لا أكتب الآن عن ضباب الأسطورة الذي يحيط بالأخ الحبيب. وحين ترد عبارة (الأخ الحبيب) فالمقصود الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي. وعندما ترد كلمة الإمام، فالصفة لطيب الذكر السيد عبد الرحمن المهدي (1885 ـــ 1959) رضي الله عنه ونفعنا بعبقريته.
وحين يأتي ذكر الوالدين، فالوالد هو السيد الصديق عبد الرحمن المهدي (1911 ـــــ 1961) والوالدة هي السيدة الفضلى رحمة (1909 ـــــ 1985) حفيدة الإمام المهدي من بنته (أم سلمى) وبنت عبد الله ود جاد الله (كسار قلم ماكميك).
ظلال الأسطورة التي تحيط بالأخ الحبيب، وهو على مشارف الثمانين تصعب من عملية الكتابة عنه، لكن هذه مقدمة لمحاولة للاقتراب من منابع عبقريته الشخصية التي جعلته ظاهرة نكاد لا نراها من شدة كثافة ظلال الأسطورة الذى يحيط بها من كل جانب.
نحاول الاقتراب من مفاتيح عبقرية الأخ الحبيب الإنسانية بعيدا عن (البشتنة) العاطفية للإعجاب المنبهر من بعض اتباعه أو خندق الكراهية المطلقة من كثير من اعدائه.
ويصبح المطلوب أن نقدم قراءة جديدة تستفيد منها الأجيال الناشئة والمدجنة كذلك من السياسيين السودانيين والعرب. ويمكن لهذه الأجيال أن تستفيد كثيرا جدا لو أنها وجدت سبيلا إلى منابر الأخ الحبيب، لكي يقدم لهم تجربته السياسية التي تعد من التجارب المتفردة في تاريخنا المعاصر.
تفتحت عينا الأخ الحبيب على الحياة في منزل جده الإمام وتأثر منذ أيام الطفولة الأولى بعبقرية السيد عبد الرحمن في إدارة الأمور والخلافات، ولعله تعلم منه اللين بغير ضعف ومعنى الجهاد المدني.
ولا مجال للتوسع في عبقرية الإمام، ولكن نستعرض مشهدا لهذه العبقرية جعلت الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل يحس بالحرج حين سأله الإمام: لماذا يغضبون فى مصر لأننا نتحدث مع الإنجليز فى أمر مصيرنا؟. واستطرد الإمام حسب شهادة هيكل: لقد جاءنا السيد الإنجليزي راكبا عربة مصرية، تجرها جياد مصرية. ومع من كنت تريدنا أن نتكلم، مع العربة أو مع الجياد التي تجرها أو مع السيد راكب العربة؟.
وأعترف هيكل قائلا: أحسست بالجرح يغوص في كبريائي، ولكن إنكار الحقيقة لم يكن يجدي، فلقد كان ما قاله المهدى تصويرا صحيحا لعملية إعادة فتح السودان، تحت قيادة كتشنر.
رغم أن الأخ الحبيب رجل شديد الإيمان بقناعاته، إلا أنه مستعد بحيوية دوما لتقبل ومناقشة الآراء المعارضة له، ولعل هذه الحيوية قد تعلمها من والده، إذ حسب شهادة البروفسير يوسف فضل حسن في كتابه القيم (حواش على متون ـ علماء ومؤرخين ومفكرين في تاريخ أفريقيا والسودان)، فقد تعلم الأخ الحبيب من والده أيضا (الإيمان العميق بالحوار السلمي ولا بديل عن الديمقراطية).
أما تإثير الوالدة، فيبدو واضحا في تبني الأخ الحبيب منذ الوهلة لرؤية عن دور المرأة العصرية متحررة من مظاهر الدونية التي كان المجتمع يكبلها بها. فقد كانت عليها رحمة الله متفقهة في الدين وإحدى المؤسسات لجمعية نهضة المرأة.
