khalidtigani@gmail.com
الجنرال "المُنقِذ" هذا هو الانطباع الذي يخرج به المرء من قراءة الترحيب الرسمي والشعبي الحار الذي حظي به الجنرال سلفا كير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان لدى زيارته للخرطوم الأسبوع الماضي، وهي الثانية له منذ نيل بلاده استقلالها في أعقاب تقسيم السودان المشهود.
والاستقبال الدافئ للرئيس سلفا في مقرن النيلين استدعى للذاكرة استشهاد السيد الصادق المهدي ببيت البحتري وهو يصالح نظام حكم الرئيس الراحل جعفر نميري أواخر سبعينيات القرن الماضي بعد سنوات من الدماء:
إذا احتَرَبتْ يَوْماً، فَفَاضَتْ دِماؤها، تَذَكّرَتِ القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُها
وفي الواقع ليست عاطفة القربى فقط هي التي حركت المشاعر ولكن ربما لغة المصالح كانت هي الأبلغ، إذ ليس سراً أن آمالاً عريضة انعقدت رسمياً وشعبياً في الشمال على عهد جديد في العلاقة بين شطري السودان تقوم على وشائج من التصالح وتبادل المصالح تطوي صفحة السيناريو الأسوأ الذي تحقق حشفاً وسوء كيلة فقدت فيه البلاد وحدتها ولم تنعم بالسلام وعادت إلى حالة حروب باردة وساخنة تكاد تفوق في تعقيداتها حرب الخمسين عاماً الأهلية.
وثمة تساؤلات كثيرة تطرح على خلفية هذا الحراك في فضاء العلاقات بين الطرفين وأجواء التفاؤل التي أطلقتها عن مدى جديته وفرصه المستقبلية وما إن كان يقوم على أسس جديدة متينة، أم مبني على شفا جرف هار لا يلبث أن يرتد بها إلى حالة العداء المستحكم، وما هي المعطيات التي تغيرت في معادلات حكام البلدين وقادت إلى ما يبدو حتى الآن مرحلة جديدة من التطبيع والتعاون الحقيقي تغادر محطة التعهدات على الاتفاقيات الموقعة على الورق إلى أرض الواقع.
إن كان ثمة معطى أساسي يكتسب صفة الجدة في هذا الخصوص فهو بلا شك تلك الروح الجديدة التي سرت في الخرطوم على المستويين الحكومي والشعبي في نظرتهما للجنرال سلفا، ومن ورائه الجنوب أرضاً وشعباً، تجاوزت تلك النظرة النظرة الاستعلائية التي لا ترى في الجنوب سوى سقط متاع، أو عبئاً يجب التخلص منه بفصله، إلى إدراك متأخر بأن المصالح الحقيقية للشعبين متشابكة إلى درجة لا يمكن الفكاك منها، وأن الانفصال السياسي لا يعني الفصام النكد بين البلدين، ولا يغني عن تواصل الارتباط المصيري بين البلدين على الصعد كافة لا سيما الاقتصاد الذي يشكل رباطاً عضوياً ليس فقط لمصلحة المواطنين لتأمين سبل كسب عيشهم على جانبي الحدود التي تضم قرابة نصف تعداد مجمل السكان في البلدين، وللمفارقة هي أيضاً المنطقة الأغني بالموارد الطبيعية، ولكن أيضاً لعافية الاقتصاد الوطني لكلا الدولتين.
عبارات واضحة الدلالة تضمنها خطاب الرئيس عمر البشير في جلسة المحادثات انحازات لصالح الإلتزام الكامل بتنفيذ كل اتفاقيات التعاون الموقعة بين البلدين، بما في ذلك ضمان استمرار تدفق النفط، وعدم ربط ذلك بشروط مسبقة في إشارة إلى مدخل جديد لمعالجة الملفات الأمنية التي شكلت هاجساً مستمراً للخرطوم، وحصر المسائل العالقة في قضيتي أبيي والحدود واتفاق الطرفين على "استمرار الحوار البناء والفاعل" لتجاوزهما "حتى نسير قدماً في إزالة كل العوائق التي تعترض طريق العلاقة"، والتعهدات المقابلة التي التزم بها الرئيس الزائر سلفا كير كانت كافية ليعتبر البشير أن الزيارة "وضعت علامة فارقة في العلاقات بين البلدين".
