منذ الانفصال، توالت ألوان مبتدعة من الضربات على الصحافة
ثالوث من العقوبات الصحفية: من المجلس والمحكمة والجهاز
الحل في سيادة المعالجة الحكيمة لعلاقة الأمن بالصحافة
الحل في مجلس صحافة ضابط باسم المهنة وليس الحكومة
الحل في رؤية تعتبر العمل الصحفي خدمة وطن لا خدمة حاكم
د. محمود قلندر
حينما أسمينا هذه الحلقات "بالمحنة"، لم يخطر بالبال أن قمة محنة هذه المهنة لم تكن قد حانت بعد، إذ كان ميقاتها قاب قوسين من حلقاتنا. وما ظننا أن صبحاً سيصبح وقد تجاوزت علاقة السلطة بالصحافة كل مدىً يتصوره الواحد من السوء. فقد بلغ سيل الريبة وسوء الظن، زباه حتى صار مباحاً إنزال العقاب بالجملة، ليؤخذ البرئ بجريرة المذنب.
لقد جاءت قمة المحنة في صبح الهجمة التي أعدمت من ساحة التداول اليومي أربعة عشر كوكباً، والتي صارت نادرة من نادرات التعامل مع الصحافة، ليس في بلادنا فحسب، بل وعلىامتداد ساحات الممارسة الصحفية في العالم. وهي نادرة سارت بها ركبان الصحافة الحرة على امتداد العالم كله، وحفظتها في الأضابير حدثاً نادر التكرار، لا يشك أحد أنه سيسَوِّد صفحات الدراسات والكتب في القادم من السنوات.
و لا يهم كثيراً ما جاء على صفحات تلك الصحف الأربعة عشر، حتى استحقت ما استحقت من معاقبة دراكونية، فقد بات واضحاً الآن أن أحداً لا يملك القول الفصل ليجزم بما كان سبباً لتلك الهجمة، فلم يستطع الوزير القريب بمسئولياته من الصحف والصحافة، ولا المجلس الحكومي المنوط بالمهنة، ولا الاتحاد شبه الرسمي للمهنة والممتهنين،تقديم تكهن منطقي بما اغترفته الصحف الأربعة عشر. ولا يهم هذا كما قلنا، فالذي يهم هو ما وراء الهجمة المجملة، والذي هو في تقديرنا امتداد بالزمان للأعراض ذاتها التي ظلت عظمة الحديث في حلقاتنا: الرهاب. أما الغرض والمنتهى، فإنه في تقديرنا، تمثلٌ بحال رعاة الإبل في ضربهم للقُرُوفْ في وجه النوق النوافر، وامتثالٌ بمبادئ المبادرة بديل الملاحقة.
***
يفرق المهتمون بعلم السياسة والاتصال بين فعل الاتصال السياسي المبادر والفعل منه الملاحق. ويقول المختصون في هذا المجال، إن الاتصال السياسي الملاحق هو اتصال يستصحب الضعف والفشل، فهو أقرب شكلاً إلى من يتلقى ضربة، فيتحرك ليتقيها، فيحسن الاتقاء أو يسيئه، فهو في الحالتين في الموقف الأضعف. أما الاتصال المبادر، فإنه يضع المرء في موضع القوة، حيث يحدد هو ساحات النزال، ويضع شروط "المنازلة"، وبذلك يكون هو الأقوىلأنه يختار شروط النجاح مسبقاً.
ذلك – في تقديرنا- هو المنطق المبرر لقرار الخسف بالأربعة عشر صحيفة في صبح المحنة العظيم..
فلا يشك أحد أن السلطة قد بدأت في التحسب لما يمكن أن تهب به رياح التطورات السياسية المرتبطة بالانتخابات خلال الشهر القادم. وتدرك السلطةأن المرحلة المقبلة، في ظل مواقف المعارضة المناهضة، وما تنادي به من مقاطعات سالبة وموجبة. تستوجب المبادأة وليس الملاحقة. فقد كانت السلطة في سابق الأحداث أقرب إلى الملاحقة في تعاملها مع تكتيكات المعارضة، وكانت بذلك أقرب إلى الخسارة حتى وإن كانت لها الغلبة في المنتهى.