من ثلاثية الجد والوالدين في البيت التي تعج أركانه بالعلم والدين والجاه والنفوذ ترعرع الأخ الحبيب وقطع رحلة تعليم طويلة بدأها بخلوة الفكي أحمد العجب بعباسية أمدرمان وأنهاها في تخوم أكسفورد، وتلك قصة طويلة سنأتي إليها تفصيلا. لكن الشاهد فيها أن الأخ الحبيب ركل كل هذا الجاه الأسرى واعتمد على نفسه متخطيا بجده وكده وبلائه وابتلائه كل محاذير القيادة الوراثية.
من المهم في سياق هذه المقدمة والأخ الحبيب على مشارف الثمانين إثبات مهارته الفائقة على تنظيم الوقت بطريقة ربما تكون قاسية في التعامل مع النفس والأهل والأصدقاء والآخرين، ومع ذلك فقد سمعته يشكو قائلا: (لكنني شخصيا مرهق لأنني أقوم بمهام تقليدية في مجتمع يحاسب عليها بدقة، وأقوم بمهام مؤسسية بانضباط شديد وأقوم بأنشطة دينية، وثقافية، وفكرية استثنائية).
والأخ الحبيب لمن لا يعرف قارئ متميز ومتبع جيد للجديد في صنوف المعرفة المختلفة، فإذا قدر أن تتجول في منزله ستجد في كل ركن يجلس عليه أو يتكئ فيه منضدة تحمل الجديد من ثمرات المطابع الوطنية والعالمية، ويضيف إليها متابعة معارض الفن التشكيلي وحضور المنتديات الثقافية.
وإذا بدا لك أن الأخ الحبيب منظومة ثقافية متكاملة، فظنك صحيح من جهة أنها ما يميزه عن السياسيين الآخرين. كما يحرص خلال رحلاته خارج البلاد على مقابلة كل الأسماء الكبيرة في الفكر والتأليف في عالم اليوم، بل إن البعض من هؤلاء يسعى إلى مقابلته والحديث معه، وهنا أسرد تجربة شخصية فقد رافقت مفكرا عربيا قبل سنوات خلت إلى مقر إقامة الأخ الحبيب في عاصمة عربية. وحين سألته بلوم صحفي عن إصراره على هذه الزيارة؟ أجابني بهدوء وتهكم (كنت أعتقد أنك تدرك أن الصادق المهدي واحد من أهم بوابات السودان، ومن يريد يعرف هذا البلد جيدا لابد أن يسمع من المهدي أولا).
من المهم في سياق المقدمة والأخ الحبيب على مشارف الثمانين، الإقرار أنه لم يهبط على حقيبة مجلس الوزراء من السماء أو أوصلته إليها دبابة، بل وصل إليها مرتين عبر انتخابات مرهقة خاضها وهو شاب صغير في الثلاثين وخاضها وهو رجل قوي في الخمسين. وفي الحالتين خبر صعوبة التجربة وأحس بفرحة الفوز وذاق مرارة الهزيمة.
ولعل خير ختام لهذه المقدمة والأخ الحبيب على مشارف الثمانين أن نقدم مثالين، الأول: إن معهد الدراسات الموضوعية في الهند وضعه في المرتبة الخامسة من بين 26 شخصا من عظماء العالم الإسلامي في القرن العشرين. وجاء في حيثيات الاختيار (امتلك الصادق المهدي القدرة على التماسك ليصمد ويقاوم الضغوط المتنوعة مبرهنا عن همة استثنائية كقائد عظيم في القرن العشرين).
الثاني: إن الأخ الحبيب أرسل برقية تعزية إلى أسرة الرئيس جعفر محمد نميري (1931 ــ 2009) جاء فيها: (ومهما كان بيني وبين المرحوم من خلاف في حياته فيجمع بيننا اخاء الدين واخاء المواطنة. وهو الآن أمام حكم عدل أسماؤه تسعة وتسعون. ولكن أوجب علينا في الصلاة وفي تلاوة القرآن وفي الشروع في كل الأمور أن ندعوه الرحمن الرحيم. إن رحمته وسعت كل شئ).