بيد أن رد الفعل الأهم على هبوط الجنرال سلفا في الخرطوم "مُنقذاً" أوحى به التجاوب الشعبي بأكثر مما فعلت التصريحات الرسمية المتحفظ على صدقيتها على خلفية تكرار الاتفاقات المجهضة جراء التمادي في نقض العهود والمواثيق، فالرأي العام بدا متطلعاً بشغف غير مسبوق لنتائج زيارة سلفا معوِّلاً عليها أن تسهم في انفراج كُرْبَتِهِ المعيشيَّة بتحريك عجلة الاقتصاد المعطلة التي لا تزال تهوي إلى أسفل بعد تطاوُلِ أمدِ صدمةِ التَّقسيم التي ذهبت بزهرة العائدات النفطية التي كانت توفر ريعاً سهلاً اتخم خزينة الحكومة سنينَ عدداً لم تذر منها شيئاً تحسباً للسنوات العجاف. وسارعت أسواق العملة تتجاوبُ مستبشرةً بمقدَمِ "صاحب قدم السعد" المنتظر على الاقتصاد السوداني المنهك ليشهد الجنيه السوداني شيئاً من التَّعافي أمام العملات الأجنبية وإن كان محدوداً إلا أن سرعة التجاوب تشير إلى تحرُّكِ قرون استشعار متنبئة الأسواق بحادث سعيد يطل على الأبواب، وراجت لغة جديدة في الشارع السوداني تبدي إعجاباً لم يعد خفياً بـ"رجل الدولة" رئيس الدولة الوليدة الذي يتصرف كما ينبغي لمسؤول عن مصير بلد وأمة، وبلغ فرط الإعجاب به أن طقساً مراسمياً معهوداً أدَّاهُ الجنرالُ سلفا بانْحِنَاءَةٍ تحيةً واجبةً للعلَم السوداني إبَّان استقباله جعل العديد من الصحف والمعلقين والمحللين يذهبون في تفسيره خارج إطار سياقه المراسمي واعتبروه علامة احترامٍ خاصٍّ يحمله الرئيسُ الزائرُ للبلد صاحبة العلم الذي عمل تحت إمرته سنيناً عدداً.
وتناقلت وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي الحدث بكثافة وانتشرت صورته انتشار النار في الهشيم تصاحبها تعليقات موجبة وموحية بمدى انجذابٍ عاطفيٍّ مشبوب يدلل على تحوُّل كبير في المزاج العام الذي بات يبحث عن أية ذريعة لتأكيد خصوصية العلاقة والصلة بين الشمال والجنوب حتى بعد أن صارا في بلدين مستقلين. وقد مرَّ زمنٌ قبل ذلك بلغ الزُّهد في علاقة سوية مع الجنوب أن راجت دعوات انفصاليين شماليين تجاوزت الخصام السياسي إلى قطيعة إنسانية شاملة والتي سرعان ما تبيَّن خطَلُها وقصر نظرها وفداحة عواقبها وخسرانها المبين.
وعلى الرغم من الطابع العاطفي الذي اتسمت به ردود الفعل المرحبة بزيارة سلفا هذه المرة للخرطوم، إلا أن الآمال المنعقدة عليها في فتح صفحة جديدة لا تأتي من فراغ بل تدفعها مبررات موضوعية تماماً بعد تجربة مريرة عاشها السودانيون، لا سيما في الشمال، على مدار العامين الماضيين ولا تزال مرشحة للاستمرار لوقت قادم غير معلوم وقد تعين على السودانيين جميعاً أن يدفعوا ثمناً اقتصادياً باهظاً بأسرع مما كانوا يتوقعون لغفلتهم عن تبعات وتداعيات تقسيم البلاد التي كان الكثيرون، بمن فيهم مسؤولون كبار في الحكم، يحسبونها مجرد نزهة لا تعدو أن تكون بمثابة حدث عابر للتخلُّص من بعض "الأوشاب" في تصريح منكر لشخص يحمل للأسف صفة مسؤول.
