إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي: رؤية زكي نجيب محمود. بقلم: بروفيسور عبدالرحيم محمد خبير

 


 

 

 

  إحتلت قضية الأصالة والمعاصرة حيزاً كبيراً في ساحة الفكر العربي منذ بواكير النهضة العربية الحديثة. ويعتبر الفيلسوف المصري الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود أحد أبرز من طرحوا هذه المسألة بصورة جدية. وربما كان أول من طرح قضية الثنائية الثقافية أو الحضرية وهي إحدى ثنائياته التي إشتهر بها على شاكلة "الأصالة والمعاصرة". وكتب في هذا الموضوع قائلاً" إن قضية الجمع بين الأصالة والمعاصرة ومعايشة العصر كانتأهم ما تعرض له  من إهتمامات التفكير والكتابة إذا قدر له أن يستعرض حياته الفكرية من أولها لآخرها"(صحيفة الحياة اللندنية1992م ،العدد10707ص:16).. وهى قضية أسماها قضية المسلم الجديد أي المسلم الذي يؤدى فرائض دينه غير أنه يسعى في ذات الوقت إلى قوة العلم في أحدث صورة مواكبة للعصر الذي يعيش فيه. ولا شك أن هذا التوجه يتوافق ودعوة ديننا الإسلامي الحنيف الذي يستحث الإنسان للسعي الدؤوب في البحث والتقصي واستقراء آيات الكون التي خلقها الله سبحانه وتعالى، ثم ليندفع صوب التغير والتطور والإرتقاء وهى عملية ترتبط كل الإرتباط بعجلة الحياة ودورتها المتصلة. وبما أن العلوم والتقانات تتجدد عبر الزمن فالأمر يحتم على الإنسان مواكبة تطوراتها وتجددها وذلك عبر البحث المستمر لإدراك بعض هذا التقدم المعلوماتي والتقني عملا ًبقول رسولنا الكريم "أطلبوا العلم ولو في الصين" وقوله "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها" . ثمة إشارة هنا، وهى أن إشكالية الفكر العربي المعاصر تتمثل فيمشكلة الإختيار بين النموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والعلوم والثقافة .....الخ وبين "التراث" بإعتباره يقدم نموذجاً بديلاً وأصيلاً يغطي جميع مناحي الحياة المعاصرة. وكما هو معلوم، فإن التراث ما يخلفه الإنسان لورثته وأصله ورث أو وراث أوميراث. فأبدلت الواو تاء فصارت "تراث". ويقول علماء العربية إن الورث والميراث في المال بينما الإرث في الحسب مما يشير إلى الموروث الثقافي. وكاتب هذه الأسطر يميل إلى رأي ابن خلدون في تعريف التراث ومؤداه " أن التراث حالة للإنسان بطبعه من حيث هو عالم وصانع وفاعل. عالم بما يكشف عنه من معرفة وحقائق، وصانع لكل أداة لمعرفة الأشياء والطبيعة، وفاعل بما يصدر عنه من سلوكيات وأفعال بما فيها من خير أو شر". وعطفاً على ما تقدم ، تصنف المواقف إزاء الإختيار بين الأصالة والمعاصرة إلى عدة أنماط أبرزها ثلاثة رئيسة وهى: مواقف عصرانية تدعو إلى تبني النموذج الغربي المعاصر بوصفه نموذجاً للعصر كله أي النموذج الذي يفرض نفسه تاريخياً كصيغة حضارية للحاضر والمستقبل. مواقف سلفية : تدعو إلى إستعادة النموذج العربي - الإسلامي كما كان قبل عصر "الانحطاط" أو "الانحراف" أو على الأقل الإعتماد عليه لبناء نموذج عربي - إسلامي أصيل يقتبس من النموذج الغربي وفي نفس الوقت تكون لديه حلوله الخاصة لمستجدات العصر. وثمة موقف ثالث إنتقائي: يدعو إلى الأخذ بأفضلما في النموذجين