليين مع   البريطانيين  أو اتحاديين مع التاج المصري   قد  صب  في مجرى مغاير  تماما حيث  زين لهم  عقلهم الهارب من مواجهة اولويات قائمة الاجندة الوطنية    تقية أو تجليا لذكاء بدا لهم شرودا   ان يتحقق لهم   الاستقلال من خلال دفع المصريين والبريطانيين الى مياديين الاحتراب عبر التوزع الوطني بينهما -وهي ايضا  من  مكتسبات ماثورات الثقافة البريطانية والمصرية  (-اختفي ثم ابحث عما تريد      Hide and seek  أو لعبة الاستغماية -)وهكذا كان على الاستقلاليين أن يتدثروا بالبريطانيين وعلى الاتحاديين ان يتدثروا  بالمصريين وعلى الاستعمارين ان يقتتلا حتي يتلاشيا   أما الذي وقع بالفعل  فقد دارت الحرب الضروس بين الاتحاديين والاستقلايين  طوال فترة تقرير المصيروما بعدها  (-حوادث  مارس 1954  حوادث الجنوب 1955 -انشقاق الاتحاديين 1956-
-2-
* ظلت  دولة  ما بعد الاستعمار  منذ يومها  الاول في الاستقلال تمشي بخطي ثابتة قد تبطئ احيانا ولكنها قدما شطر جرف  يتتفتت ويتساقط  وذلك  يعزي  في جوهره في تصور كاتب هذه السطور 1"لغياب ما يمكن ان نطلق عليها ـ الكتلة التاريخية في المجتمع السوداني، تلك القوة الاقتصادية والاجتماعية الضاربة  ذات  البصيرة الثاقبة  التي أنبثقت من أعماق النمو الطبيعي للذات السودانية  التي حثها  وعيها  كتلبية لضرورات المكان والزمان  أن تصوغ مشروعا قوميا شاملا   يحتم عليها   بناء قاعدة  للنهوض وكمجري ارضي  لاقلاع خططها المستقبلية  مع  تعرف تفصيلي لاليات التنفيذ في سياق خارطة طريق واضحة المعالم"   كان من المتوقع من تلك  الكتلة  في حال وجودها بالفعل وليس بالقوة، ان ينظر الي جسارتها في استجابتها   لتحديات التنمية البشرية الشاملة،  كجزء  اصيل من تكوينها البنيوي، لترقية ذاتها بتعزيز شرائحها وفئاتها وطبقاتها الاجتماعية ذات الطابع المدني. وان يتأتى لها في سياق تلك الاستجابة  ان تستقطب كل مؤسسات المجتمع الاهلي من طرق صوفية وطوائف دينية وتجمعات اقليمية وقبلية لتسهم قدر إستطاعتها في ذلك النهوض التنموي
ولكن تلك الاجابة التي تستند الى غياب الكتلة التاريخية  اذا صحت تبعث سؤالا  ابعد غورا  واكثر تعقيدا  يمكن أن يجري على النهج الحواري الذي ساقه  المسرحي الشاعر  والمفكر الجمالي  برتولد برشت ( 1956)في2 تسلسل ودوران  الاسئلة في محاورة السيد كاف " كوينر" ولماذا  غابت عن مشهد الاجتماع السوداني  الكتلة التاريخية  التي كان عليها ان تنهض باعباء التنمبة  القومية الشاملة في السودان؟ فاذا كانت الاجابة مثلا : لم تسمح ظروف السودان  قبل احتلاله بجيوش الحكم الثنائي  في 1898 بتوفر تراكم راسمالي  كاف يتكفل بنهوض اقتصادي اجتماعي يقضي على  كل صور واشكال المجتمعات غير المستقرة والنظم السابقة لاقتصاديات  السوق فمن اين اتت اذن  تلك التي يطلق عليها الراسمالية السودانية؟3  .