وصحيح أن إبداء حسن النية وحده لا يكفي لضمان تأسيس علاقة مستقبلية سوية تتجاوز مرارات الأمس القريب، وتعقيدات القضايا التي لا تزال عالقة، لا سيما مسألة أبيي المرشحة لأن تضع على المحك في غضون أسابيع قليلة جدية التوجه الجديد في العلاقات بين الخرطوم وجوبا عندما يحين الشهر المقبل الموعد المضروب في خريطة الطريق الإفريقية للاستفتاء على مصير المنطقة وهو ما تصر حكومة الجنوب على المضي فيه قدماً وتعارضه الخرطوم، وتهدد قبيلة المسيرية بنسفه، ستكون مسألة أبيي الاختبار الحقيقي لتماسك وجديَّة النتائج المعلنة لمحادثات الرئيس سلفا في الخرطوم.
فالتعاطي بحكمة مع هذا الملف المعقَّد والشائك من شأنه أن يعزِّز الثقة في إمكانية العبور إلى مرحلة جديدة فعلاً، وهي مسألة لا تتحقق فقط بالتمنيات ولكن بتحوُّل استراتيجي في الرؤية لا يجعل سبيلاً للخلافات العابرة مهما كانت حدتها أن تقطع الطريق على جهود التواصل والترابط وتبادل المنافع والمصالح كافة، وهو ما لا يتحقق إلا بسياسات وخطط تضمن استدامة التعاون وتعزيزه وتصونه من الصدمات المفاجئة. وما لا شك فيه أن هناك ثمة أطراف على الجانبين لديها مصالح في استمرار التنازع لأن ذلك يحقق لها منافع هي أدرى بها، ولذلك ستقاوم نهج التطبيع وتعزيز التعاون، وقد وسع "كين" القول المأثور ل"كلاوزفيتز" في تعريفه للحرب بأنها استمرار للسياسة بوسائل أخرى، واصفاً ديناميات العديد من النزاعات بأنها "استمرار الاقتصاد بوسائل أخرى"، معتبراً أن الحروب تُخاض لما هو أكثر من مجرد الفوز بها، ذلك أن المستفيدين من العنف لديهم مصلحة اقتصادية في استمرار النزاع. وهي مسألة يجب الوقوف عندها عند البحث عمن يقومون بنسف محاولات التقارب المتعددة.
وخطوة الجنرال سلفا بزيارته المؤثرة إلى الخرطوم ترمي بـ"طوق نجاة" للعلاقات المتوترة بغير مبررات موضوعية، والتي تجري وقائعها عكس تيار المصالح المحققة للطرفين، صحيح أن للجنرال سلفا حساباته من هذا التقارب لتعزيز أجندته وهو يسعى للانفراد بالمجد في دولة الجنوب وتلك قصة أخرى, ولكن مع ذلك هي فرصة سانحة للخرطوم لتراجع حساباتها في التعاطي مع الجنوب بما يليق بدولة يفترض أنها أكثر عراقة من الدولة الوليدة وأكثر إدراكاً للمصالح التي تجنيها من فتح أبواب التعاون على الصعد كافة على مصاريعها، لا سيما وأنها لا تكاد تجد منفذاً للخروج من مآزقها الاقتصادية إلا بدفع مواطنيها إلى أضيق الطريق وهي مقبلة على إجراءات قاسية تجعلهم يدفعون ثمن سوء تقديراتها وإداراتها السياسية والاقتصادية لشأن البلاد.
لقد مضت السلطة إلى نهاية الطريق حين وافقت على أقصى وأقسى ما يمكن تقديمه تقسيم البلاد، فلا يعقل ألا تجد مجالاً لتعويض ذلك بما هو أقل كلفة وأكثر مجلبة للمنافع، فإن عزت الوحدة السياسية، فلا سبب يمنع العمل من أجل اتحاد اقتصادي يتجاوز آثار انفراط الوطن الواحد بمصالحه المتشابكه والمتداخلة في عصرٍ تُغيَّر فيه حدود الدول لصنع كيانات أكبر مدفوعة بالحاجة لرعاية المصالح الاقتصادية في عالم يشتد فيه أوار التنافس، واتساع نطاق المصالح هو الضمانة الحقيقية للاستقرار والأمن واستدامة التعاون.
من صحيفة إيلاف السودانية
/////////