21 أكتوبر (5) .. في الذكرى الخمسين
الحزب الشيوعي: بين الدور الأكبر والأساسي في مناهضة دكتاتورية عبود وبين التفريط في إدارة الثورة!
قبل تناول الموضوع ، لا بد من وقفة عند سجل الحزب في مقاومة الاستعمار والاستنارة بالحقوق وسجله بعيد الاستقلال وقبل الحكم العسكري:
بين عامي 46 و56، استطاعت طليعة الحركة ممثلة في الجبهة المعادية للاستعمار التمكن من منح قضية التحرر من الاستعمار وبالتالي الاستقلال مضمونه الوطني، ببناء حركة العمال ونيلها مدى من الحقوق وفي قيادتها العلم قاسم أمين وسلام والشفيع، وحركة المزارعين بقيادة المتفرغ التاريخي: كامل محجوب والشيخ الأمين الذي انتمى للحزب الشيوعي في العام نفسه الذي أدى فيه فريضة الحج وشيخ الخير والإزيرق وحركة الطلاب ( جرى فصل الطالبين الجامعيين: نقد وشيبون من جامعة الخرطوم لمعارضتهما باسم التنظيم اتفاقية 1953، التي اعترف الحزب بخطأ موقفه منها بعد 40 عاما )
وتوطد ت الحركة الجماهيرية بلهيبها من الطلاب والنقابيين والنشطين، بل وصلت: الشرطة التي دخلت في إضراب عام 1954، ورفدت الحركة الثقافية بمدد متين، فظهرت جريدة الصراحة بملحقها المجيد ومن قبلها الكفاح، وكانت تمنح الإسلاميين مجالا واسعا وخاصة عام 54 بعد سجن سيد قطب وشنق عودةالخ وتحالفت الحركة اليسارية مع مناضلين لا ينتمون إليها تنظيميا ولكنهم تعاونوا معها من أجل هدف مشترك مثل عبد الله رجب وعبد المنعم وهناك آخرون من خارج الحركة كان لهم دورهم التاريخي المؤازر لعمل التحرر الوطني مثل محمد خير البدوي الذي كان يتدرع بكفنه في المظاهرات وأحمد خير وسليمان موسى ومحمود محد طه وطلائع الجمهوريين.
ومن يطالع وثائق الإدارة البريطانية في السودان يهيأ إليه أن قيادة الحركة منحصرة في الشفيع أحمد الشيخ وحسن الطاهر زروق وأن كل من يخرج في مظاهرة أو يشارك في توزيع منشور أو يجالس المشبوهين يساريا هو شيوعي خطير!
فلما جاء الاستقلال، أقر الحزب في مؤتمره الثالث 1956، أن يتحول الحزب الشيوعي إلى قوة جماهيرية كبرى (!) إلى جانب الجبهة المعادية للآستعمار التي كان لها ممثل في البرلمان هو حسن الطاهر زروق.
ويمكن أن نذكر هنا أهم منجزات سنوات الاستقلال قبل وأد الديمقراطية: 56-58:
1: رفض " السخرة" في جبال النوبة والدقنية في عملية جماهيرية قادها حسن سلامة الذي سجن ولكن السخرة فقدت وجودها ومفعولها.
2: قيادة الهبة المناوئة لكارثة : عنبر جودة في كل السودان وفي منطقة كوستي، وتكللت بسجن القياديين والنقابيين والصحفيين الذين قدموا من الخرطوم والجزيرة للاحتجاج والمؤازرة وقيادة المقاومة وعلى رأسهم: النقابي حامد شاكر والثلاثي الجنيد والوسيلة وحسن الطاهر زروق عضو البرلمان الذي سحبت حصانته وفقد عضويته وسافر مقيدا مع رفيقيه بالقطار إلى الخرطوم ونزلوا على تلك الحال في محطة الخرطوم، وسيقوا إلى كوبر لقضاء مدة السجن وذاك مشهد كتب عنه صلاح أحمد إبراهيم قصيدته الماجدة : ثلاثة رجال وراءهم سجان: سأقول قصيدة يحبها الجنيد مثل بدلته الوحيدة.
