هدير السودان والصواعق السياسية: السيد محمد عثمان الميرغني (3)

 


 

 




أورد احد الكتاب المعارضين المعاصرين: ان هناك نمط من النظم السياسية والحزبية يرفض ان يكون على خطأ ، حتى عندما يمارس شخصيا النقد الذاتي ، وكي يكون على حق ، تراه يتبنى قوسا واسعا ومتناقضا من الاراء والمواقف ، لاعتقاده ان هذا سيمكنه من احتواء اي رأي أو موقف يظهر أو قد يظهر لدى رعاياه ، وسيقصى امكانية أن يكون على خطأ ، وسيجعل الحقيقة ملك يديه ، لأنها لن تتمكن من الوجود خارج دائرة أرائه ومواقفه وافكاره . انها حبيسة ما يعتقد ، فمن الضروري فرضه على مجتمعه باعتباره امكانية وجودها الوحيدة ، والصواب الوحيد الممكن ، الذي تضع الرعية نفسها بمخالفته خارج الحقيقة وضدها ، و تلتحق بالضالين ، فلا مفر من ردها الى جادة الصواب ،بالطرائق والوسائل المتاحة ، بما فيها التخويف والقمع.
هذه المقدمة تتطابق جليا مع واقع الاحزاب السودانية الموجودة بوفرة تجارية على الساحة. فالرئيس أو الامين العام هو صاحب القرار الأوحد ، وبصفة خاصة زعماء الاحزاب الطائفية (الصادق المهدي ، ومحمد عثمان الميرغني) ، حيث يظن نفسه معصوما من الخطأ ، يعاديك ان اختلفت معه ، يوهم ان ما يقوله هو عين الصواب ، وان الحقيقة لا يمكن ان تتجلى إلا من خلاله وعبر ما يراه . انهم يدعون احتكار الحقيقة ويضعون عصمتهم فوق أي حق ، ولا يبقى في حياتهم أو قيمهم أية فسحة للآخرين ولما يراه .  محمد عثمان الميرغني ، زعيم وسيد الحزب الاتحادي الديمقراطي ، ومرشد طائفة الختمية ، خير مثال لهذا النوع من الزعامات ، حيث لا احد غيرة يصنع القرار ، بل حول الحزب إلى الملكية الخاصة لآسرة السيد علي الميرغني فقط دون آل الميرغني . يهرب فجأة عند نشوب أزمات الوطن الحادة إلى خارج البلاد متزرعا بالمرض ، وهو الشريك الرئيسي في حكومة المؤتمر الوطني ، ويتخذ القرارات ضمن املاءات المحافظة على المصالح الشخصية الضيقة ، ويبرر ذلك استمرار بان (استمرا شراكة الحكم مع المؤتمر الوطني امرا يمليه الاعتبارات الوطنية ، لان السودان يواجه مخاطر وتهديدات تحتم التصدي لها) ، ولكي ينقض بفوقية من البعد كل ما يتخذه قيادة حزبه في الداخل لحماية مصالح البلاد .
نشأ هذا الحزب العريق تحت اسم حزب الاشقاء عام 1943 ، منبثقا من منبر مؤتمر الخريجين ، ليصبح عام 1952 الحزب الوطني الاتحادي برئاسة الزعيم الراحل اسماعيل الازهري , واستند الحزب على قاعدة عريضة من الطبقة الوسطى وسكان المدن والنقابات ، اضافة لجماهير طائفة الختمية تحت رعاية زعيمها الراحل السيد علي الميرغني (والد محمد عثمان)، وحصل على الاغلبية المطلقة في حكومة تقرير مصير السودان من الحكم الاجنبي سنة 1953 . لكن الطائفية الحزبية قصمت ظهر هذا الحزب ، بتنامي الخلاف بين الازهري والشريف حسين الهندي والطبقة المثقفة من طرف والسيد علي الميرغني من جهة اخرى . ويعود الامر الى تنافر وعدم ثقة مولانا من الطليعة المثقفة ، لرغبته الجامحة للسيطرة والتسلط على المفاصل الكاملة للحزب( كما كان الحال في حزب الامة تحت رعاية السيد عبدالرحمن المهدي) ، ويكون هو الامر والناهي ولا احدا غيره . ادت هذه النزعة لانشقاق وتكوين حزب جديد من رحم الحزب الوطني الاتحادي ، يخضع للسيد الميرغني تحي اسم حزب الشعب الديمقراطي ، وتشكيل حكومة تحالف طائفي مشترك مع حزب الامة باسقاط حكومة اسماعيل الازهري في 4 يوليو 1956 ، وشكل عبدالله خليل حكومة السيدين في 6 يوليو 1956.
في نوفمبر 1958 تفاقمت الخلافات داخل إتلاف السيدين ، وخاصة حول قبول المعونة الامريكية ، ليسلم رئيس الوزراء الاميرلاي عبدالله خليل (حزب الامة) السلطة لجنرالات القوات المسلحة برئاسة الفريق ابراهيم عبود . ولكن شكلت جماهير طائفة الختمية القاعدة العريضة للنظام العسكري الجديد بمباركة السيد علي الميرغني للانقلاب والسير من خلفه حتى اسقاط الديكتاتورية في أول انتفاضة شعبية في تاريخ دول العالم الثالث حديثة الاستقلال في 21 اكتوبر 1964 . 
