خطبة الامام الصادق المهدي في عيد الأضحى المبارك
الإمام الصادق المهدي
18 October, 2013
18 October, 2013
بسم الله الرحمن الرحيم
الله أكبر ولله الحمد
خطبة عيد الأضحى المبارك
10 ذو الحجة 1434هـ الموافق الثلاثاء 15 أكتوبر 2013م
الخطبة الأولى
اللهُ أكبر.. اللهُ أكبر.. اللهُ أكبر
الحمدُ للهِ الوالِي الكريمِ والصلاةُ علىَ الحبيبِ محمدٍ وآلهِ وصحبِهِ مَعَ التسْلِيْمِ، وبَعْدُ-
أحْبَابـِي فِي اللهِ وإخوانِي فِي الوَطَنِ العزيزِ
كلُّ شيءٍ فِيْ الوُجُودِ ذُوْ مَعْنَىً (أفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) . وَكُلُّ تَعَالِيْمِ الِإسْلَامِ لَهَا مَعَانِيْهَا كَمَا قَالَ الإمَامُ الشَاطِبِيُّ: "كُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ الشَرْعُ صَدَّقَهُ العَقْلُ" وهِيَ تَعَاليْمُ هَدَفُهَا سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ للنَّاسِ أَجْمَعِيْن.
وَمَهْمَا اخْتَلَفَ النَاسُ حَوْلَ المِلَلِ، فَمِلَّةُ الإسْلَامِ أَكْثَرُهَا عَقْلَانِيَّةً، وَأَوْضَحُهَا دَعْوَةً لِلتَوْحِيْدِ للهِ والعَدْلِ والرَّحْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ. ولِشَعَائِرِ الإسلامِ مقاصِدُها الواضحةُ الخيرةُ. فالحجُّ يُعَظِّمُ التوحيدُ للهِ ويُرَسِّخُ وُحْدةَ الأمَّةِ ويُحْيِىِ ذِكْرى قصة إبراهيم عليه السلام وزوجه هاجر وابنه إسماعيل. وهي قصةٌ قدوةٌ.
والأضحية قربان لله مرتبط بمعاني التقوى لله والبر بالناس: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) .
وصلاةُ العيدِ مظاهرةٌ إيمانيةٌ لإظهارِ قوةِ وفتوةِ أهلِ الإيمانِ، وهيَ والأضحيةُ سنةٌ مؤكدةٌ. وقتُ أداءِ الأضحية بعد صلاة العيد وتجوز في أيام التشريق الأربعة. ومن السنة أن تكون خالية من العيوب، وأن يأكل صاحبها وأسرته ثلثها، وأن يهدي لأهل مودته ثلثها، وأن يتصدق بثلثها وجلدها للفقراء والمساكين. وهي سنة حسنة لمن استطاع إليها سبيلا. والاستطاعة أن يملك صاحبها ما يزيد عن نفقات ضروراته وفي حالة عدم الاستطاعة الواجب تركها فقد ضحى نبينا عن أمته.
قلتُ في نداء لأهل الإيمان إن علماء هيئة شئون الأنصار أوضحوا أن ذبح الأضحية سنة مؤكدة، ولكنها مشروطة بالاستطاعة، وتسقط عن من لا يستطيع نفياً للحرج. وتأسيساً على بيانهم قلت إن عامنا هذا أشبه بعام الرمادة من حيث الغلاء وانفلات الأسعار. والأجدر بنا جميعاً أن يقرر كل عمّار مسجد ذبح أضحية جماعية إحياءً للسنة، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ضحى جماعياً عن الأمة وقلت: من يكلف نفسه فوق طاقتها لشراء الأضحية، ومن يباهي بالأضحية لإحراج العاجزين كلاهما يأثم فشعائر الدين ليست شكليات بل مقاصد. ونفي الحرج من مقاصد الشريعة: (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .
أحْبَابـِي فِي اللهِ وإخوانِي فِي الوَطَنِ العزيزِ
أمتنا اليوم من أدناها إلى أقصاها في محنة مركبة تدور أهم جوانبها حول دور الدين في الحياة العامة بين قائلين إن الإسلام دين ودولة، ويحتجون بتجارب ماضوية، وآخرين يقولون بفصل الدين عن الدولة، ويستشهدون بتجارب معاصرة.
دعاة التجربة الماضوية في الغالب يقعون في عصبيات الانكفاء السبع وهي:
1. أنهم الفئة الناجية وغيرهم هالك.
2. ويحصرون الولاء في أنفسهم والبراء من غيرهم.
3. ويقولون بجهاد طلب علته الاختلاف في العقيدة.
