في تلك الأيام العصيبة التي عانى منها المغتربون السودانيون في الخليج، وفي السعودية تحديداً، أوائل التسعينات وإلى حرب الخليج وعقابيلهاالماحقة. جراءالموقف الذي اتخذته حكومة الإنقاذ، وفق حسابات خاسرة، وكان على مواطنيها المغتربين، بصفة خاصة، دفع ثمنها الباهظ. قبل ذلك نشطت جمعيات خيرية في أوساط السودانيين، اقتصرت أعمالها في استقطاب الدعم لمناطقها المحلية بشكل خاص، غير أنها وفي رحم هذا المناخ القاتم، صارت تًعْنَى بأحوال منسوبيها، وترعى شؤونهم بعيداً عن القنصليات والسفارات السودانية والتي أصبحت، إلى حد بعيد، معزولة لا يغشاها إلا أهل النظام والمضطرون، ممن لا يجدون حيلة أو مفراً إلا ارتيادها لحاجة ملحة أو أمر طارئ. تطورت بعض هذه الجمعيات في تلقائية، حتى صارت تجمعات اجتماعية وثقافية محض، كمنتدى الإمام عبد الرحمن المهدي في جدة، وعلى رأسه الناظر جماع مردس، على سبيل المثال. وباستثناء المثال المذكور، فإن معظم تلك المحاولات كانت منغلقة إلى حد بعيد. عندئذٍ رأت ثلة من المغتربين السودانيين في المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية أهمية إنشاء ملتقى اجتماعي ثقافي يهتم بشأنهم في هذا الجانب، يتسم بالشمول والانفتاح، وبخاصة في تلك الأيام التي شهدت توافد أعداد كبيرة من السودانيين لأسباب شتى، من بينهم أهل العلم وأهل الفن وأهل الثقافة. هذا العدد المتزايد وطول المدة، جعلا من الضروري والمحتم اللقاء في المناسبات المختلفة من أفراح وأتراح مما يقتضي المؤازرة والتعاون. ولقد مرت على البلاد بعض الحوادث والنكبات تطلبت من الناس مد يد العون والمواساة. الذين يؤثرون السلامة، ويتعاملون مع الاغتراب من منطلق ضحل، يختزلون نشاطهم في حدود عملهم ويقصرون علاقاتهم الاجتماعية في نطاقهم الضيق والذاتي والمحدود، وإذا تطلب الأمر مشاركة ما، جاد بما يتيسر واكتفى بتلك المساهمة، كما يفعل كثيرون، فلديهم من شأنهم الخاص ما يكفيهم، وأما ما يخص الوطن فيكفي أنه يرسل ما تيسر للأهل والأقربين، وإذا حلّ أحدٌ ما فربما جاد عليه بهدية أو أعانه بقليل من المال وحسبه ذلك من مساهمة. بعض ذوي النفوس الكبيرة رأوا أكثر من ذلك، نظروا إلى طبيعة العلاقات والوشائج، وأيقنوا أن الغربة وإن كان المؤمل أن تكون قصيرةً فقد تطول، وأن هنالك أفواجاً ستأتي وتذهب، وإن هنالك إرثاً من السلوك والانضباط والسمعة الطيبة تراكم على مر السنوات وتعاقب الأجيال، وأمام هذا المد الجارف من أفواج المغتربين فلابد من المحافظة عليه. واليوم، ومع تكاثر القادمين والهاربين من ضنك المعايش في الوطن، فإن هذا الإرث مهدد بالاهتزاز والتعرض لامتحان. كما إن النكبات والأحداث الطبيعية والظروف التي تحيط بالوطن تتطلب عملاً جماعياً، والاستفادة من العلاقات الممتازة للأفراد في مختلف محيط أعمالهم. والحال كذلك، فقد يتطلب الأمر أكثر من مجرد مجاملة عابرة أو مساهمة مالية محدودة. ولقد مر زمنٌ شهد الناس فيها زيارة بعض رموز أهل العلم وأهل الفن وأهل الثقافة وغيرهم من المبدعين، ذوي شأن وإسهام كبير في الوطن، غير أنهم حلّوا هنا ولم يدر بهم أحد، وربما أدّى الجهل بمقدارهم إلى الإزدراء بهم أو الاستهانة بمكانتهم، ولقد لحق ببعضهم ، جراء ذلك، أذى كبير. كان ذلك يسبب حرجاً بالغاً ويترك ألماً ممضّاً في النفوس، ولم تكن طبيعة الخيّرين من أهل السودان تقبلها أو تغضّ الطرف عنها.ومن ناحية أخرى، بدرت بعض التصرفات التي لفتت الناس إلى النظر في محاولة عمل شيء تجاهها، حفاظاً للسيرة الحسنة التي أسسها السودانيون من قبل وغيرة على سمعة الوطن وإحساساً بجلال قيم المروءة والشهامة. هكذا حين نهضت مجموعة من الأخيار، آمنوا أن شأن الوطن ليس شأن عارض، بل مسئولية مقدسة، وحسن تمثيله في أبهى صورة هو فرض عين، وأنه أمانة وواجب عليهم حيث حلوا أو أقاموا. وبمبادرة من السيد هاشم سوركتي، تنادوالإنشاء ملتقى ثقافي اجتماعي بجدة أوائل القرن الحالي. كان المؤسسون، أهل سعة واقتدار وذوي مكانة وأريحية، سواء في وطنهم أو مهجرهم،على رأسهم هاشم سوركتي، نذكر منهم حبيب شامي، د.