رغم أن صدور الكتب السودانية من القاهرة أو أماكن أخرى خارج السودان أصبح أمرا مألوفا وعاديا لا يثير استغراب السودانيين أو يستوقفهم إلا أنني وجدت نفسي أتوقف وأتساءل عن مغزى صدور هذه السيرة المفكِّرة بالذات خارج السودان. هذه السيرة ما كان في الراجح الغالب من الممكن أن تصدر في السودان حتى لو كتبها المؤلف في وطنه، لأن واقع فقدان الحرية لا يسمح بذلك. وهكذا ومنذ الوهلة الأولى تصبح هذه الواقعة البسيطة وحتى قبل أن يدخل القارىء عالم الكتاب جزءا من قصته، فمُفْردة الحرية التي تَرِد في العنوان لا تتعلق بالمؤلف فحسب وإنما بالوطن أيضا.
هذه السيرة كتبها حيدر إبراهيم علي وقد اجتمعت عنده من "خير الدنيا" (التعبير مستعار من الكتاب ويأتي في صدر الفصل الأخير) بصيرة المفكر، وخبرة الأكاديمي العالِم، وحساسية صاحب الذائقة المنفتح على الشعر والموسيقى، ووجدان الوجودي المبتلى بخيار الحرية، والتزام المثقف المسكون بهموم وطنه.
كان للكاتب المصري التقدمي سلامة موسى أثر حاسم في التشكيل المبكر لوعي حيدر (مثلما كان له نفس الأثر على وعي الكثيرين بما في ذلك كاتب هذه السطور). وكان لكتابين من كتب سلامة موسى أثرهما الخاص على حيدر مما جعله يعتبره "أباه الروحي" وهما كتاب تربية سلامة موسى وكتاب هؤلاء علموني، اللذان يتحدّث فيهما عمّن أثّروا على تكوينه الفكري. وعنوانا كتابي سلامة موسى هذان يلخصّان إلى حد بعيد الموضوعين الأساسيين اللذين تركّز عليهما سيرة حيدر وهما تربيته ومن علّموه بشكل مباشر أو غير مباشر.
(2)
وتعليم حيدر لا يختلف عن تعليم كل طفل في أنه يبدأ من بيته وبيئته المباشرة، إلا أن البيئة المباشرة في حالته كانت بيئة ذات خصوصية إذ أن عمل والده في الشرطة أو البوليس عنى نشوءه في مساكنها. ويقول عن تلك الفترة متأملا ومقيّما: "انتميت في سن مبكرة للعيش في الإشلاق (أو القشلاق)، وكان لحياة الإشلاق بصماتها القوية والخالدة على شخصيتي، وعلى تكويني النفسي والروحي مستقبلا. فقد حظيت بحب وود يصلان حد التدليل المحبب أو اليقظ، وليس المفسد. فأنا لم أتعلم الاشتراكية من الكتب، فقد عشتها عمليا، ثم بحثت عنها، لاحقا، فكريا ونظريا، وليس العكس" (ص 15). وعندما دخل المدرسة نشأت بينه وبين القراءة علاقة انجذاب وانبهار وثيق عبّر عنه بقوله: "أحسست مبكرا بوجود سحر في الحروف والكلمات ... وكانت الحروف تبدو لي كمفاتيح تدخلك لعوالم مسحورة وبلا خوف منها لأنك تملك أعنة المعرفة وتعرف ما هي" (ص 67). وهذا الانجذاب للقراءة والتعلّق بها الذي يفتح للإنسان الأفق الفسيح لامتلاك "أعِنَّة المعرفة" وضع في يد الصبي اليافع المفتاح للانطلاق في طريق موازٍ لطريق التعليم النظامي، طريق ما يوصف عادة بالتثقيف الذاتي. وفي حالة حيدر فقد كان محظوظا إذ أن صدف الطريق حولّت مغامرة التثقيف الذاتي لمشروع أكبر من مجرد زيادة معارفه لتصبح المغامرةُ مشروعَ تحوّل ذاتي جذري وبداية رحلة لا تزال تتواصل مسيرتها.
وعندما اكتشف سلامة موسى انفتح وعيه في الحال على قضايا مثل "الحرية، والاشتراكية، وحقوق المرأة، ونظرية التطور" (ص 83). وبمثل هذا التشبّع والاستعداد، كان من الطبيعي، عندما حانت لحظة الانتماء السياسي، أن ينتمي لليسار ويصبح وهو طالب في المرحلة الثانوية عضوا في الجبهة الديمقراطية وينفتح على الماركسية.