4. وكثيرون يكفرون آليات التدافع السياسي الحديثة كالديمقراطية.
5. ويعلنون أهدافاً خارج حدود الممكن ، مثلاً أن يكون لكل المسلمين خليفة واحد.
6. مع إقصاء الآخر الملي وتكفيره كذلك يقصون الآخر المذهبي ويجرمونه.
7. لا يرون في التعامل مع الدول غير الإسلامية إلا حتمية الحرب.
هذه تعاليم مدرسة الإفراط، وهي تجعلها عموماً تتحرك خارج عقل الأمة.
الآخرون الذين يستدعون التجربة الغربية في التعامل مع الدين وهم في الغالب يقعون في عصبيات الاستلاب السبع وهي:
1. رفض أية قيمة لما ليس من عالم الشهادة وبالتالي إنكار الغيب وإنكار أية قيم غير نفعية للأخلاق.
2. يسقطون تجربة الكنيسة والرافضين لسلطانها في الغرب على تجاربنا باعتبارها تجربة إنسانية رائدة دون مراعاة للفوارق.
3. يتحركون خارج وجدان الأمة.
4. يعتادون القفز فوق المراحل الاجتماعية فإن وجدوا مقاومة استخدموا ضدها القوة.
5. يتبعون نهج ولاء وبراء وضعي إذ يعتبرون الولاء للمشروع الحداثي أساس الأهلية للعمل السياسي.
6. تحركهم خارج وجدان الأمة يظهر موقفهم كأنه بالوكالة عن أجندة أجنبية.
7. إنكارهم الشديد لدور الدين في الحياة العامة يصنع ردة فعل مضادة تدفع في اتجاه الغلو الديني. الغلو العلماني ينبت الغلو الديني.
هذه تعاليم مدرسة التفريط.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الشيطان للإنسان بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر: الغلو، والترك. وقال ابن قيم الجوزية: (ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو) . المدرسة التي فيها نجاة الأمة هي المدرسة التي تستنبط الواجب اجتهاداً وتدرك الواقع إحاطة وتزاوج بينهما.
أوسط الأمور أفضلها. (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) كما جاء في التنزيل أي أفضلهم وأقربهم إلى الخير. وهو الوصف الصحيح لنهج الأمة كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) . وهو النهج الذي حثت عليه السنة إذ قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الأمُورً أًوْسَطهَا" .
أقول لا سبيل لبرنامج واحد يطبق على كل أوطان الأمة لاختلاف ظروف الواقع فيها ولكن الواجب الاتفاق على منهاج واحد بيانه الوصايا العشر:
أولا: التوجه الإسلامي مهمته إحيائية متحركة لا عودة لمحطة ماضوية إنما مهمة توجب بيان الواجب اجتهاداً والإحاطة بالواقع ثم التزاوج بينهما. هذا هو معنى التجديد.
ثانياً: المطلوب استنباط مقاصد نصوص الوحي لا مجرد التمسك بظاهرها كما قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) .
ثالثا: تجارب الإنسانية مهمة اتعاظاً وتجنباً للضار واستصحابا للنافع. هذا هو مقتضى الحكمة وهي ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها.
الأولون منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه درجوا على استصحاب النافع من تجارب الإنسانية. والوحي حث على الاتعاظ بها: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) .
رابعاً: في عصرنا هذا حفلت التجارب الإنسانية بوسائل مجدية في ممارسة الشورى، وفي كسب المعايش، وفي وسائل حفظ الأمن، وفي تطوير العلوم التطبيقية والتكنولوجيا واستصحابها لا غنى عنه لما تحقق من منافع في مجالاتها المختلفة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
خامساً: مبدأ تطبيق الشريعة يستوجب ثلاث مهام:
- مهمة اجتهادية فالمذاهب الموروثة استنباطات تاريخية جيدة في ظروفها ولكنها غير ملمة بظروفنا. التوحيد والنبوة والأركان الخمسة ثوابت ولكن المعاملات متحركة فلكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال.
- ومهمة التدرج في التطبيق كما هو نهج الكتاب والسنة.
- ومهمة تحديد الأولويات المختارة وإلا جاء المطلب بنتائج عكسية.
سادساً: الولاء للوطن واجب تشير إليه الآية: (لَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ) . ويدل عليه حنين محمد صلى الله عليه وسلم لوطنه مكة. كذلك الولاء القومي. قال تعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) . وعن طريق التعاهد يقوم ولاء للقارة- أفريقيا مثلا هذه الولاءات توجب نفي العصبية وأن ترسم العهود معالمها لتتكامل ولا تتناقض مع الولاء للأمة.
