السودان وقائمة الدول الراعية للإرهاب

 


 

 


أصدرت وزارة الخارجية بياناً على لسان الناطق الرسمي أعربت فيه عن دهشتها بشأن استمرار بقاء  اسم السودان على القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب. ومصدر دهشة الوزارة كما ورد في بيانها هو أن الخارجية الأمريكية نفسها تضع حكومة السودان في موقع متقدم من قائمة الدول التي تتعاون مع الإدارة الامريكية في الحرب ضد الإرهاب على مستوى العالم. وبيان وزارة الخارجية السودانية يكاد يكون ممارسة سنوية كما هو الحال بالنسبة للإعلان الأمريكي عن قائمة الدول الراعية للإرهاب ، فقد ظل الأمر يتكرر لأكثر من عشرين عاما ، منذ أن تم وضع السودان على القائمة في عام 1993. يوحي ذلك دون أدنى شك بأن الجهود لتجاوز الخلافات المتبقية بين البلدين حول مسألة دعم الإرهاب أو غيرها تتقدم ببطء شديد إن لم نقل أنها لا زالت تراوح مكانها. يشير بيان الخارجية إلى "تناقض بائن" في موقف الحكومة الأمريكية التي تعترف بتعاون حكومة السودان التام في مجال مكافحة الإرهاب بينما تصر على وضعها في قائمة الدول الراعية للإرهاب. غير أن دراسة متمعنة لبيان الخارجية الأمريكية قد يزيل سبب هذا العجب ويفتح الطريق نحو وسائل جديدة للتعامل مع هذا الملف المهم.
يشير تقرير الخارجية الأمريكية الصادر في 15 يونيو الحالي إلى عدة أسباب وراء وضع اسم السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب من بينها أن أفراداً من تنظيم القاعدة لا زالوا ينشطون داخل البلاد بالرغم من العقبات التي تحاول الحكومة السودانية أن تضعها أمام هذا النشاط ، وهو أمر يمكن أن يكون في اعتقادنا مجالاً لتجاوز الخلاف بين الطرفين إذا أحسنت الحكومة السودانية استغلال القلق الأمريكي حوله والاعتراف بالجهد الذي تبذله الحكومة السودانية. كما أشار التقرير الأمريكي إلى هروب عدد من المتهمين في حادثة مقتل الدبلوماسي الأمريكي جون غرانفيلد التي وقعت في ليلة رأس السنة من عام 2008 ، مؤكداً أن المتهم الوحيد الذي حكم عليه بالاعدام لا زال في سجن كوبر بينما تستمر الإجراءات القضائية المتعلقة بالاستئناف الذي تقدمت به هيئة الدفاع حول الحكم. من جانب آخر ، أشار تقرير الخارجية الأمريكية لاحتجاج السفارة الامريكية بالخرطوم على قرار العفو الذي صدر بحق أحد المتهمين بمساعدة قتلة غرانفيلد على الهروب من السجن قبل أن يتم اعتقال بعضهم لاحقاً وإعادتهم للسجن مرة أخرى. ومع أن تقرير الخارجية الأمريكية لا يتهم الحكومة السودانية صراحة بالتساهل مع الإرهابيين إلا أن ذلك يمكن قراءته بين السطور. كما يشير التقرير إلى أن عدداً من منتسبي منظمة حماس التي تدمغها الحكومة الأمريكية بالارهاب يتخذون من السودان مقراً لممارسة نشاطهم ،  وأن السلطات السودانية تسمح لهم بممارسة بذلك في المجال السياسي بما في ذلك جمع التبرعات.
يستشف من بيان الخارجية السودانية الإحساس بأن الحكومة الأمريكية تستهدف السودان لأسباب لا علاقة لها بدعم الإرهاب. وقد لا يجانب هذا القول الحقيقة ، غير أن الاستهداف أو لنقل التدافع هو سنة من سنن العلاقات الدولية ، والدبلوماسية الناجحة هي التي تستطيع أن تدرك هذه الحقيقة وتتعامل معها بواقعية من أجل الوصول إلى أهدافها. ممارسة العلاقات الدولية كما هو معلوم لا تحكمها المثاليات وحسن النية فهي تتسم بالواقعية وتحركها المصالح ، وتقوم على استغلال كل دولة لمصادر قوتها لتحقيق ما تصبو إليه على الساحة الدولية. وفي الحالة التي نحن بصددها نستطيع أن نخلص إلى أن الحكومة الأمريكية نجحت في الحصول على تعاون حكومة السودان في حربها المعلنة ضد ما تسميه بالإرهاب الدولي ، بينما يظل سيفها معلقاً على عنق الحكومة السودانية بعدم شطب اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