-3-
* لم تكن راسمالية المؤسسة السودانية  التي برزت للوجود بعد الحرب العالمية الثانية امتدادا لتراكم راس مال تحقق  في سلطنتي سنار ودارفور  والمهدية  بل تعجنت ايضا وتخلقت  على يد وتحت الرعاية المباشرة للحكم الثنائي  ووكالاته والشركات والجاليات التي لاتخرج عن مداراته *4لذلك لم تستطع  الاستقلال بنفسها  في حزب له شخصية
*اعتبارية  5بعد خروج  مصر وبريطانيا ولم تطرح مشروعها الخاص  ولم تعرف لها رؤية خارج سلوكها التجاري في الاسواق ولم يكن خارج سياق المنطق أن تتحلق  الراسمالية السودانية دائما وابدا حول البيوتات الطائفية  الصغرى والكبري أو أن تحتمي بقامات زعماء العشائر  أوتجري  تحت ركاب الانقلابيين من كل شاكلة ولون.
-4-
* قد استصحبت البنية العشائرية والمناطقية والطائفية للاحزاب السياسية التي انجزت الاستقلال  أبوية ذات طابع ديني وقبائلي  في  التكوين الحزبي لاكبر تجمعين  سياسين هما   الاتحاديون  والاستقلاليون  حيث  تخضع فيهما السياسة للامامة  او للراعي وتنصاع القاعدة الجماهيرية العريضة لمصالح القمة في الاسر الطائفية  وكان من النتائج المباشرة لتلك البنية وذلك الخضوع غياب الممارسة الديمقراطية في تلك الاحزاب التي لم تعرف يوما تداولا سياسيا للسلطة 6  الشئ الذي  جعل التنافس والنزاع  الشخصاني  داخلها مع التشققات والانقسامات  من وقائع حياتها اليومية التي تفضي بها الي الدخول في حروب اهلية دائمة مع نفسها
-5-
* صبغ النزاع الذي ليس له نهاية بين اكبر دعامتين  (المهدويين والمراغنة ) في بيت المؤسسة السودانية  مسارها السابق للاستقلال واللاحق له  باللجاج الاسري    وبالاضطراب والتشتت والتامر واللجوء للانقلابات لاقصاء الاخر وركوب اكثر من سرجين في وقت واحد  فسقطت  كل المؤسسسة ضحية للتشققات  والانفصامات  والحروب الأهلية 7* ولم يكن عجز المؤسسة الذي انتقل الى  لب  الدولة السودانية سوي  نتيجة منطقية لتقاليد الضرب تحت الحزام  الذي تعود بعض اسبابه  للتنازع بين دولتي الحكم الثنائي الذي انتقل اليهما بالميلاد -اذ كانت بريطانيا قابلة الاستقلاليين -ومصر (الخديوية والقصر ومصر الناصرية ) قابلة الاتحاديين  الي جانب التباين  في الخلفيات وفي روافد المرجعيات ذات المنبت الشيعي  الغامض التي تتجلى حتي في توزيع الاسماء  والالقاب  بين الاسرتين (ميرعني -محمد عثمان -الحسن -الحسين -جعفر -السر -الختم -الباقر في تقابل مع  مهدي -الفاضل -الصادق -الصديق  -عبدالرحمن )* واهم من كل ذلك النزوع  الطاغي لدى  كل بيت  ان ينفرد بالدولة والثروة في السودان بتسخبر كل الاطراف الاخري والموارد  لينتهي  كل مسعاها وكسبها اليه   في نهاية  المطاف متي كان ذلك  متيسرا  للمزاعم المعلنة والاخرى الخفية لدى الطرفين  وايا كانت  مسارب وروافد  النشأة والخلف والتنازع بين اسرتي  المهدي والميرغني فقد اتفقتا الى حد التلاحم في غاية  كبرى أن يضعا  كل انصارهما واتباعهما في كل اقليم شرق السودان بمعناه الواسع  وأن أن يضعا كل انصارهما واتباعهما في كردفان الكبري ودارفور الكبرى وفي بلاد ما بين النيلين  -الابيض والازرق في خدمة  وتحت اقدام المؤسسة السودانية-مؤسسة النخبة النيلية
-6-