المذكورين أعلاه والتوفيق بينهما في صيغة واحدة تتوفر لها الأصالة والمعاصرة. ونوه محمود في مؤلفه الموسوم ب"تجديد الفكر العربي1982م،دار الشروق ،بيروت) إلى أن المثقفين العرب إختلفوا إختلافاً جلياً إزاء المواقف من التراث. فمنهم من يقبل الغرب كله والتراث كله كما فعل العقاد ومنهم من يقبل الغرب كله وبعض التراث دون بعض كما فعل طه حسين. ومنهم من يقبل التراث كله وبعض الغرب دون بعض، كما صنع الإمام محمد عبده، ومنهم من يجري تعديلاً في التراث وفي الغرب معاً، كما قام بذلك أحمد أمين وتوفيق الحكيم. ومنهم من يكاد يرفض الجانبين معاً، فلا هو قد تعلم شيئاً من التراث العربي ولا هو يرضى بقبول الثقافة الغربية خوفاً من أن يقال عنه أنه من أذيال الإستعمار.وأمثال هؤلاء – والكلام لا يزال لمحمود – نراهم هذه الأيام بكثرة بين كتاب الشعر والقصة المسرحية، ومن هنا سر سطحيتهم. ولكن من هنا أيضاً سر الإبداع الذي يحاولونه ولو بدرجة طفيفة!. وكان السؤال المقلق للدكتور زكى نجيب محمود كيفية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة في التراث العربي أو على حد تعبيره نصاً وحرفاً في مؤلفه السالف الذكر :"كيف السبيل إلى دمج التراث العربي القديم في حياتنا المعاصرة لتكون لنا حياة عربية ومعاصرة في آن ". وأبان أن المشكل الرئيسي في الثقافة العربية أنها "ثقافة لفظ" ولا بد من تحويلها إلى "ثقافة علم وصناعة" وأن الإهتمام بتراثنا بغية المحافظة على هويتنا لا تكمن في وجود الكتب المحتوية على هذا التراث وإنما الأمثل هو أن تتحول عن طريق ثقافاتنا إلى وجهة نظر حية تدفع صاحبها في مسارب الحياة اليومية العملية، سيما وأن كل خطوة يخطوها الإنسان تكمن وراءها خلفية فكرية استمدها من التقاليد بالتربية أو من الدراسة بالتعلم أو إستمدها من التأمل النظري الذي يتحول إلى عمل تطبيقي. ومن الملفت للإنتباه أن مفهوم زكى نجيب محمود الإحيائي للتراث يتماهى ورؤية المفكر المغربي محمد عابد الجابري (أنظر كتابه: نحن والتراث. قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي 1987م ) فكلاهما لا يعارض إحياء التراث من أجل الحفاظ على الهوية والجذور، بمعنى أنه وسيلة لتأكيد الذات وبعث الثقة فيها. لكن يجب أن نضع في أذهاننا أن هذه القراءة الإحيائية للتراث تكون فقط مشروعة - على رأى هذين المفكرين – عندما تكون جزءً من مشروع النهضة وليست مشروع النهضة نفسها حتى لا تعطى فهماً تراثياً للتراث. بمعنى أن التراث يكرر نفسه فيها فيحتويها ولا تستطيع أن تحتويه. ويشير الدكتور محمود ( جريدة الشرق الأوسط، 13/3/1985م:18 ) إلى أن الوضع القائم في العالم العربي بين التراث والمعاصرة ليس صراعاً. فالصراع يحدث لو أن كلاً من الطرفين كان يريد أن يتفرد وحده بالميدان لكن هذا يندر وجوده بين المثقفين العرب. ويكاد يكون هناك إجماع على الإحتفاظ بالتراث العربي مع الأخذ من الحضارة الغربية ما يفيد ويتناسب والشخصية العربية. ويشير محمود إلى أن كثيراً من التراث العربي يستحق القراءة والتأمل ولكن السؤال المهم الذي طرحه في وصفته العلاجية لأمراض الفكر العربي هو: ماذا نقرأ ونأخذ من التراث؟. ويجيب