 يؤكد ذلك بالطبع أن على الخارجية السودانية أن تراجع استراتيجتها التفاوضية حول الموضوع بما يحقق أهداف الحكومة من العملية برمتها دون التفريط في التزاماتها القومية أو مصالحها الوطنية. لا يمكن الإدعاء بأن ذلك من الأمور السهلة فقد أثبتت تجربتنا في التعامل مع الولايات المتحدة منذ أيام مواقفنا الثورية في تسعينات القرن الماضي أن للقوة المادية دور مهم للغاية في العلاقات الدولية ، لذلك فإن على الخارجية السودانية أن تعمل من أجل استغلال مواقع القوة التي تتوفر للسودان بما يدعم موقفها في مواجهة الولايات المتحدة وغيرها من اللاعبين على الساحة الدولية. وهذا الأمر يحتاج ولا شك لأن تقوم الحكومة السودانية  بمراجعة الكثير من مواقفها المحلية ، فالسياسة الخارجية كما هو معلوم ليست إلا مرآة صادقة للأوضاع الداخلية لأي دولة من الدول.
ظل السودان على القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب لأكثر من عشرين عاماً كما أشرنا أعلاه ، وهي فترة كافية في اعتقادنا للتوصل لاتفاق حول الأمر بين الطرفين إذا ما اتبعت الوسائل المناسبة والجهود الجادة التي يمكن أن تقود لذلك. وحتى إن كان الطرف  الآخر هو الذي يبدي الكثير من التعنت في هذا الأمر كما تقول الحكومة السودانية ، فقد كان من الواجب أن تسعى الحكومة السودانية لإيجاد البدائل المناسبة التي تجعلها في غنى عن أصدار مثل هذه البيانات السنوية. فالسودان كما هو معلوم ليس الدولة الوحيدة على القائمة المذكورة ، ولا يتوفر لدينا من المعلومات ما يشير إلى أن الدول الأخرى تصدر بيانات مماثلة. بل إن المراجع لموقع وزارة الخارجية الكورية الشمالية مثلاً على الانترنت قد لا يحس بأن هناك مشكلة حقيقية بينها وبين الحكومة الأمريكية بالرغم من أن كوريا الشمالية ربما كانت الدولة الوحيدة التي أعيدت للقائمة بعد أن كانت قد رفعت عنها في أكتوبر 2008. ولئن جاز لنا أن نقترح ، فربما كان من الخير لنا أن نستلهم التجربتين الكورية والكوبية في التعامل مع حقيقة وجودهما على القائمة مع الأخذ في الاعتبار الفوارق الواضحة بين الحالة السودانية والحالتين المذكورتين.
فضلاً عما ذكرناه حول التجربة الكورية فقد تمكنت الحكومة الكوبية من استغلال الرغبة الأمريكية التي أعرب عنها الرئيس أوباما بشأن إعادة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها فعبرت عن استعدادها التام لتطبيع العلاقات بالرغم من العداء الطويل بينهما. ومع أن الحكومة الكوبية أبدت مرونة واضحة من أجل دفع عملية التطبيع بين البلدين وذلك بمراجعة العديد من السياسات التي كانت لا تروق للطرف الآخر ، إلا أنها وضعت على رأس أولوياتها موضوع إزاحتها من قائمة الدول الراعية للإرهاب كوسيلة لتسريع عملية التطبيع ، وكان للحكومة الكوبية ما أرادت.  أزيح اسم الحكومة الكوبية من القائمة بتاريخ 29 مايو الماضي بعد أن ظلت عليها منذ عام 1982 ، وقد كانت كوبا كما هو معلوم من أوائل الدول التي وضعت على القائمة التي بدئ لعمل بها في نهاية عام 1979.
mahjoub.basha@gmail.com
//////////

 

آراء