كان الأثر الأول والمبكّر على تكوين حيدر هو الأثر المصري بزخمه الآتي عن طريق المجلات المصرية وباقي المطبوعات من روايات وكتب غير روائية بالإضافة للإذاعة وللأفلام المصرية. إلا أن الأثر الغربي كان حاضرا وقويا منذ فترة مبكرة أيضا. فإن كانت مصادر سلامة موسى في حديثه عن نظرية التطوروشارلس دارون والاشتراكية التي تعكس أثر برنارد شو والمدرسة الفابية مصادر تعكس الأثر البريطاني، وإن كانت الماركسية تعكس الأثر الألماني، فقد دخل تكوينَه أثرٌ فرنسي أيضا هو أثر الفلسفة الوجودية التي غزت العالم العربي عبر بوابة بيروت، خاصة ترجمات سهيل إدريس لجان بول سارتر، أب الفلسفة الوجودية المعاصرة. ومما يكتبه حيدر عن الوجودية يتّضح أن ما جذبه لها هو ذلك الموقف الفلسفي الذي لا ينظر للإنسان كجوهر ثابت أو كماهية معطاة وإنما كوجود ومشروع مفتوح يكتسب معناه من تفاعله مع الواقع المتغيّر عبر حَمْله لمسئولية الحرية وخياراته التي تصوغ حياته وعبر التزامه الذي يجعله في حالة كفاح مستمر من أجل تغيير عالمه وإثراء وجوده بالخروج من اغترابه وتحقيق أصالته (authenticité — وهي مفهوم وجودي يجب ألا يختلط بمفهوم محمود محمد طه للكلمة) وتمديد أفق حريته. صادفت هذه الدعوة للحرية ميلا في نفس الشاب المتمرد وأعطته بوصلة أخلاقية ظلّ يهتدي بها طوال حياته.
(3)
والملاحظ أن طبيعة المؤثرات التي تعرّض لها حيدر منذ شبابه الباكر أبعدته عن مؤثرات الفكر الإسلامي، وخاصة فكر الإخوان المسلمين الذي كان ولا زال مطروحا بقوة في مقابلة الأفكار الأخرى وخاصة الماركسية. ولكن ماذا عن أثر الإسلام العام كواقع ثقافي (أو أنثروبولوجي بلغة الاجتماعيين)؟ يرتبط هذا الأثر في حالته بطفولته وبالدور الذي لعبه جده لأمه، أحمد، في حياته. وعن جده يقول: "لم يكن درويشا أو مشعوذا بل مثقفا قرويا ... فقد كان شديد الارتباط بالواقع ويفهمه جيدا. وكان يقرأ مجلة (الرسالة) المصرية لـ (أحمد حسن الزيات)، في تلك القرية النائية [القرير]. وقد يكون هذا من تأثير المدينة التي عمل فيها أثناء فترة الجندية. وكان لديه العديد من كتب الفقه والسيرة. ومن تميزه أنه رغم غلبة الطريقة الختمية عدديا في البلد، فقد كان الأحمدي أو الإدريسي الوحيد في القرية. وكان موكب احتفالات الختمية السنوية (الحولية) حين تمر أمام منزلنا تتوقف قليلا، ليردد بعضهم منذرا ومهددا "يا منكرين فويلكم"". وعن موقف الجدّ هذا يقول: "وقد كان ذلك هو الدرس الأول في تربيتي مبكرا على عدم تهيّب وخشية الاختلاف، ومفارقة القطيع، ونسق الفكر الجمعي". ولعل أكبر تقدير عبّر به الحفيد عن دَينه للجد هو إهداؤه رسالته للدكتوراة له قائلا: "إلى جدي أحمد بابكر، الشاعر، والفكي، والجندي، والمزارع". وهو قد حمل دائما في جوانحه تعلقّا وتوحّدا بالجد إلى حدّ أنه يقول: "وأحيانا، أتمنى لو أنني قد كنته ... لكفاني ذلك كل هذا القلق، والاغتراب والغربة، والرياح التي ظلت تتجاذبني ... " (ص 30).