عاصم بابو نمر، عماد موسى،مجدالدين،د.عارف ابوعفان،بشير نصر الدين،بكري محمد سعيد، محمد مدني، يوسف محمد يوسف، أيمن، محمد كتي، ومعهم في أيام التأسيس الأولى، د. ميرغني عبد العزيز، د. صلاح التجاني وغيرهم ممن كانوا أسماءاً لامعة في الغربة، تصدوا لهذا العمل في همة ونكران ذات. عبوراً بمخاض التأسيس ومعاناته، ألزم الملتقى نفسه في إطار مناشطه بمبدأ النأي عن السياسة وعن التحزب، فللسياسة والتحزب منابر أخرى، فهذا الملتقى لأهل السودان جميعاً بكل أطيافهم وألوانهم، فقط ، عليهم الالتزام بأدب الضيافة في البلد المضيف، وأن يكون كل من ينتمي لهذا الملتقى سفيراً لوطنه فيما يليه. هكذا وجد السودانييون في جدة متنفساً لأسرهم وعائلاتهم، خفّت مرارات الغربة، والاستيحاش. صار الملتقى ملاذاً وأهلاً وتواثقت صلات، وتعمقت وشائج.أصحاب المواهب وجدوا لأنفسهم متسعاً لإظهار مواهبهم، وبرز من بينهم فنانون ورياضيون، مغنون وموسيقيون ومسرحيون، نُظِّمَتْ معارض واحتفالات، وانتقلت صورة الوطن إلى المهاجر في احتفائيات الملتقى بأعياد الاستقلال، اكتوبر، الانتفاضة. كل الهموم القومية وجدت لها اهتماماً وعناية. نظم الملتقى الندوات والمحاضرات وورش التدريب، أقامت المسابقات الرياضية والمناشط الترفيهية والتربوية للأطفال، افتتحت صالات لمعارض الفنون التشكيلية وغيرها. امتدت يد الملتقى بالمساهمات الضخمة والمبادرات الوطنية إبان الكوارث والنوازل الكبرى (الفيضانات، وآثار الحرب ...الخ). أسهمت في علاج المبدعين، واستضافة الرموز القومية وتكريمهم، إضافة إلى المشاركة الفاعلة في حلحلة مشاكل الأفراد عبر أعضاء الملتقى وشبكة علاقاتها الواسعة. الآن وقد مضى أكثر من عقد من الزمان على نشوء الملتقى، وقد صار رقماً لا يمكن تجاوزه في أوساط السودانيين في المملكة العربية السعودية وبخاصة في المنطقة الغربية، يتحلى أعضاؤها بالاستقامة والخلق الرفيع والصيت الحسن، تمضي مجموعات وتأتي غيرها، لكن تبقى المبادئ التي تم إرساؤها من قبل المؤسسين الأوائل، تنير الطريق وتلهم الأجيال اللاحقة، بأن هنا جاء سودانيون، أقاموا برهة ثم رحلوا، ولكنهم خلدوا وطنهم وضربوا أروع الأمثلة في الاستقامة ونكران الذات. رحلوا وبقيت سيرتهم مشاعل تنير الطريق لمن يأتي بعدهم هنا. أخانا الكبير هاشم سوركتي سنة الله في الخلق تمضي، وقد كتب علينا جميعاً الفناء. من أهل هذا الملتقى، فقدنا ذات يوم، عماد موسى، وفقدنا حبيب شامي من قبل، وفقدنا من اعضاء المنتدى من فقدنا، وسيأتينا الدور لا محالة، (كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). ربما افتقدناك في هذا اليوم، وربما نفتقدك غداً أيضاً، غير أننا موقنين، أنك وأنت تمضي إلى الدار الباقية، تمضي سعيداً بما أنجزت، وفي يومٍ أغر، ومناسبة عظيمة إلى قلبك العطوف الكبير، شهدت فيه غرسك وقد سمق، وتحلق أهل السودان هنا من حولك، يحتفلون باكتوبر الأخضر، تلك الثورة التي سطرها شعبك في صحائف الخلود، وسيعيد تسطيرها مرة أخرى، إن شاء الله. ذهبت وأنت ترى ما تناديت إلى إحيائه قد ازدهر، ويتحلق الناس حوله أفواجاً، وسيعلو ذكرك أبداً معانقاً المبادئ التي عملت على إرسائها ودعوتنا للتمسك بها، بعد أن أسلمت الراية لمؤمنين من بعدك، مؤتمنين على الأمانة، باذلين كل مرتخص وغال لإعلائها، وقد عاهدوا الله من قبل أنهم عليها لحافظون. أخانا الأكبر هاشم نسأل الله لك الرحمة، فالزمان بأمثالك ضنين. أسعدك الرحمن في عليين إنا لله وإنا إليه راجعون. عالم عباس/جدة 19/مارس/2014 alim.nor@gmail.com