ورث محمد عثمان الميرغني عن والده رعاية طائفة الختمية عام 1968 ، وسار على نهجه في المحاباة والتأييد الكامل للعسكر .  الجدير ذكره ان توحيدا تم بين الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي عام 1967 ليعرف الاندماج باسم حزب الاتحاد الديمقراطي ، وشارك في آخر وزارة للديمقراطية الثانية .  وعند انقلاب العقيد جعفر النميري على الشرعية الديمقراطية في 25 مايو 1969 ، سارع محمد عثمان الميرغني بالتخلي عن قيادات الحزب الوطني الاتحادي (يموت رئيس مجلس السيادة اسماعيل الازهري في سجن النميري صبيحة السادس من اغسطس 1969 ، والشريف حسين الهندي يكافح في الخارج ضد الديكتاتورية العسكرية حتى موته عام 1982) ، ولم يكتفي مولانا بتأييد الانقلاب ، بل شارك بوزراء في الحكم ، اضافة لتعيين شقيقه المرحوم احمد المهدي عضوا في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي .
قبر محمد عثمان الميرغني مبدأ التنظيم والوفاق والرأي الآخر داخل الحزب ، ليصبح القاضي المفوض ، حيث سنحت له الفرصة لتكون الساحة الداخلية مرتع قراراته بوجود الشريف حسين الهندي في الخارج يناضل من اجل اسقاط الديكتاتورية الشمولية العسكرية . وسلك مولانا اسلوبا خطيرا في تدمير الحزب باتخاذ مبدأ تعميق الانقسامات والمراوغة والولاء الشخصي ، بل زاد الوضع تعقيدا العداء الخفي مع الشريف زين العابدين الهندي الامين العام للحزب ، لينعكس ذلك بجلاء في انتفاضة ابريل / مايو 1985 التي اطاحت بنظام المشير جعفر النميري ، حيث حل الحزب في المرتبة الثالثة في الانتخابات التي جرت عام 1986 في البلاد ، علما بانه كان صاحب الأغلبية المطلقة عند بزوغ فجر استقلال السودان .
ادت تصرفات محمد عثمان الميرغني باستقالة المرحوم محمد الحسن عبدالله يسن من عضوية مجلس السيادة (كان ممثلا للاتحاد الديمقراطي في المجلس) في عام 1987 ، لأنه كان يؤمن بالتعددية الحزبية ولم يرضى باللاصقين والتابعين حول مولانا (الكل يبحث عن المنصب من كتف السيد وبدونه لا منصب)  ، بل أزعجه اكثر اتخاذ قرارات الحزب بانفراد من السيد وفرضه على القيادة . الحق يقال ان المرحوم كان ضد المتعاونين مع الانظمة الشمولية العسكرية في شخصي محمد عثمان والمرحوم زين العابدين الهندي .
يتحمل مرشد الختمية المسئولية المشتركة مع امام الانصار في اللهيب الجاري اليوم في دارفور ، بوقوفه طرفا في سبتمبر عام 1986 من خلال مذكرة التجمع العربي ، بدلا من إطفاء الحريق في مهده . منذ عام 1986 وحتى اليوم يتربع المرشد على عرش رئاسة الحزب الاتحادي الديمقراطي بدون أي انتخابات . لابد من الإنصاف لعائلة المهدي بان السيد الصادق أتى لرئاسة حزب الامة بانتخاب ، وان عائلة المهدي تعرف الشارع السوداني ، عكس عائلة السيد علي الميرغني ، التي لم تحتك يوما مع الجماهير ، ولم يعيشوا الآمهم ومعاناتهم ، لان مراحل تعليمهم اختصرت على مدرسة (الاشراف والمدارس النموذجية الخاصة) داخل دار ابو جلابية ، ثم الخارج .
هبت جماهير الشعب السوداني في انتفاضة هادرة في نهاية شهر سبتمبر المنصرم ضد قرارات الظلم الغاشمة لنظام الانقاذ المستبد ، والقاضية بتحميل المواطنين الفقراء اعباءا مادية قاسية ، من خلال رفع اسعار المحروقات وبالتالي اسعار جميع السلع الاستهلاكية ، واستشهد في سبيلها المئات من الارواح الشابة في جميع المدن والبوادي السودانية . وشكل محمد عثمان الميرعني لجنة لفض الشراكة مع المؤتمر الوطني ، ولكن سافر في اليوم التالي الى عاصمة الضباب (لندن) . ثم جاءت الطامة الكبرى بنقض قرار اللجنة الموصية بالخروج فورا من جميع مناصب حكومة الديكتاتورية العسكرية . نعم ، اعلن سيد الحزب بتمسكه والتزامه بجميع الاتفاقيات الموقعة مع المؤتمر الوطني وهاتف البشير مؤكدا تأييده الكامل لسياسته في قمع الانتفاضة.
السياسة العرجاء لمحمد عثمان الميرغني مزقت الحزب الى اربعة اجنحة: الحزب الاتحادي الديمقراطي الاصل (مولانا) ، الحزب الوطني الاتحادي المسجل(الدقير) ، الحزب الوطني الاتحادي ، وحزب الحركة الاتحادية(صديق الهندي) ، ناهيك عن الذين إلتحقوا تحت مظلة المؤتمر الوطني . ويشارك جناحي الميرغني (ادخل ابنه القصر مساعدا لرئيس الجمهورية) والدقير في حكومة الانقاذ ، ويدافعون عنها اكثر من اهلها .
السؤال المطروح : ماذا حقق محمد عثمان الميرغني لجماهير الاتحاد الديمقراطي؟ ، بل ماذا حقق للشعب السوداني؟ وهل إختصرت مهمته ان يكون نصيرا للديكتاتورية والشمولية؟
يتبع



mohamedelsharif22@yahoo.com

 

آراء