3: بناء الحركة النسائية التي اتخذت زينتها على يد فاطمة، وطالبت عام 1957 بمنح المرأة حق التصويت والترشيح، ويومها كانت الحركة النسائية موحدة، حتى الأخوات كن عضوات فيها، ولكن سعاد الفاتح خرجت من الحركة يومئذ احتجاجا، لأنه لا يجوز للإسلاميات العمل داخل حركة نسائية منحرفة ومغالية تطالب بمنح المرأة ذينك الحقين، ومضت الأيام ودخلت فاطمة البرلمان وبعد نحو 30 عاما صارت سعاد الفاتح عضوا في البرلمان في مقعد خريجي مديرية الخرطوم، في عهد الانتفاضة!
4: تعاضد الحركة الجماهيرية: الطلاب العمال النقابات مطلبيا ووعيا بالاستعمار
وكان أبرز تلك المواقف عام 57، في مقاطعة زيارة نكسون نائب الرئيس الأمريكي للخرطوم والاحتجاج عليها حتى أن موكبه من المطار، وجد الشوارع خالية واقترن ذلك برفض المعونة الأمريكية.
ولهذا عندما جاء انقلاب عبود ، وضح جليا أنه انقلاب مصري صميم ، فالعبرة بالمستفيد من الانقلاب وهو مصر الناصرية ومصر كلها لها هدف واحد هو الماء ونالت حق بناء السد العالي بشروط ظالمة ومهينة واستعباطية، بتعويض بخس دفعت بعضه، واستكمل السودان معظمه من ماله الخاص، وفقد أراضي سكنية وزراعية وثروات وأضاع كنوزا تاريخية وأرغم الآلاف على تجرع سم الإهانة وأضاع حقوقهم ويكفي أن نذكر هنا أن الكهرباء المولدة من السد وصلت قبل سنوات إلى الأردن ولم تصل ولا لمبة واحدة إلى السودان على مدى 50 عاما!
الجانب الآخر هو قبول عبود للمعونة الأمريكية ودخل في اللعبة الأمريكية وقبل الدور المنوط به وهو محاربة الشيوعية المحلية وبضراوة تحت إشراف وعون وتوجيه.
استبسل الحزب الشيوعي في محاربة الدكتاتوري، وعانى من المطارة والاعتقال والسجن والطرد من العمل ، وقدم أعضاؤه لمحاكمات مستمرة أهمها:
محاكمة عبد الخالق ودفاعه المشهود ومحاكمة سليمان حامد و حسنين الذي تعرض لتعذيب: " النفخ" ومحاكمة كبج ومحاكمة أحمد سليمان، فضلا عن محاكمة الشفيع وزملائه في أول أيام عبود وسجنه!
أما الإخوان المسلمون فكانت لهم مشاركات جزئية ومحدودة مثل فصل الطالب مبارك قسم الله لقيادته مظاهرة مناصرة لأهل حلفا في جامعة الخرطوم 1959 وفصل الطالب سيد أبو إدريس وزملائه في اتحاد خورطقت في العام الدراسي 63 -64. و اعتقال مرغني عبد الرحمن الحاج سليمان وآخرين في أم روابة ، لمشاركتهم في مظاهرة أثناء الاحتفال بعيد الاستقلال في ميدان عام وكان مرغني محررا بجريدة الإخوان المسلمين ورئيس تحريرها صادق عبد الله قبيل الانقلاب.
أما الرشيد الطاهر فسجن لمشاركته في انقلاب علي حامد عام 1959، على أساس أنه شارك بصورة فردية يتحمل مسؤوليتها وحده!