وبعد بلوغ تعليم حيدر النظامي مرحلته الأخيرة بالتخرج من معهد المعلمين العالي وجامعة القاهرة فرع الخرطوم فإنه ظل يطمح لنيل بعثة تتيح له مواصلة تعليمه فوق الجامعي ونيل الدكتوراة. إلا أن ذلك الطموح لم يتحقّق عبر بعثات معهد المعلمين العالي فقرر أن يشقّ طريقه التعليمي بالدخول في مغامرة الخروج لأوربا. وانتهى به المطاف إلى فرانكفورت — تلك المدينة "الأنثى الساحرة والمبهرة ... تلك المرأة الأربعينية بساقيها الطويلتين الرشيقتين، وشعرها الأشقر ... المرسل بفوضى خلاّقة ... " (ص 216). وفي فرانكفورت انفتح على تجربة حياتية وآفاق معرفية جعلته يعتبر فترته فيها ميلادا ثانيا.
(4)
وصل حيدر فرانكفورت وأوربا لا تزال تضجّ بغليان 1968، وهو غليان كانت تقوده قوى اليسار الطلابي ورؤى اليسار الجديد الذي لعبت مدرسة فرانكفورت، وخاصة هربرت ماركوزه، دورا مقدّرا في تشكيل وعيه وحساسيته (ما أسماه ماركوزه "بالحساسية الجديدة"). كان واقع الغليان هذا والثورة والبحث عن بنيات لعالم بديل منسجما مع رؤية الشاب الآتي من أفريقيا والعالم العربي وهو مشبّع بأحلام التحرر والانعتاق من أسر الماضي والميراث الاستعماري. وكانت فترة فرانكفورت فترة معاناة وقلقلة في العيش، وفترة اغتراف أكاديمي وانكباب على أطروحة الدكتوراة، وفترة نشاط سياسي وتضامن قوي مع مختلف قضايا التحرير في العالم. وكانت أيضا، على الصعيد الشخصي، فترة علاقة عاطفية متوتّرة وعاصفة انتهت بالفشل وخرج منها بجراح أعانته عندما التأمت على العودة لنبع حبه الأول الذي حُجب عنه فتزوّج المرأة التي أصبحت شريكة حياته وأم ابنه وابنته اللذين أصبحا قرّة عينه.
(5)
وبعد فرانكفورت وجد حيدر نفسه في قبضة واقع جديد لا صلة له بالواقع الذي كان يحلم به. وجد الوطن قد أضحى أرضا طاردة وأن فرصه وفرص الآلاف غيره من أبناء جيله ضاقت ولم تعد تسعهم إلا دول البترول في ظل هيمنة موازين اقتصادية جديدة. وعمل في ليبيا والسعودية والخليج. وعاد للسودان ليخرج بعدها للعمل في المغرب، ثم عاد مرة أخرى للوطن ليخرج مرة أخرى إلى مصر التي أصبحت منفاه الجديد.
ورغم واقع "أزمنة الريح والقلق" التي وجد نفسه في مهبها فإنه عمل على تهيئة ظروف "زمن الحرية" فأنشأ أهم صرح شهدته الحياة الفكرية السودانية على مدى العقدين الماضيين وهو مركز الدراسات السودانية. ويلخّص رسالة المركز وإنجازاته منذ تأسيسه في صيف عام 1992 حتى الآن قائلا: "حدد المركز أغراض تأسيسه في الكتابة والتوثيق ونشر ثقافة العقلانية والتنوير. فقد أصدر المركز أكثر من مائتين وعشرين (220) عنوانا منتقاة جيدا، وداوم على إصدار مجلة دورية: "كتابات سودانية" وصلت للعدد 56 لتكون من أطول المجلات عمرا في تاريخ البلاد. وكان يصدر سنويا تقريرا استراتيجيا، 12 عددا ... وقد استضاف المركز أبرز المفكرين والمبدعين العرب ... كما عقد المركز العديد من الندوات الفكرية الهامة والتي صدرت كلها في كتب بقصد التوثيق، وقد صارت مصادر أساسية للطلاب والباحثين" (ص 187). ورغم أن النظام الإسلامي أغلق المركز في ديسمبر 2012 بدعوى "تهديد الأمن الوطني" (ولا شك أن تقدير النظام سليم أن المركز يشكّل تحديا وتهديدا للمشروع الإسلامي)، إلا أن كل الدلائل تشير أن عمل المركز لن يروح هباء وأنه "لن يموت ... بقرار أمني لأنه مشروع ثقافي تنويري" (ص 189).