*صحيح أن  الغالب من المتعلمين والخريجين والمثقفين ( الافندية)  قد تخرجوا من باطن  حاضنات التحديث التي  ادخلها الحكم الثنائي  للضرورات التي ارتاها لكي يتيسر له الحكم وكانوا وفقا للمنشا والمحور الجغرافي  والمؤسسات الحاضنة  الابناء الشرعيين للمؤسسة السودانية  ومع ذلك ونتيجة  لوقائع  التحديث و بعد تطورات اقليمية  واخرى محلية   وعالمية    أشرأبت اعناق الافندية الى   مكان لهم  مستقل  عن بيوتات الطائفية والطرق الصوفية والادارة الاهلية .   غامر بيوتات الطائفية  احساس  بخطر  يتهددها  من المتعلمين الذين ازدادو  عددا ونفوذا    بعد ان وضعت الحرب شرورها  فبذلت جهدا هرقليا في احتواء الافندية في دوائرها وحلقاتها وفي صفوف احزابها التي تشكلت فنقلت بوعي ودون وعي كل توترات الافندية وطموحاتهم  ورغائيهم  الي احزابها التي جمعت في مصهرة واحدة بين الطائفة الديينة  والابوية العشائرية  والتنطيم السياسي الحديث   وظل  كل طرف يبذل كل جهده في تسخير الاخر لتنفيذ اجندته غير المعلنة ومرة اخري  تحولت  احزاب  المؤسسة السودانية الى حلبات لشطرنج سياسي من طراز عجائبي  الذي لا ينبغي ان يموت فيه الملك وان لا تنتهي فيها  في ذات الوقت اي لعبة بالتعادل وهكذا يعلن الافندية في بداية كل لعبة الاستسلام والخضوع  للطائفيين ثم يعاودون اللعب مرة اخرى  بضراوة اكثر من  وقت مضى وهكذا اضحت ممارسة الفكر السياسي  من قبل  اهل المعرفة( الافندية)  داخل احزاب الاستقلاليين والاتحاديين   ضرب من العبث المحض ومع ذلك يشق القول  ان العبث المحض الذي يقوم به المتعلمون والمثقفون داخل تلك الاحزاب لا جدوى منه لهم  لانهم يتقاضون لقاء ذلك  وجاهات اجتماعية وامتيازات شخصية  الا ان كل ذلك قد طبع حراك المؤسسة السودانية في هذا الصدد بالبؤس المقيم  وباللاجدوي  لغير منتسبيها
-7-
* لا  تعبر  فئات  المؤسسة السودانية عن التعدد الاثني والقومي والثقافي واللغوي الذي يسم البناء الاجتماعي السوداني  الذي لم تعترف به  تلك المؤسسة يوما ولكنها  شرائح وفئات  لجماعة   واحدة  ذات تحيزات  عرقية-اثنية واقليمية  وطبقية وثقافية في بوتقة منصهرة اتفق لها  ان تهيمن علي الثروة والسلطة وتطرد ما عداها اما الي الهامش أو خارج الحياة ولكنها تترك  عادة الباب مواربا لمن اراد ان يستلحق نفسه بها علي شروطها.
قد افضي هذا التحيز العرقي-الاثني الطبقي الاقليمي لنخبة وادي النيل الي توقف مجري تشكل الامة السودانية وان تتحول الدولة القومية في السودان الي مجرد خطوط عرض وطول وهمية في داخل حدود جغرافية ذات طابع هلامي ولم يك شاقا على الجبهة الاسلامية في 1989 التي انسلت من احشائها أن تقلب لها ظهر المجن لكي تمكن لمنسوبيها وحدهم بطرد كل أطراف المؤسسة السودانية  الاخرى من الخدمة المدنية ومن المؤسسة العسكرية  ومن السوق تحت حراسه امنها ودفاعها الشعبي وجيشها  ولم تكتف بكل ذلك ولكنها اعلنت  في رابعة النهار دون خشية أو خجل وصايتها المطلقة على الاسلام والعروبة والثروة والدولة في السودان  وعلى الذين يرغبون في شئ من القسمة معهم  تقديم  فروض الطاعة والولاء اولا  ثم القبول بشروط  اليد العليا  التي هي خير من السفلي ثانيا  ومن ارتأ ى غير ذلك  فان دولة الانقاذ لا تعترف به الا في ميادين القتال.
د-عبدالسلام نورالدين
abdelsalamhamad@yahoo.co.uk

 

آراء