سابعاً: الولاء للأمة لا يتناقض مع الإخاء الإنساني، فرسالة الإسلام للناس كافة، وما داموا على غير ملتنا فيجمعنا بهم الإخاء الإنساني والتعامل بالحسنى، قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) .
ثامناً: على أهل القبلة مراعاة حقوق الآخرين أصحاب العقائد الأخرى والإثنيات والثقافات الأخرى فالتنوع من حقائق الكون: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) . وقال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً)
تاسعاً: الدعوة لله ولكافة مقاصد البر والإصلاح ينبغي أن تكون بموجب: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) . والجهاد كذلك بالقوة الناعمة وهو واجب مستمر ولا يجوز أن يصير قتالاً إلا رداً لعدوان، أو دفعا لحرمان من حرية العقيدة. القتال في الإسلام دفاعي: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) . علة القتال في الإسلام العدوان لا اختلاف الاعتقاد.
عاشراً: مقاصد حركة الشعوب نحو الكرامة، والحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام، والمعيشة الكريمة واحدة في كل العالم وهي قيم مشتركة بين الناس و تدفع نحو حركة مشروعة لعالم أعدل وأفضل. إنه هدف يتماشى مع مقاصد الإسلام وفي ظله تتوافر أفضل الظروف لانتشار الإسلام بالقوة الناعمة. الإسلام في عالم اليوم القوة الثقافية الأكبر وانتشاره الأوسع.
هذا هو المفهوم الأوسع لعهد الولاء والبراء.
أحْبَابـِي فِي اللهِ وإخوانِي فِي الوَطَنِ العزيزِ
هذا هو النداء الصالح لاحتواء الاستقطاب الحاد الذي يوشك أن يزيد أوطاننا تمزيقاً وبسبب تأثير اضطراباتها على الأمن والسلام الدوليين يوشك أن يجعل أوطاننا ساحات مستباحة لمشروعات التدخل الأجنبي الذي جعل أوطاننا الأكثر قابلية للاحتلال الإمبريالي. قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) . وقال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: "يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ" .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية
اللهُ أكبرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ..
الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ وعلى آلهِ وصحبهِ ومن والاه، أما بعد-
أحْبَابـِي فِي اللهِ وإخوانِي فِي الوَطَنِ العزيزِ.
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )، وقال: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) . حقائق صاغها ابن خلدون في مقدمته: كل ظاهرة في الوجود سواء كانت طبيعية أو اجتماعية خاضعة لقوانين.
فيما يلي تشخيص علمي للحالة السودانية وقراءة موضوعية لمآلاتها:
في عالم اليوم لا يستقر نظام ما لم تتوافر له أربعة شروط هي أن تقبل كتلة حرجة من المواطنين شرعيته، وأن يكفل الأمن، وأن يكفل وسائل المعيشة للسكان، وأن يحظى بقبول دولي.
نظام السودان رفع شعاراً إسلامياً أفرغه من محتواه ما كون ضده معارضة إسلامية واسعة، نحن منذ البداية كشفنا عيوب برنامجه الإسلامي ثم لحق آخرون من زوايا مختلفة. أما القوى السياسية غير ذات المرجعية الإسلامية فتعارضه منذ البداية. وتحت عنوان الجهاد عمق الحرب الأهلية في البلاد وحقق للطرف الذي يقاتله تعاطفاً داخلياً ودولياً واسعاً قال لي د. جون قرنق: (يستحق قادة انقلاب "الإنقاذ" أن نقيم لهم تماثيل في جوبا!) ما انتهى إلى إجماع أهل الجنوب عبر استفتاء على الانفصال، وأخفق في تنفيذ بروتوكولي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، فانفجرت فيهما حرب أهلية.
الشباب بعضهم منظم في أحزاب، ولكن الأغلبية ليست كذلك، هذا القطاع هو الأكثر تأثراً في السودان، وغضباً من النظام لأن أغلبيتهم عطالى وغاضبون عبروا عن موقفهم هذا بالانخراط في الفصائل المسلحة الكثيرة، وبالتطلع للهجرة خارج السودان، وبالانتماء لتيار احتجاج اجتماعي كالحواتة، وبالانتماء لأنشطة جهادوية أو بعنف اجتماعي وفردي غير معهود في السودان أو بممارسات تهدم العفة أو تهدم الوعي كالمخدرات.
واستعدى النظام قطاعات واسعة من السكان لممارسة كثيرين من قادته فساداً مجاهراً لا يغيب عن السمع والبصر. هؤلاء جميعاً يشكلون كتلة حرجة واسعة ترفض النظام وتجرده من أية شرعية.