(6)
وبالإضافة لخيط التعليم فهناك خيطان آخران ينتظمان هذه السيرة الذاتية وهما خيط دائرة الأسرة الصغيرة والممتدة ودائرة الأصدقاء وخيط الهموم العامة المتصلة بواقع الوطن وقضاياه وتأملات حيدر وآرائه بشأنها.
وفيما يتّصل بالخيط الأول فلا شكّ أنه وجد نفسه في صراع شديد وهو بصدد كتابة سيرته، وخاصة أن الطبيعة المحافظة للمجتمع السوداني تحدُّ من صراحة الخوض في الشئون العائلية والخاصة وتلجمها. إلا أنه اختار التزام جانب الصراحة فحكى عن الأسرة وهمومها ومشاكلها وعما يجمعها وما يفرّقها وعن بعض المواقف التي كادت أن تؤدي لانفساخ علاقاتها. وكان أيضا شجاعا وصريحا على المستوى الشخصي ولم يغطِ نفسه بورقة توت زائفة، وهكذا كان على استعداد مثلا أن يحكي عن أول تجربة له مع "بائعة هوى"، ويقول عنها: "لم تكن تجربة ممتعة أو "لذيذة" فقد كنت مفزوعا" (ص 52).
(7)
وعندما نأتي لخيط هموم الواقع الوطني نجده يعيد إثارة قضايا شغلته لفترة طويلة وكثيرا ما تعرّض لمعالجتها في كتبه أو مقالاته. وفي مقدمة هذه القضايا مسائل المثقفين والقبلية والطائفية والهُوية والديمقراطية ودور منظمات المجتمع المدني. ومسألة المثقفين ونقد دورهم وفشلهم (أو ما يسميه د. منصور خالد "إدمان الفشل") من المواضيع التي نالت تركيزا خاصا في كتابات حيدر، خاصة في الآونة الأخيرة. ولا شك أن الكثير مما يقوله حيدر (وآخرون) عن المثقفين في محله وأن بعض المثقفين لعبوا دورا رئيسيا في إخفاقات السودان وتدهوره المستمر الذي أدّى لانقسامه إلى سودانين وربما يؤدي لمزيد من التشظّي. ولكن هذا لا ينطبق على كل المثقفين — هناك أيضا مثقفون حملوا رؤية بديلة لسودان مختلف وكافحوا وما زالوا يكافحون من أجل بناء هذا السودان. وفي واقع الأمر فإن مساهمة حيدر نفسه ومركز الدراسات السودانية جزء لا يتجزأ من هذا الكفاح. وحيدر محقّ كل الحقّ عندما يربط رسالة مركزه وعمله بنوع معين من المثقفين ويقول إن المركز "امتداد لمشروع عرفات محمد عبد الله ورفاقه في (الفجر)" وأنه الابن الشرعي "لكتابات أحمد خير ومعاوية نور والأمين علي مدني وحمزة الملك طنبل والمحجوب ومحمد محمد علي وعبد الرحمن علي طه وعبد الخالق محجوب ومحمود محمد طه والتجاني الماحي"، وأن "هذه هي الروافد التي تشكل نهر الثقافة الوطنية الجادة بكل تنوعها الخصيب" (ص 189). إن توصيف حالة الإخفاق وتحديد أسبابها يجب أن يكون الخطوة الأولى الضرورية التي يعقبها طرح سؤال: ما العمل؟ إننا، كسودانيين (وخاصة كمثقفين) قد صنعنا أزمتنا وحلّ هذه الأزمة لن يأتينا من إله في السماء وإنما سيكون على أيدينا وبكفاحنا.
