دور الجامعات في الدول النامية والمتقدمة

 


 

 

بروفيسور عبدالرحيم محمد خبير

 عميد كلية الدراسات العليا بجامعة بحري

      نشر البروفيسور ستانلي فيش بجامعة ستانفورد الأمريكية مقالاً بمجلة   policy Review  عدد أغسطس/سبتمبر2008م وجه فيه إنتقادات حادة لمؤسسات التعليم العالي ولأساتذتها الذين يدعون-والكلام لستانلي فيش- أن بمقدورهم معالجة سائر مشاكل الحياة وكافة نوائبها وأن دورهم – كما يزعمون – لا يقتصر على محاربة الجهل العلمي والثقافي والأمية بل يتمدد لمحاربة العنصرية والحروب والتفرقة وعدم التسامح وتلوث البيئة ومخازي الرأسمالية والإمبريالية، ...الخ هذه الدعاوى العريضة والأهداف المفرطة الطموح.       ويزعم البروفيسور فيش – كما أورد الأستاذ بدر الدين الهاشمى(أنظرمقاله: "ياأيها البروفيسور قم بواجبك" موقع سودانايل 4/9/2013م)– أن الجامعات تتصدى لمهام ليست من إختصاصها وأن مهمة مؤسسات التعليم العالي (الجامعات والمعاهد العليا) القيام بشيئين لا ثالث لهما هما: أولاً تعريف الطلاب بجملة من المعارف والتقاليد البحثية التى لم تكن جزءً من تاريخهم السابق، وثانياً: تزويد الطلاب بمهارات تحليلية (مثلاً فى المناظرات والتجارب العلمية والطرق الإحصائية) لتمكنهم من القيام بأبحاث مستقلة في مقبل أيامهم. وحذر البروفيسور "فيش" أساتذة الجامعات من الدفاع عن آراء شخصية أو سياسية أو أخلاقية وأن لا يعلنوا عن أي نوع من الآراء غير الأكاديمية حتى لا تنحرف الجامعة عن وظيفتها في التدريس والبحث العلمي.       وأبان الهاشمى – وهو محق فى ذلك – عدم تفهمه لآراء الأستاذ الجامعى الأمريكى سيما وأن آرائه تتناقض والدور المنوط بالجامعة سواء فى العالم النامي أو المتقدم .ولاريبأن رسالة الجامعة فى الوقت الحاضر بالغة الأهمية فى حياة الأمم والشعوب عبر مراحل التطور الإقتصادى والإجتماعى. ويجمع المخططون الإستراتيجيون أن للجامعة ثلاث وظائف رئيسة، أولها: تقديم المعرفة من خلال التدريس وتزويد الطلاب بالمهارات فى مختلف العلوم لتحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية الشاملة. وتتمثل الوظيفة الثانية فى إضطلاع الجامعة بدورها فى البحث العلمي على المستوى النظرى والتطبيقي والعمل على تطوير المعرفة الإنسانية. ولعل أهمية البحث العلمى تنبع من مساهمة الجامعة فى التشخيص الموضوعى لمشكلة تأخر التنمية الإقتصادية والإجتماعية. أما الوظيفة الثالثة فإنها تكمن فى خدمة المجتمع والقيام بالدور التثقيفى والإرشادى والمشاركة فى تقديم الخدمات الإجتماعية والتوعية العامة وتدعيم الإتجاهات الإجتماعية والقيم الإنسانية الإيجابية.       وبالرغم من أن هذه الوظائف الثلاث متصلة بعضها ببعض ومترابطة بشكل وثيق بحيث أن أي خلل فى إحداها يؤثر سلباً فى الوظيفتين الأخريين، إلا أن ذلك لا يعني أن رسالة الجامعة – كما يستبان من وظائفها الرئيسة – تتماهى فى كل بلدان العالم. فثمة دور للجامعة فى البلدان النامية مخالف إلى حد كبير عن دورها فى البلاد المتقدمة. فالجامعة فى البلاد النامية جزء من تاريخ نضالها الوطني. ونشأت المؤسسات الجامعية فى بلدان العالم الثالث مع ظهور الحركات الوطنية التى كانت تناضل من أجل الإنعتاق من ربقة الإستعمار الأروبى. ولا يعنى العمل الوطني المباشر للجامعات – على رأي المفكر المصرى الدكتور حسن حنفى وهو في تقديري لم يحيد عن الصواب – الإلتزام بإختيار السياسي للأمة، لكنه يعنى توجيه السياسة التعليمية على أساس وطنى من خلال العِلْم الوطني، الثقافة الوطنية والعمل الوطني.       فالعِلْم الوطني فى بلد نامٍ يعنى الربط الحضاري الوثيق بين العلم القديم والعلم الجديد وهو ما تفعله البلاد المتقدمة على مستوى تاريخ العلم، لأن وجودها قد ثبت، وليست فى حاجة لإثبات وجودها باثبات فكرها. لذلك إستوجب على الجامعات فى البلاد النامية تأصيل العلم، فبإمكاننا مثلاً التركيز على تاريخ الرياضيات فى تراثنا العربى –الإسلامى القديم عند الخوارزمي والرازي وثابت بن قرة لتطوير النظريات القديمة والقاء مزيد من الأضواء عليها إستناداً إلى ما وصلت إليه الرياضيات الحديثة.