أرض القرنفل

 


 

 


كيف لا

moaney15@yahoo.com
كلما نحاول كسودانيين التسامي عن رؤية الصورة المشوشة لبلادنا في المحيط العربي ،نجد نظارات وعدسات عاكسة لهذه الصورة تتوفر بكثرة  لترينا ما نتعامى عن رؤيته. لا أدري لماذا تقفز أرض زنجبار هنا . ربما رسخت قصيدة الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت) في اللاشعور لتسهم في عكس الظروف المتشابهة من الصراعات والنزاعات، ووصفها لتلك البلاد كمكان مناسب للتلوين برمزية الرغبة البدائية الأولى. فقد تشبّعت بهذا المعنى الرمزي لأنّ الرحالة غير المحايد أعطى صورة ذاتية أكثر مما هي موضوعية، وبذلك نأى عن أن يكون جغرافياً مشغولاً بالمظهر الخارجي للمكان.  فعندما يتحدث وينقل سيرة رحلاته فهو يعني بشكل كبير إقليماً مهمشاً ودائرة مغلقة  تُنسج حولها الأساطير وتُصدق. كما أنّ معظم النخب العربية المثقفة لم تنتبه إلى أهمية المعالجة التاريخية والتحليل الاجتماعي للعلاقات العربية الأفريقية، بل تبنى معظمهم أخطاء الأنماط المطروحة من المراحل السابقة ، أو التي روجتها المدارس الإستشراقية والأنثروبولوجية عن الشعوب وتطوراتها وأهدافها.
يمكن أيضاً العثور على مثل هذه الصورة عند الحدود التي رسمها كثير من الرحالة مثل ابن بطوطة وغيره، حيث ارتسم صورة لرحلاته للسودان وما جاورها في أذهان القدماء باعتبارها بلاد الظلام بناءً على حكم اختزالي، وتكونت صورته بشكل متدرج إلى أن تلونت في أعين الرحالة من كافة الأجناس بصورة تحكمت فيها المؤثرات الدينية والثقافية بل ذهبت إلى إقترانها بجملة من النواقص الدينية والأخلاقية واللونية .
نعود إلى الحنين على مستوى التاريخ الشعري لنجد ما كتبه الشاعر محمد المكي إبراهيم في قصيدته عن فتاة زنجبار، تلك القصيدة ذائعة الصيت تؤسس برمزيتها إلى أجناس عديدة أسست لخطاب مباشر لا يخرج عن طقس القصيدة نفسها :" من اشتراك اشترى فوح القرنفل ، من أنفاس أمسية ، أو السواحل من خصر الجزيرة ، أو خصر الجزيرة من موج المحيط ، وأحضان الصباحية ،من اشتراك اشترى ،للجرح غمداً وللأحزان مرثيه ،من اشتراك اشترى منّى ومنك ،تواريخ البكاء وأجيال العبودية ،من اشتراك اشترانى يا خلاسية ،فهل أنا بائع وجهى ،وأقوالى أمام الله" .
إنّ هذا النموذج الزنجباري يقدّم مثالاً تاريخياً مثل غيره من المناطق أو التمازج كالأمازيغية المغاربية أو العراقية الآشورية ، ولكنه في نفس الوقت يقدم مادة حية للبنية الاجتماعية المعبرة ، استناداً إلى نوع من التمثيل الذي تقدمه وتغذيه الروايات الثقافية والدينية والتاريخية والجغرافية والفلسفية والأدبية ، للآخر الموسوم بالدونية والاختلاط . وهو تصور ينهض على التمايز والتراتب والتعالي ، وبكثير من الروايات التي تعمل على تراكم الصور النمطية المتخيلة الناتجة عنه في مخيلتنا تكون قد قادتنا قريباً جداً من العصر الوسيط ونظامه القيمي المعياري .
وعليه بالرغم من سيادة عصر العلم والتكنولوجيا وثورة المعلومات، فلا تزال شعوب كاملة تعيش على أسطورة أدغال بلاد قصرت في معرفتها كما قصّرت في حمايتها من قبل، ولا تزال العناصر الأسطورية قائمة في الأذهان ، ولا تزال الأساطير عناصر إلهام تنسج وتوظف للتعمية وليس للتسلية . ومع الأخذ في الاعتبار أنه مع العصر الحديث هذا لم تفلح المجتمعات العربية في التخلص من مؤثرات الماضي، فإننا نجد أنّ الحداثة والعولمة بذرت خلافاً جديداً تمثله مفاهيم التمركز والتفوق ومحاولة سيطرة نموذج ثقافي على حساب آخر، فصارت تنبعث اليوم مفاهيم جديدة تأخذ صورة إشكاليات الهوية والخصوصية والأصالة ، فيما يعيش هذا النموذج زمنين متناقضين في القيم والثقافة.


 

آراء