أخفق النظام في كفالة المعيشة للسكان. نحو 20% منهم هاجروا من البلاد، ونحو 20% يعيشون على حساب المعونات الإنسانية الأجنبية، والبقية يعانون من العطالة ومن ارتفاع جنوني في الأسعار، وحتى المستخدمون من موظفين وعمال يجدون مرتباتهم دون تغطية احتياجاتهم.
صحيح هنالك طبقة رأسمالية ولكنها تعاني كثيراً من الضرائب ومن تنافس شركات تابعة لأجهزة حكومية. وكل شعارات النظام الاقتصادية أخفقت، كان حجم استيراد المواد الغذائية عندما أطلق شعار "نأكل مما نزرع" 72 مليون دولار اليوم هو بليوني دولار، وحال شعار نلبس مما نصنع مماثل. النظام لا يكفل معيشة أهل السودان. وصار الناس إذ يذكرون تلك الشعارات يقولون نضحك مما نسمع!
حالة الأمن في البلاد مزرية تواجه ست جبهات اقتتال أهلي، وفي بعض المناطق الأمن خارج المدن مفقود، ويعاني السكان في بعض المدن مظاهر جديدة على البلاد كالاغتيالات الفردية واختطاف الأفراد، وبالقياس لحالة الأمن المعهودة في السودان فإن البلاد تعاني اضطراباً أمنياً، ودرجة عالية من النزوح الداخلي، واللجوء الخارجي.
النظام لا يحظى بقبول دولي، وقيادته تواجه اتهامات جنائية دولية، والبلاد تشهد (47) قراراً ضدها من مجلس الأمن تحت الفصل السابع وتستضيف حوالي 30 ألف جندي أجنبي للقيام بمهام أمنية في السودان.
إخفاق النظام في إدارة مالية البلاد سببه الصرف السياسي والأمني والإداري المبالغ فيه، ولكنه مطلوب لتمويل استمرار النظام، ولا يستطيع النظام القيام بخفض النفقات المطلوبة ما يدفعه لتحميل الشعب أعباء تمويله.
رفع الدعم عن المحروقات لم يكن الأول ولن يكون الأخير. كذلك الاحتجاجات التي واجهها النظام بعنف غير مسبوق ضد مدنيين عزل لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة وإن كانت أكبر من سابقاتها.
فما هو المصير؟
في المراحل الماضية حدث نوع من التحالف المريض بين النظام ورافضيه، هم يعيشون على رفض عيوبه وهو يعيش على عدم جدوى مشروعاتهم:
• المقاومة المسلحة ناجحة في استنزاف النظام، ولكن تكوينها وأسلوبها وتحالفاتها لا تجعلها بديلاً قومياً مقبولاً.
• الاحتجاج الشبابي واسع ومؤثر ولكنه يحتاج لعمل مكمل لكي ينجح ولبرنامج يحدد معالم النظام الجديد.
• المعارضة السياسية المدنية منعتها تناقضاتها الداخلية من اتخاذ برنامج بديل ذي جدوى وهيكل قيادي ذي فاعلية.
حالة تعايش توازن عدم الجدوى هذه بين النظام ورافضيه توشك الآن أن تزول:
• لأول مرة في تاريخ النظام تجهر قطاعات مهمة من أنصاره بالمعارضة بل كذلك قطاعات مهمة من مؤسسات الدولة.
• أدركت القوى الثورية المسلحة أن الأجدى لتحقيق أهدافها تأييد الخيار السياسي القومي لبناء المستقبل.
• الدرس المستفاد للاحتجاج الشبابي على ضوء أحداث دول "الربيع العربي" بل وأحداث السودان نفسها أن إسقاط النظام وسيلة من وسائل إقامة النظام الجديد.
• أدركت القوى الأكثر شعبية في المعارضة السياسية المدنية أن حزمة تناقضات، حتى إذا جمعها رفض النظام، لا تجدي.
• ولأول مرة جهرت القوى الدولية الأكثر متابعة للشأن السوداني أن الحلول الثنائية بين الحكومة والفصائل المسلحة لا تجدي، ما جعلها تعلن مباركة حل شامل لقضايا السلام والسلطة في السودان بوسائل سياسية لا مساجلات قتالية.
هذه التطورات ولأول مرة سوف تؤدي لموقف جامع يوحد القوى المتطلعة لنظام جديد على ميثاق يحدد خطوات المستقبل ووسائل تحقيقها سلمياً بوسائل حركية قد تبلغ الإضراب العام أو العصيان المدني الذي يجد تجاوباً من مؤسسات مفتاحية في الدولة، أو قد يقنع النظام بضرورة إجراء استباقي كما فعل قادة جنوب أفريقيا لكوديسا سودانية، لا سيما في المعارضة رجال ونساء دولة تهمهم سلامة الوطن لا الانتقام.