وبوسعن أن نفعل ذلك أيضاً في الطبيعة (الفيزياء) عند إبن الهيثم أو الخيام أو فى الكيمياء عند جابر بن حيان أو عند الكندي. ولا يعنى ذلك البتة الإنكفاء على الذات وتفضيل التراث المحلي على العلمي بقدر ما يؤمي إلى ربط الجديد بالقديم حتى تتحقق وحدة الحضارة وتجانسها المكاني .ولا يعني معرفة القديم لمجرد العلم به كجزء من ماضٍ آفل، أو للتشبث به باعتباره تراثاً وطنياً كتعويض معنوي عما نحن فيه من حاضر بئيس. فالهدف الأسمى أن يدرس طالب الجامعة سيما فى بلداننا النامية العلم كما يدرسه العلماء. فكثير ما أتت الإكتشافات الحديثة فى بعض التخصصات من بعض التصورات والإفتراضات والنظريات القديمة، فكما أن التاريخ يعيد نفسه، فالعلم أيضاً يعيد نفسه.       أما الثقافة الوطنية فهو تواطؤ المواطنين وبوجه خاص أهل العلم والثقافة على الحد الأدنى من المبادئ والأهداف التى تشكل خارطة طريق للنهوض الحضاري. فوحدة الأمة فى البلدان النامية تنبع فى الأساس من قدرتها على تحديد معالم هويتها الثقافية والحضارية. فالوحدة الثقافية هى الضمانة الكافية لإرتباط المواطن والمثقف (الجامعي) بالأرض وبملايين الشرائح المجتمعية من الفقراء والمعدمين والعمل على تقريب الفوارق الجهوية والطبقية وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الخاصة (الجهوية والفئوية والشخصية). فالجامعة فى البلدان النامية هى المسئولة عن رتق النسيج الإجتماعي والمساهمة فى خلق الثقافة الوطنية الواحدة من خلال مناهجها المرتبطة بتراث وقضايا المجتمع ومن خلال الدور التوعوي الذي تقوم به عبر المنتديات والمؤتمرات واللقاءات الشعبية. وأهم من كل ذلك تعمل الجامعة على بث الروح والثقافة الوطنية من خلال خريجيها بغرض تحديد خصائص الأمة وثقافتها الجامعة التى تشكل الأساس لوجودها وشخصيتها القومية.       أما دور الجامعة فى تسنم قيادة العمل الوطنى فقد إرتبط فى كثير من الدول النامية بتاريخ نشأة هذه المؤسسة ومعاصرتها للحركات الوطنية، فأصبحت الجامعة تعبيراً عن الإستقلال الوطني والتحّرر الإجتماعى ودعوة للحياة الديمقراطية السليمة.      فالطالب الجامعى فى البلدان النامية بعكس نظيره فى الدول المتقدمة والتى ترسخت فيها القيم الديمقراطية فى كل أوجه الحياة،يهتبل فترة الدراسة الجامعية لممارسة العمل الوطنى حيث تتوفر البيئة المناسبة للمناقشة الحرة وعرض وجهات النظر وإمكانيات التعبير عن النفس. ويصبح بمقدوره تحويل ما درسه نظرياً إلى تطبيق عملى، فيتحول العمل الوطنى لديه إلى تحقيق للذات وإلى التصاق أكثر بالواقع المعاش. وقد كان العديد من مفكري الغرب فى عصر النهضة الصناعية الأروبية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من أساتذة جامعاتها وخريجيها الذين وضعوا خارطة الطريق لثقافتها الوطنية المرتجاه.        وإستناداً إلى ما تم إيراده آنفاً، فإن دور الجامعة فى البلدان النامية يتعاظم ولا يقتصر على التدريس والبحث العلمي. فهذان الهدفان الرئيسيان لوظيفة الجامعة يمثلان العناصر الكلاسيكية لرسالتها المتمثلة فى المسائل الأكاديمية فقط. وأصبحت هذه العناصر ليست مناسبة إطلاقاً لمواكبة العصرنة والتعاون المطلوب بين قطاع التعليم العالى وباقى القطاعات المجتمعية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن زعم البروفيسور ستانلي فيش لا يستند على أساس متين حتى فى بيئته الغربية المتقدمة حيث ترتبط المناهج التعليمية والتدريبية بواقع القطاعات الإنتاجية وما تواجهه من مشاكل ومعوقات.      ويشير العديد من أهل الإختصاص أن نجاح الخطط التنموية يتوقف على فعالية التخطيط لتنمية الموارد البشرية سيما وأن العنصر البشري وما يمتلكه من طاقات خلاقة يعتبر عاملاً لا يقل أهمية عن رأس المال، بل هو الأساس فى عملية التنمية، باعتباره عنصر الإنتاج الأول. وهذا ما أكدته دراسات عديدة فى الدول المتقدمة صناعياً.لذا فإن ما تقوم به الجامعات وبخاصة فى دول العالم الثالث من إجراءات القبول وتوفير التخصصات المواكبة لحركة التنمية وتقديم الخدمات الثقافية والإجتماعية والإرتباط بالقضايا المصيرية للأمة يجسد بالتأكيد دور الجامعة فى الدول النامية والذي يتجاوز تزويد الطلاب بحزمة من المعارف النظرية والمهارات العملية إلى علاقة عضوية وثيقة العُرّى بالمجتمع.والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل(من أرشيف الكاتب).          

khabirjuba@hotmail.com

 

آراء