عن هذا السؤال بالقول أن ما يجب أخذه من التراث هو ما نستطيع تطبيقه اليوم عملياً، فيضاف إلى الطرائق الجديدة المستحدثة، فكل طريقة للعمل استحدثها القدماء وجاءت طريقة جديدة أنجح منها تستوجب إطراح الطريقة القديمة ووضعها على أرفف الماضي. ويؤكد على أن ثقافة الأقدمين هي وسائل عيش وقيم سلوكية، فإذا كان لدى أسلافنا طرائق تفيدنا في معاشنا الراهن وسلوكياتنا أخذناها. فهذا هو الجانب الذي يجب أن نحييه من التراث. وأما ما لا ينفع الناس بصورة عملية تطبيقية فهو الذي نتركه غير آسفين. ونستخلص من ذلك أن الثقافة في رأى هذا المفكرممارسة وليست تنظيراً. فنحن نعيش ثقافتنا في كل تفاصيل حياتنا مثل الميلاد والموت والزواج وطريقة إكرام الضيف .....الخ ويحدث ذلك حين تكون الثقافة –على حد تعبير أحد المثقفين العرب – منسابة في عروق الناس مع دمائهم، فتصبح حياتهم هي ثقافتهم وثقافتهم هي حياتهم. وتبرز المشكلات عندما تحدث الفجوة وتتسع بين الثقافة السائدة من جهة ومواقف جديدة من جهة أخرى تتطلبها حياة جديدة لم يألفها الناس. ولعل أكبر هذه المشكلات مسألة الدخول في عصر العلم والتكنولوجيا. فما يستحق كلمة "معرفة" الآن يختلف تماماً عن الماضي. فالمعرفة حالياً هي أجهزة تقنية بالغة الدقة لقياس الإنتقال وضبط الإتجاهات والصوت والضوء وتحريك الصواريخ......الخ. فإنسان هذا العصر انتقل من معرفة اللفظ أو حضارة اللفظ – على حد قول زكى نجيب محمود – إلى حضارة الأداء. فعبقرية العرب كانت دائماً في لسانها. فاللغة العربية لم تكن أداة للثقافة فحسب بل كانت الثقافة نفسها. فمشكلة أهل العربية الآن كيفية الإنتقال من ثقافة اللفظ إلى ثقافة الفعل والأداء. ويتحسرزكى نجيب محمود على الواقع العربي الراهن برغم أن التراث العربي – كما يقول – ملئ بالخامة الولود التي يمكن أن نتخذ منها محوراً لموقف أصيل من القضايا الإنسانية الكبرى الراهنة. ولكن مما يؤسف له أن الإنسان العربي لا يزال أحد فردين، فإما ناقل لفكر غربي وإما ناشر لفكر عربي قديم، فلا الناقل في الحالة الأولى ولا الناشر في الحالة الثانية يصنع فكراً عربياً معاصراً لأنه في الحالة الأولى سيفقد عنصر "العربية" وفي الحالة الثانية سيفقد عنصر"المعاصرة". والمطلوب خلق الفكر العربي الجديد سواء عبر المكان نقلاً من الغرب أو عبر الزمن أخذاً من العرب الأقدمين.ويخلص محمود إلى أن وقفة الفنان العربي التي وقفها وهو يبدع فنه الهندسي في النوافذ والشرفات وعلى جدران المنازل ومنابر المساجد ومآذنها، هذه الوقفة الرياضية الدقيقة المحكمة هي التي هندس بها الشاعر تفعيلاته وقوافيه، وهي ذات الوقفة التي وقفها المتصوف العربي حين رأى في فردية ذاته ومجسد خبراته حقيقة الكون في تجردها وشمولها وفي الفرد الواحد الإنسانية جمعاء. ولا ريب أن هذه الوقفة هي التي نراها مجسدة في تراثنا من عقيدة وأدب وفن وفكر. وهي التي يدعو هذا المفكر العضوي إلى أن تكون الوقفة التي ينظر من خلالها المثقف العربي إلى قضايا الإنسان المعاصر، فتنتج له ما يجوز أن يسمى- بحق – الثقافة العربية المعاصرة. لا ريب أن رؤية زكى نجيب محمود التجديدية تدعو العالم العربي للعمل بجد وإجتهاد للّحاق بركب العلم والمعلوماتية مواكبة للتقدم الحضاري الذي يقوده الغرب.