هذا النظام الحاكم في السودان يقف في طريق مسدود. من داخله ومن خارجه كثرت عليه السهام، وسوف يصيبه واحد منها. أحد هذه السهام وآمنها خطتنا المشدودة لإحدى الحسنيين: انتفاضة قومية أو خريطة الطريق عبر المائدة المستديرة للنظام الجديد: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) .
ولـرُبَّ أمـرٍ مُـتعِـبٍ لك في عواقبـه رضـا
ابْشِرْ بِعَاجِلِ فـُرْجَةٍ تَنْسَى بِهِا مَا قَدْ مَضَى
ختاماً: لا يفوتني ان أشكر عبركم هيئة قوسي الدولية للسلام على منحي جائزة قوسي للسلام للعام 2013م.
وأهم من الجائزة ما عددوه من أسباب لمنحي الجائزة تقديراً لعملي من أجل الديمقراطية، والسلام، والإحياء الإسلامي، والسعي لعالم أعدل وأفضل ما جعلني في نظرهم قدوة ليس فقط للسودان، وإنما عبر العالم العربي، وأفريقيا، وأروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، وآسيا، والمجتمع الدولي.
جائزة قوسي هي المقابل الآسيوي لجائزة نوبل الأوربية، وللمقارنة منحت جائزة نوبل لسلام هذا العام للفريق الدولي الخاص بأسلحة سوريا الكيميائية، هذا تهافت غير حميد، فالفريق لم يحقق شيئاً بعد، وأهم من ذلك اختصرت مسألة السلام في سوريا في الملف الكيميائي بينما 99% ممن قتلوا في سوريا قتلوا بأسلحة أخرى كأن دماء السوريين مستباحة للقتل بغير السلاح الكيميائي. وجائزة نوبل مكبلة بالأحادية الثقافية الأوربية وكل رموزها من أساطير اليونان القديم فتفتقر لإصلاح يجعلها دولية الثقافة والرموز.
وللعلم سوف ألبي دعوة جائزة قوسي الشهر القادم إن شاء الله وسوف ألقي محاضرة حول النظام العالمي المنشود لعالم أعدل وأفضل أمام منبر دولي يحضره ملايين البشر من كل أنحاء العالم. وقد تكرم بعض الأحباب والأصدقاء مشكورين بمرافقتي في هذه الرحلة. آسيا الآن هي القارة الصاعدة في الميزان الدولي.
يحق لنا أهل السودان شكر هيئة قوسي على هذا التكريم في وقت فيه أنباء السودان في الإعلام ما برحت تحوم حول الاستبداد، والفساد، والاقتتال، وأعداد النازحين واللاجئين.. كابوس من الحيثيات لو رأيناه في المنام فزعنا، لعل الجائزة لمواطن سوداني تضئ شمعة في هذا الظلام الدامس. ولعل العالم ينتبه أن السودان مهما قعد به الحاضر فمستقبله واعد، فالحقيقة أن في السودان خيراً معنوياً ومادياً كثيراً ولله الحمد.
إن انفجار الاقتتال القبلي في بلادنا أمر محزن ومؤسف خاصة في دارفور وأنا بحق الدين والوطن أناشدهم جميعاً نبذ العنف والصلح وسوف نرسل لهم جميعاً بعد العيد وفداً كبيراً للمساهمة في المصالحة والتراضي.
أحْبَابـِي فِي اللهِ وإخوانِي فِي الوَطَنِ العزيزِ
أزف لكم التهاني بالعيد، مع أطيب التمنيات للحجاج أعادهم الله لأوطانهم سالمين، وليصفح عني من أذيته فأنا عافٍ عن من أذاني. وأترحم على أرواح الشهداء الذين قتلوا في شهر حرام، وأكرر المطالبة بالمساءلة والقصاص عبر لجنة ذات مصداقية من غير الأجهزة المعنية والحزب الحاكم، أو إننا سوف نتوجه للأمم المتحدة ولن نترك دماء الشهداء تذهب هدراً. كما أكرر المطالبة بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين.
اللهم ارحمنا وارحم آباءنا وأمهاتنا، واهدنا واهد أبناءنا وبناتنا، وخذ بيد السودان فقد أثخنته الجراح، اللهم عجّل لأهله المكلومين بالخلاص، اكلأ جوعتهم، وطمئن لوعتهم، وقش دمعتهم، إنك سميع مجيب الدعاء. (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) .
الهوامش