ولعله ليس صعباً عدُّ المواقف الاتصالية السياسية الحكومية الملاحقة، في وجه مبادآت المعارضة ومبادراتها في حالات ملابسات سياسية سابقة، شبيهة بما توشك البلاد أن تدخل فيه خلال أسابيع. ولكنا نورد أهمها وأكثرها أثراً حتى اليوم على سمعة الفعل الانتخابي الوطني. ونقصد بذلك، شبهة "الحشو" للصناديق التي سارت بها كل لوحات المفاتيح، وتناقلتها صورة وصوتاً كافة الأجهزة الاتصالية. وبعيداً عن الصدق أوالمبالغة في أمر تلك الحادثة، فإن الذي يهم هذا المقال منها هو أنها الحادثة التي لم تتحسب لها السلطة، وهي تضع محكمات خطتها الإعلامية الانتخابية في تلك السنوات. ولا زالت السلطات تلاحق -لاهثة- ناتج تلك "الغفوة"، فلن يخفى على أي إعلامي معاني ودلالات الخبر الذي بثته الوسائل منذا أيام عن مداهمة السلطات لتمارين تجريها جماعات "لتزوير حالات التزوير"، باعتبارها من نواتج التحسب من تكرار الغفوة الهفوة.
يمكن إذن الربط هنا بين ضرب القروف في صبح الإثنين، وبين الرغبة في الاندفاع استباقاً بدلا من البقاء بالارتداد على الفعل. فاللذين استوعبوا درس حادثة الحشو لن يتركوا ثغرة إلا وسدوها حتى لا تهب منها ريح. ولعله كافٍ في مثل حال العلاقة المستدامة من التعامل الغليظ مع الصحافة في الداخل، أن تضرب بعض القروف، أو تشد بعض الآذان، حتى لا يكون فيها مكان لعمل شبيه بالذي كان في انتخابات السابقة.
***
كيف نختم مثل هذه الحلقات التي جعلنا المحنة جوهرها، وربطنا كل عصر فيها بواقعات كَبَد واجهتها الصحافة والممتهنون لها؟
قد يكون الابلغ هو تلخيص حال المحنة منذ ان كانت الصحافة في البلاد، مؤسسة تتصل العلاقة فيها مع السياسة، فقد بدأنا مع العهد الاستعماري، ونقف اليوم على باب العقد السادس من عمر البلاد المستقلة، بأشكال من النظم السياسية المتباينة، فيها العسكري القابض الصحافة من الخناق، وذلك الذي طواها تحت الجناح، ثم الذي وضعها في موضع المنبت، فلم يبق لها ظهراً ولم يقطع بها أرضاً. وفيها اللبرالي الذي مشى بالحرية حتى ندم عليها،والذيتمنى لو سار بالحرية مسار العسكريين ببعض طيٍ تحت الجناح.
دعنا إذن نرسم مجمل واقع العلاقة بين السلطة والصحافة عبر الاقتراب نحوها بالحقائق والارقامفي كل مرحلة سياسية، معتمدين ما نسميه "أشكال الضبط والتحكم " أساساً لذلك الاقتراب. ونقصد ب"أشكال الضبط والتحكم" كل ممارسة -مستندة على قانون أو لائحة أو قرار إداري- تتيح للسلطة التدخل، بالمنع أو التعطيل أو الإيقاف، في أداء الصحافة أو محتواها أو ملكيتها أوكتابها الممتهنين بالأصالة أو بالتعاون.
واعتماداً على القوانين واللوائح والقرارت الإدارية التي صدرت من السلطات السياسية الحاكمة منذ الإدارة البريطانية و عبر أنظمة ديمقراطية ثلاثة (لبرالي 1 و2 و3) ، وعسكريتين (عسكري 1 و2) وحتى سنواتالإنقاذ، يمكننا تلخيص أشكال الضبط فيما يلي:
(1) الترخيص، (2) الغرامة، (3) الرقابة، (4) الإغلاق، (5) منع الاصدار (6) الحبس (7) منع الكتابة
(8) طرد المحررين (9) التأميم (10) الاغتيال. وينبغي ملاحظة أن بعض هذه الأشكال يحمل تحته مضامين شبيهة (مثال: التأميم يتضمن أيضاً المصادرة/ الحبس يشمل الاعتقال والسجن بحكم قضائي) تم جمعها مع بعضها لتكون كل منها "وحدة" مقايسة. وتم منح كل وحدة منها قيمة معيارية تعكس مستوى "الضبط والتحكم"، وبذلك أعطي "الترخيص" قيمة (1) فقط باعتباره أقل الأنواع ضبطاً وإحكاماً، بينما أعطي الإغتيال أعلى قيمة (10) باعتبارهأقصى أنواع التحكم.
وعلى ذلك يمكن الآن قراءة الرسم البياني التالي للمقارنة والتأمل في المآل والتبدل في الحال.. ويمكن تلخيص النتائج كما يلي:
أولا:
يعكس النموذج اضطراداً في الضبط والتحكم ازدادتوتيرته باضطراد السنوات من بعد الاستقلال، وهو أمر لا يبشر بخير، ففي الوقت الذي يتطلع الحادبون على واقع الصحافة إلى تقدم الخطى على طريق الحريات، يشير النموذج إلى التراجع فيها منذ انقضاء العقد ونصف من بعد الاستقلال. بل ويشير النموذج إلى خب الخطى على طريق التحكم الأعلى باضطراد الزمان، حتى أن أكثرها تنوعاً كانت وقائعه في السنوات الأخيرة.و لابد من ملاحظة أنهذا التراجع المريع في واقع الحريات الصحفية،يأتي في الوقت الذي تتسع مواعينه على مستوى العالم منذ منتصف الثمانينيات.