(8)
ومما تتميّز به هذه السيرة احتفاؤها بالمرأة وبالفنون إذ يعقد المؤلف لكل من الموضوعين فصلا خاصا. وعن المرأة يقول: "لازمتني المرأة في كل مراحل حياتي، وتشكلاتها، واحتياجاتها وضروراتها. فقد كانت الأم، والزوجة، والعشيقة، والابنة، والصديقة، والقضية" (238). ويقول: "إن دونية المرأة المقننة والممنهجة هي السبب الحقيقي في التخلف الشامل لمجتمعاتنا في كل المجالات. وليس ذلك نتيجة عدم مشاركة المرأة في الإنتاج والثروة والسلطة، كما تقول الدراسات الدولية النمطية والتقليدية، والتي تغرقنا في الأرقام والإحصائيات. ولكنني أعتقد أن السبب العميق للتخلف هو غياب الحيوية واللذة والإشباع الجنسي في حياتنا" (ص 239). ويرى أن الخفاض الفرعوني له دوره في تكريس التخلف "لأن الحرمان الذي يعانيه الجنسان أو نقصان الإشباع الجنسي هو بالتأكيد خصما على الإبداع والرغبة على جعل الحياة أفضل وأجمل" (ص 239). ولكن هل تفسّر هذه النظريةُ الشهوانية (أو الإيروسية) دونيةَ المرأة "المقننة والممنهجة" في مجتمعنا حقا؟ إن المحتمع الغربي، على حريته الجنسية وتحرّره الجسدي، ما زال يعاني من ممارسات تفرقة وتمييز ضد المرأة على مستوى الثروة والسلطة. ومن الضروري أن نميّز بين القوانين والممارسات في الغرب، فرغم أن القوانين لا تبيح التمييز بين الجنسين إلا أن آثار علاقات القوى القديمة الموروثة لا تزال باقية، وهي ما يمثّل الآن في هذه المجتمعات التحدّي الأكبر الذي يواجه الحركة النسوية. أما في مجتمعنا فإن المشكلة هي القانون نفسه، وخاصة مع صعود الإسلام وتشريعاته. إن إلغاء قوانين الشريعة التي تميّز ضد المرأة هو أحد التحدّيات الأساسية التي تواجه مجتمعنا الآن، وهي مهمة لا تنفصل عن المهمة الكبرى المتمثّلة في تحرير وعي المرأة نفسه وتأكيد أنها كاملة عقل وأنها تستحق المساواة الكاملة مع الرجل التي تفتح أمامها كامل فرص التحقّق والانطلاق. وعندما تحدث ثورة الوعي (والأخلاق) هذه وتنمحي قوانين التمييز وتتحقق المساواة والمشاركة فإن حياتنا ستكون "أفضل وأجمل" على كل المستويات.
(9)
أما عن الفنون فإن تعلّق حيدر بها يعود لطفولته التي كان محاطا فيها بغناء المدينة بالإضافة للمديح والطنبور وأغاني الرق والدلوكة والكبريتة في القرية. وتكوّنت ذائقته وهي تجمع تدريجيا ثقافة الأذن والعين لتوحّدهما معا. ويفحص حيدر، بحسّ الاجتماعي، الواقعَ المعاصر وما طرأ عليه "من تخريب الذوق السوداني واختطاف متعته بالفنون تحت النظام الإسلاموي المعادي للجمال والحب والصدق" (ص 271). ويناقش موقف النظام من الفن الغنائي (وهو الفن الأوسع انتشارا والأعمق تأثيرا) على ضوء موقفه من الفنانة ندى القلعة والفنان الراحل محمود عبد العزيز. ويرى في حالة ندى القلعة فنانة "تبث الفرح والحياة والحب" (ص 272) وأنها بهذه الصفة تمثّل نموذجا مناقضا لكآبة النظام الإسلامي، وبالتالي تحديا وخطرا واجهه النظام بمحاولة اغتيال شخصيتها، إلا أنه فشل. أما في حالة محمود عبد العزيز فإنه في رأيه رمز لفن التسلية العاطل عن الالتزام والذي يخدم أغراض النظام في تسطيح وتزييف وعي الشباب.
وفي الحديث عن الرواية يقول حيدر: "وقد اكتشفت الطيب صالح مبكرا في قصة (عرس الزين) التي نشرت في مجلة (حوار). ولكن لازم عيب عدم المثابرة الإبداع السوداني، ولذلك لم تظهر مدارس وتيارات قوية ومؤثرة والأهم من ذلك الاستمرارية والتراكم. وفي الفترة الأخيرة ظهر عدد من الكتاب الشباب ولكنهم "جيل بلا آباء" مباشرين ووجدوا مرجعيتهم من خارج السودان، من هؤلاء: أمير تاج السر، وحمور زيادة، وأحمد الملك" (ص 259). إن هذا الحكم، في تقديري، ينطوي على ظلم كبير للطيب صالح وأثره. لا شك أن الطيب صالح هو "أب" كل الروائيين السودانيين الشباب الذين بدأوا يكتبون بعده، وأن المرور عبر بوابته بقراءة أعماله والوقوف في ساحات عالمه هو "طقس العبور" الذي لابد أن يمرّ به كل من يطمح لدخول عالم الكتابة الروائية. وفي واقع الأمر إن كان هناك خطر على الروائي السوداني المعاصر فإنه خطر عدم القدرة على الانفكاك من تأثير وأَسْر الأب.