ويكفي أن نستدل بما كتب الترابي عن موقف جماعته من مقاومة الدكتاتورية:
" في الستينات حين كان إبراهيم عبود يحكم البلاد، حكما عسكريا 58 – 64، تراجع نشاط الحركة ( الإسلامية ) في الساحة العامة وفرغ أبناؤها لخاصة شؤونهم." ( كتاب حسن الترابي: آراء،أحاديث أجراها محمد الهاشمي، الناشر: المستقلة، لندن،1996، ص:37)
ولكن الحق كان لهم نشاط ما مثل تشييد دور النشاط الإسلامي في أراض ممنوحة من الدولة في النهود والأبيض الخ ومثل النشاط العلني لنادي أمدرمان الثقافي (المركز العام للتنظيم) وندواته الثقافية و احتضانه لجماعة الأدب السوداني برئاسة عبد الله الشيخ البشير التي أقامت مهرجان التجاني عام 1962‘ وصدور أوراقه في كتاب منشور: دراسات فيشعر التجاني، وهو إنجاز عظيم وفي هذه الجماعة قدم عبد الله الشيخ لأول مرة الباحث الفلكلوري الخرافي السمح : الطيب محمد الطيب، وكان علي عبد الله يعقوب يقف من وراء ذلك النشاط الثقافي الحافل!
ويكفي أن نستدل هنا بأسماء المعتقلين المنفيين من قادة الأحزاب والبلد في ناقشوط ، ليس فيهم واحد من الجماعة:
(أزهري وزروق، المحجوب وعبد الله خليل، عبد الخالق وأحمد سليمان، وشاخور رئيس نادي المريخ الرجل الوطني الشهم المؤازر للنشاط المناوئ للدكتاتورية) فلما جاءت أكتوبر كان الحل الوحيد هو التحالف مع كل الوطنيين، من أجل صياغة دستور حضاري بالحد الأدنى الذي يرتضيه الجميع ، باسم العدل والمساواة والديمقراطية والتنمية!
حزب الشعب والقوميون والناصريون والبعث وأفراد داخل الحزبين الكبيرين، بل حتى الذين اختلفوا مع الحزب ومن بينهم قادة أهل سجل ناصع وتضحيات وإنجاز، مثل قاسم أمين الذي غادر البلد قبل شهر من أكتوبر وهو في الصف الأول بين ذوي البذل في مناوأة عبود، وأحمد بقادي و القيادة الثورية:يوسف عبد المجيد (عرض عليه الأمركان نصف مليون دولار عام 60 للتعاون فرفض بشمم) وأحمد جبريل وشامي وسلام والحركات الإقليمية التي طرحت : الفدرشن بعد الاستقلال مباشرة وكان ينظر إليها بوصفها تيارات عنصرية أو متخلفة ولم يدخل الجمعية التأسيسية من جبال النوبة إلا مرشحو اتحاد عام جبال النوبة ودريج الذي فاز مستقلا ولكنه رائد جبهة نهضة دارفور وزعيم من بيت الملك يجري في عروقه الدم الأزرق. وجبهة البجة بتراثها العريق والوطني. والآن ليس في الساحة السياسية تنظيمات سياسية أقوى من الحركات الإقليمية والجهوية والقبلية! إلى جانب الأحزاب الجديدة كالمؤتمر وجماهير العاصمة والمدن!
المهم ، بدأت إدارة الثورة بجبهة الهيئات وسيطرتها على الحكم، وبسقوط تلك الحكومة خرجت جبهة الهيئات وبدأت الحركة حركة تيار أكتوبر في الشارع تتراجع وتتجهجه، وحلوا الحزب الشيوعي وكان من الممكن العمل من منصة تنظيم تحالف لايحمل الاسم الصريح، مثل الجبهة المعادية للاستعمار ذات النجاح البين والمفاخر ! هذا ما نجح فيه حسن الترابي وتحوط له تنظيم الأتراك!
abuamnabadawi@gmail.com