ثانيا:
أن "أشكال الضبط والتحكم" تنوعت في نموها من أشكال يمكن وصفها "بالبراءة"، إذ بقيت خلال الإدارة البريطانية وما تلاها من حكم برلماني ديمقراطي، على مستوى الغرامات في أقصى حالاتها، بينما
تصاعدت لتشهد سنوات الديمقراطية الثانية مستجدات من شاكلة الإيقاف القسري للصحف بادعاءات التعاون مع العسكريين. أما خلال النظام العسكري الثاني، فقد بلغ الضبط مداه بتأميم الصحف، ثم قبلها ، وفي سنوات النظام الأولى الملتهبة بالثورية، بالاغتيال.
ثالثاً:
في الوقت الذي ارتبط التنوع في أشكال الضبط باتجاهات النظام السياسي، فإن الأنظمة العسكرية استحوذت، كما هو متوقع، بالنصيب الأعلى من تلك الأشكال. بيد أن الذي يقتضي التأمل، هو بقاء نظام الانقاذ، رغم كل التحولات التي رمى إليها منذ منتصف التسعينات انتقالاً من الوجه العسكري الصرف واقتراباً من أشكال اللبرالية والتعددية، في خانة النظام الأكثر استخداماً لأشكال الضبط والتحكم، فالرسم البياني يشير بجلاء إلى الانقاذ باعتبارها نظام الحكم الذي تكاملت فيها تسعة من من أشكال الضبط العشرة، فلم يبق ما لم تمارسه الانقاذ في تحكمها في الصحافة إلا الاغتيال.
رابعا:
أن الانقاذ في أولهاالعسكري ، كانت أقلضبطاً وتحكماً في الصحافة من آخرها التعددي. ورغم أن المنطق في ذلك هو انتساب الصحافة في فترة الانقاذ العسكرية الأولى إليها، إلا أن المنطق ذاته يفترض أن اتساع الصدور بالتعددية السياسية والصحفية بعد ذلك، كان يتطلب اتساعاً شبيها في مساحات الحريات الصحفية التي بدونها لا تصبح للتعددية السياسية معنى ولا قيمة. ولا شك أن واقع الحال الذي تعايشه الصحافة اليوم يقول بحالٍمحيرٍ، فيه تتحدث الانقاذ بلسان الحرية، ولكنها تفعل حين تفعل، باليد الحديدية.
خامساً:
بإعمال المعيار الذي حددناه لحجم الضبط والتحكم، فإن الانقاذ،بلا شك ، جمعت فأكملت. فالناظر إلى الرسم البياني الثاني، والذي يلخص قيمة الضبط والتحكم عبر الأنظمة السياسية، لا يغيب عليه أن الانقاذ جمعت إليها نصيباً تجاوز مجموع قيمة التحكم عند كل الأنظمة السابقة، حتى عند حساب أعلى القيم لممارسة النظام المايوي الاغتيال في سنواته الاولى. ولو قال قائل إن الانقاذ لها خمسٌ وعشرين عاما وبذلك لابد أن تعلو بعدد سنواتها تلك، فإنه يجب التذكير بأنها ذهبت منذ عشرين عاما من خمس وعشرينها، مذاهب الحرية ودعت بدعاوي التعددية، وهو أمركان يتطلب أن تكون الصحافة فيها اليوم تتمرغ في بحر متلاطم من الحرية. وليس هناك ما يبشر، عند قراءة واقع الحال اليوم، بان الأمور إلى صلاح، فلا فجر جديد منتظر بعد أن نامت كافة القوى التي كان يمكن أن تعين: مجلس داجن، واتحاد لم يوحد، ووزير غير متوجع بهموم المهنة.