(10)
يصف حيدر نفسه، وهو يلخّص ملامح موقفه الفكري، بأنه "ماركسي ووجودي وصوفي" (ص 146). ولقد استوقفني وصفه لنفسه بأنه "صوفي"، وتساءلت ما الذي يعنيه بذلك؟ وعندما تبحث في علاقة حيدر بالإسلام فإنك تلاحظ ما أشرنا له أعلاه وهو أن تكوينه الفكري شكّلته مؤثرات فكرية أبعدته منذ شبابه الباكر عن تأثير الفكر الإسلامي. وبالنسبة للإسلام نفسه فإن حديثه عنه لا يتعرّض للنظام الاعتقادي بل يقتصر على التركيز على الجانب الأخلاقي. ووعيه بالانفصال بين هذين المظهرين واضح عندما يتحدّث عن فرع أسرته في قرية الدويمات (قرب شندي) ويقول "وأخذ بعض أهل القرية من التدين مكارم الأخلاق فقط مع تسيّب ورقّة في الالتزام بالشعائر الدينية" (ص 24). أما عن تدينه هو نفسه فيقول: "لا أدري مستوى تديني، ولكني كونت قانون (code) ذاتي صارم، للمحاسبة الأخلاقية والسلوك القويم يقوم على حب الناس واحترامه باعتبار أن الأعلى من قدر الإنسان هو الإنسان" (ص 128). وهكذا فإن وصف حيدر لنفسه بأنه "صوفي" لا علاقة له بالمحتوى العقيدي للتصوف كظاهرة ترتبط بالإسلام بقدرما هو إشارة لموقف أخلاقي يرتبط عند الكثيرين عندما يستخدمون التعبير بالزهد في العالم والترفع عن الجري وراء مغرياته. ولا شك أن هذا هو المعنى الذي يريده حيدر، وخاصة أنه يؤكد مرارا على نمط حياته البسيط الزاهد (وهي حياة تسمها أيضا سمة الاغتراب والنفور من الاستقرار والركود، وتلخصها الكلمات التي يتغنى بها الكابلي: زمان الناس هداوة بال وأنت زمانك الترحال).
(11)
وبما أن معمار السيرة يوازي عادة الحلقات الثلاثة للحياة من بداية ووسط ونهاية، وبما أن هذه ليست سيرة وإنما سيرة ذاتية فإن حيدر قد قرّر أن يكمل الدورة الثلاثية بعد البداية والوسط وأن يخصّص فصله الأخير لتأمل دروس حياته وتأمل وجه الموت. وعندما يتأمل وجه الموت فإنه يتأمله وفي ذهنه "بعض صور الموت العظيم"، ويقول عن ذلك: "مثال ذلك (الخليفة عبد الله) في (أم دوبيكرات) حين تيقّن من الهزيمة، فرش الفروة مرحبا بموت يغيظ العدا. ويقال ان الشيخ (عقيل) حين قطعت رأسه رفض أن تقع على الأرض، فأمسك به ثم مات. ويذكر التاريخ ميتة (عبد الخالق محجوب) ورفاقه، والأستاذ (محمود محمد طه). وهذا ما سماه البياتي: الموت واقفا وأعينه إلى السماء ... "(ص 309) ويتأمل وجه الموت ويقول: "لا أخشى الموت ولكن أمقت الضعف والمرض والوهن" (ص 310).
هذا فراق أليم وموجع للقارىء وكأن كتابة السيرةالذاتية هي في حدّ ذاتها طقس وداع. ربما يكون الأمر كذلك، وهو خيار لا يجفِل منه حيدر، إلا أن ما يكتبه يحمل أيضا دعوة قوية للقارىء بأن يتأمل وجه الموت ويتفرّسه، إذ بدون ذلك التأمل والتفرّس، ويا للمفارقة، لن تكتسب حياتنا عمقها ولن نتذوق طعمها الحقيقي ولن نحسّ بلهب طاقتها وهي تنبثّ في كل خليّة من خلايانا.
هذه سيرة مفكِّرة متأمِّلة تستحق القراءة لأنها وهي تكشف عن عالم المؤلف تقدّم لقارئها مرآة ربما تعينه على كشف عالمه (الضمير هنا لا جنس له).
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.