كيف لا
moaney15@yahoo.com
ما زال إنسان السودان يحتفظ بتأثيرات ما ترسب في ذاكرته ووجدانه من أحداث الزمان الماضي القريب والبعيد على شكل ما تعارف عليه بالحنين . وهذا الاحتفاظ أو التشبث بالماضي يعكس الحالة النفسية التي ترفض الحاضر وتصفه بالواقع المر ، آسرة نفسها في الماضي مما يثبت أن تناقضاً قائماً في التركيبة النفسية السودانية ينزع بها نحو طلب الاستقرار بالتصالح مع أصول الأشياء التي تشكّل انتمائها الاجتماعي .
وعلى هذا الأساس ، نجد أنفسنا في كثير من المواقف التي تتطلب التوازن نغرق في الفوضى ونرسخ في المواقف المزدوجة ، وتتضخم في حياتنا اليومية الثنائيات ابتداءً من انشقاق التنظيمات على نفسها واستنساخها كما يحدث في عالم السياسة والإعلام ونماذج كثيرة من الحياة العامة وفي المدارس كما الجامعات . محبي الماضي يحاولون أن يقنعونا بأن ما ينفع الناس هو القديم وحده ، ورغم رفضهم لحياة الحداثة إلا أنهم لا يستطيعون البقاء بعيداً عن أجهزة الاتصالات والأدوية والأغذية الحديثة . فقد ازدادت حدة التناقضات اليوم وغمرتهم لعبة الأضداد أكثر بكثير مما كانوا عليها سابقاً ، وانفضحت التمثيلية المكونة من مظاهر الواقع المزيف إلى المناظر غير المنسجمة ومن الخطاب المنقسم إلى الهوية المبعثرة وأساليب الحياة المرتبكة .
دخلت هذه الحالة في برمجة العقول ، ففي تسعينيات القرن الماضي كان قوام أسئلة مسابقة التلفزيون لشهور رمضان هو عبارة عن أسئلة عن أسماء الغزوات والمعارك الإسلامية. أما عن البرامج فاتجهت إلى الوعظ والإرشاد دون تثقيف أو تربية أو ترفيه. وكانت المسلسلات النادرة جداً التي يتفضل بها أهل التلفزيون على المشاهدين يتم فيها تدخل غريب جداً وهو تغطية سيقان الممثلات المصريات بواسطة شبكة سوداء مما يعكس معاناة إدارة التلفزيون من عقدة تتعلق بهذا الجزء من الجسد بالذات .
وبالخوض في جدل التناقضات أصبحنا متنكرين لمنطقنا الداخلي خاصة مع استحضار منتوجات الماضي لمقابلة طغيان عناصر الحداثة مما سبب اهتزازاً في تكوين الوعي بشكل استطاع أن يحجب رؤيا توهمات وأنماط الوعي الزائف. وخير مثال على هذا أنه في بدايات ثورة التعليم تفتقت ذهنية بعض المختصين في إعداد المناهج والكتب المدرسية بفكرة أرفدوا من خلالها مادة للصف الثالث الابتدائي باسم "مسكننا" تناولت أدوات شعبية قديمة باسمها ورسمها الموضح "المشلعيب ، السحارة ، والكنتوش". فكان على الطفل في هذه المرحلة الدراسية أن ينفصل عن واقعه وينتقل من عالم الألعاب الالكترونية ودروس الكمبيوتر ليدخل دهاليز مستودعات جداته ليستوعب دروساً من هذه الشاكلة طيلة العام ويمتحن في مادة لا علاقة لها بواقعه فضلاً عن أنها لا تقدم له أي إضافة جديدة .
حين يأخذنا بريق المصطلحات التي تحكي عن التراث والمعاصرة أو الأصالة والتجديد يلزمنا إرجاع البصر كرتين حتى ندرك إن هي إلا أساليب مزيفة تحاول التوفيق بين هذا الكم الهائل من المتناقضات التي استشرت على التفكير زمناً طويلاً. ومقاومة أي شكل من أشكال التفكير المستجيب للتغيير الإيجابي أو التغيير إلى الأمام لا يتم إلا بعلاج اختلال التوازن في التفكير المستجيب للضغط والإكراه الذي لا يترك ثقافتنا وواقعنا تنبني على منطق داخلي للتطور الطبيعي في الوعي بالعالم والوجود . لا شيء يوقف تناقض مجتمعنا إلا إذا امتلك وعيه المستقل وغادر النقص في مركباته الذهنية وتخلص من ازدواجيته المضطربة المؤسسة على قبول الانجذاب إلى الوراء ، لا شيء غير إعلان رفض أسر الماضي من أجل التغيير .
(عن صحيفة الخرطوم)