بيد أن ما لم يتناوله محمود في هذا المشكل هو الآلية الموضوعية التي يجب تبنيها للمزاوجة الإيجابية بين الأصالة والمعاصرة.وفي تصوري إنالتوفيقية بين هذين المفهومين ليست في تبني مواقف وأفكار من التراث ودمجها في حياتنا    المعاصرة ومن ثم نعمل على تسويغ بعض قيم الحاضر بإضفاء غطاء تراثي عليها،إنما التوفيقية تكمن في كيفية التعامل بشكل موضوعي مع "الأصالة والمعاصرة ".لذا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا:"كيف ولماذا تستل مواقف وأفكار بعينها من التراث دون سواها للتعامل مع الراهن؟.ولعل الإجابة المثلى هي: لطالما إننا بصدد إستلهام إيجابيات من التراث تتساوق وحياتنا الآنية،فإن ذلك يستلزم إعادة قراءته بآلية(مناهج) علمية عصرية كالبنيوية واللسانية والتأويل الثقافي...الخ ،لأن المعاصرة إحساس عميق يستوجب تبني روح العصر والنفاذ منه إلى رؤية جديدة قادرة على إستشراف المستقبل.ف"المعاصرة " كمصطلح أو مفهوم يجمع معاً ما هو زمني وماهو قيمي.لذا فإنها على رأي العديدين-وهم محقون- هي فهم الزمن الحاضر والإستجابة العميقة له والوقوف من العصر موقفاً فاعلاً وإيجابياً والتبشير دوماً بإشراقة المستقبل القادمة.     ولقد أدت المفاهيم التقليدية للأمة إلى غياب الرؤية التاريخية لنظام العلم في جوانب حياتها المختلفة. فإنزلقت المؤسسات التعليمية العربية والإسلامية إلى إتجاه المحاكاة والتقليد والقفز إلى نهايات العلوم ومن دون وجود أرضية يرتكز عليها للإستفادة من هذه النهايات ودون أن يكون لذلك صلة بالواقع الإجتماعي والإقتصادي . وأسميت هذه النزعة – حسب مقولة أحد المفكرين العرب – بـ "العلموية". وأصبحت تشكل جزءً من عقلية النخبة المتعلمة والمتخصصة في العالمين العربي والإسلامي وإذا أضيفت إليها نزعة المجتمع من خلال إستيراد أحدث ما أنتجته أسواق التكنولوجيا من أجهزة ومعدات وأنظمة مع التجاهل التام للأسس الفكرية – الفلسفية التي إرتكزت عليها هذه الإنجازات العلمية التي كانت – في كثير من جوانبها – حلولاً لمشكلات غربية ذات تطور تاريخي مغاير وواقع يباين واقعنا، فإننا نعمل دون وعي على تغييب الرؤية التاريخية لسيرورة التطور   الصناعي مما يفضي بنا إلى العجز عن توظيف  الفكر في استقصاء المضامين العلمية للظواهر الإنتاجية وظواهر المجتمع من خلال آليات العلم والتكنولوجيا. ومهما يكن من شأن، لا بد من الأخذ بأسباب العلم والمعلوماتية التي دعي إليها الفيلسوف الرائد زكى نجيب محمود أياً كان مظانها مع الحفاظ على ثوابتنا العقدية والتمسك بموروثاتنا الثقافية التي تتواءم وروح العصر. ولا مشاحة أن تجارب بعض البلدان التي كانت حتى القرنين الماضيين تشابه العالم العربي واقعاً حضارياً وارتقت إلى مصاف الدول المتقدمة (اليابان والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة) لجديرة بالإقتداء والتقبيس. فهلا شمرنا عن سواعد الجد لإستعادة أمجاد أسلافنا الذين كانوا حداة ريادة فكرية وعلمية للإنسانية جمعاء، نأمل ذلك واللــه المسـتعان.          

khabirjuba@hotmail.com

 

آراء