***
ويبقى السؤال المُلِحُّ: ما العمل،وكيف يمكن إصلاح الحال بما يرفع المحنةمن كاهل المهنة؟
ولأن القول في ذلك يمكن أن يفيض، فإننا نؤثره مختصراً ملخصاًفيما يلي:
•لا أمل في إصلاح الحال، إلا بمعالجة حكيمة لأمر العلاقة بين الصحافة والأمن. فالرهاب الذي أكثرنا الحديث عنه فيمامضى من الحلقات، والذي اعتبرناه أساسا لتمدد سحابة المحنة الداكنة في سنوات الانقاذ العشرين الأخيرة، إنما هو رهاب يحمل فيروسه الموكولون بأمر الصحافة من أهل الأمن. فمنهم تبدأ كل الخيوط وعندهم تنتهي. ولن يكون ممكناً فك هذا الارتباط إلا بإعادة القراءة للقانون الذي يمنحهم حق إعمال اليد القوية في تعاملهم مع الصحف والصحفيين، على خلفيات مواد دستور البلاد الذي يبشر بحرية الكلمة، وحق التعبير ويؤكد إلزامية مد الصحافة بالمعلومة وإلزامية نشرها على الناس. وليس صعباً هذا الأمر لو أعمل تفسير القانون بما يصلح هذا الحال، فالمواد التي يراها أهل الأمن تبيح ما تبيح في مواجهة الصحافة، ممكن قراءتها على خلفية المواد الدستورية التي ذكرنها، فتصبح الصحافة بتلك المواد مصان فعلها بموجب نصوص دستورية تسمح وتوسع، حتى في ظل نصوص قانون آخر يمنع ويحظر. ولا يلغي بالطبع هذا حق الدولة ، وحق الأمن، في المقاضاة للخروج عن ما لا ينبغي الخروج عليه، وهو أمر مالوف ومقبول تحت كل أشكال الممارسات الصحفية في نظم الحريات.
•ولا أمل في إصلاح الحال، إذا ظلت السلطة تفترض أن كل قلم ليس معها، هو قلم تسود كل كلمة منه نيةٌ سيئةٌ تسعى إليها بالهلاك. فالتجارب المعاشة على مدى السنوات القليلة الماضية تشهد أنه في الوقت الذي توالت فيه كثير من أقلام "المع" بكلام من المدح لا يسمن ولا يغنى، نطقت أقلام (الضد) بما نبه العيون الغافلة، ودفع في اتجاه المراجعة أو التراجع، وهيأ – في المنتهى- لإصلاح الحال. ويكفي أن نقول هنا إن الأقلام التي تكتب اليوم من على البعد، مكنت السلطة– في بعض حالات مشهودة- من الوفاء لمسئولياتها في الانفعال بقضايا الناس والمعاش، وهيأت لها التصدي وحسم الأمور. فماذا إذن، يفيد السلطة أن تظل صحافة الداخل داجنة لا تنطق إلا بما يطرب السلطان، في الوقت الذي يمكن أن تعينها،لو نطقت بلسان النقد الموضوعي الشجاع، في بلوغ المرام؟ إن النظر إلى الصحافة باعتبارها خدمة للوطن لهوأفيد للوطن من رؤيتها خدمة حكم وحكومة.
•ولا أمل في الإصلاح طالما أن الدولة تحيط الصحافة بسياج من المؤسسات المنافسة، التي بها تضيق الخناق، وتقلص الموارد وتنضب المصادر. حتى تحولت ساحة العمل الصحفي ساحة يصعب فيها التنافس الشريف على الخبر، وتغيب عنها الحيوية والبريق. ولا أمل في الإصلاح طالما تمد الدولة يدها لتلتف حول كل الأدوات المساعدة للعمل الصحفي تحصنها بالموالين، ليصعب على غير الموالين البقاء في سوق التنافس الشريف. بل ولا أمل في الإصلاح إذا كانت الصحف المستقلة تدفع دفعاً للموالاة عبر شتى سبل التمكن من صنع القرار.
•ولا أمل في إصلاح الحال، إلا بإعادة النظر في مجلس الصحافة ليتحول من مجلسٍ ضابطٍ باسم الحكومة، إلى مجلس ضابط باسم المهنة. وليس هذا بالأمر الصعب أو المستحيل، ففي البلاد مجالس مهنة عدة، تضبط أمر مهنها بذاتها- رغم سعي السلطات عبر المراحل المختلفة للتدخل في شئونها-.إنه لمن المؤسف حقاً أن تفترض السلطة أن مهنة يمتد عمرها بأكثر من عمر استقلال البلاد، لا تزال في حاجة للرعاية والتعهد، وإنه لمن المؤسف أن تتركز مهام المجلس –رغم تعددها- في الجباية، والرصد والمتابعة وإنزال العقوبات. إن مجلساً تبعد عنه سيطرة الدولة –ما أمكن-، يفيد المهنة في غايتها الكبرى ، ويكسبه احترام الممتهنين لها. ويمكن أن يكون في بعده عن سلطة الدولة القابضة، أقرب في شكل علاقته بالدولة كديوان المراجعة في علاقته بالسلطة التنفيذية. ولا ضير أن يكون الاتجاه نحو الاستقلال من الدولة تدرجاً، بأن يتناقص أعداد المعينين فيه، وأن تنحصر عضويته– في المنتهى- على المهنيين وليس الساسييين.