بحري الوطنية …. وإذا الموءودة سئلت
أدى ازدحام الشوارع وضعف إيمان سودانيي هذا الزمان بفضيلة الإيثار لأن تصبح قيادة السيارة في الخرطوم من وسائل التعذيب الجماعي ، ولجأ الجميع بما فيهم شخصي الضعيف للبحث عن "القادوميات" على حد قول أنيس وعبيد أو "الشورط كاط" على حد قول شباب هذا الزمان. ذات يوم من أيام العام الماضي وأنا أحاول تجنب ازدحام شارع البلدية ببحري قادتني إطارات سيارتي إلى الطريق الجانبي الذي يقع إلى جنوب السينما الوطنية ببحري ... وهالني ما رأيت. ذلك الوحش الفولاذي الضخم وهو يمد عنقه الديناصوري ثم يهوي بأسنانه الحادة لينهش في جسد الشاشة التي طالما شاهدنا على صحيفتها البيضاء روائع الفن العالمي والعربي. ومن فرط انفعالي كنت أرى ابتسامة كالحة على وجه ذلك الوحش وهو يتلذذ بنهش لحم الشاشة المستكينة ويحولها بين غمضة عين وانتباهتها إلى ركام من الأنقاض. قرأت في بعض الصحف الكثير من التفسيرات وراء هدم هذه الصروح الثقافية في الخرطوم وغيرها من المدن ، ولعل أغرب هذه التصريحات ما أدلى به أحد الولاة وقال فيه أنه يهدم السينما في عاصمة ولايته "تقرباً لله" وجالت بخيالي صورة للسيد الوالي في صحبة زمرة من المجاهدين يحملون المعاول ويهتفون ألله أكبر. وإن صح ما نقل عن الرجل فإنه يكشف عن فهم مغلوط ، فالسينما لا تعدو كونها وسيلة من الوسائل التي يمكن عن طريقها التقرب إلى الله أيضاً كما هو الحال بالنسبة للتلفزيون والراديو. من التفسيرات المنطقية ولكنها ليست مقنعة لهدم سينما بحري الوطنية أن أرض السينما لم تكن ملكاً حراً لشركة السينما الوطنية وأنه قد آن أوان انتهاء الحكر ورفضت الجهة المعنية تجديده ، وأن أحد رجال الأعمال قام بشراء قطعة الارض بأربعة مليارات من الجنيهات ليقيم عليها بناءً تجارياً يحصل من وراءه على دخل مقدر.
لم تكن رحلتنا من داخليات البركس إلى الوطنية بحري تنحصر على مشاهدة أحد الأفلام التي استهوتنا في ذلك الزمان وحسب ، بل كانت برنامجاً متكاملاً يبدأ بالتخطيط لتناول العشاء مبكراً في مطعم البركس إذ لم يكن من الحكمة أن تضيع أي وجبة من الوجبات المجانية الفاخرة في ذلك المطعم الذي لم يكن يضاهيه من حيث جودة الخدمة ومستوى الطعام إلا مطاعم الفنادق الفاخرة بالخرطوم في ذلك الزمان. لذلك فقد كانت زياراتنا للوطنية بحري وشقيقتها سينما الحلفايا تتم عادة عند التاسعة مساء لمشاهدة ما كان يسميه رواد السينما "بالدور الثاني" ، وهو العرض الثاني والأخير للفيلم في ذلك اليوم. كان الفيلم بالطبع هو محور البرنامج ، وقد شهدنا على شاشة السينما عدداً من الأفلام العربية الرائعة التي يظهر فيها ممثلون قام على أكتافهممجد السينما والمسرح في مصر من أمثال يوسف وهبي وعبد الوراث عسر وحسين رياض أو ممثلات تحمل كل منهن لقباً جاذباً لقلوبنا الشابة في تلك الأيام من شاكلة سيدة الشاشة ، ودلوعة الشاشة ، وعذراء الشاشة والسندريلا .... الخ.
كانت دور العرض تعرض في ذلك الزمان كذلك روائع الفن العالمي من الأفلامالأجنبية الواردة من مختلف الدول. وقد شهدنا الكثير من هذه الروائع وعلى رأسها سيدتي الجميلة ورجل لكل المواسم وصوت الموسيقى بالاضافة لأفلام الكاوبوي التي ينتصر فيها الخير على الشر دائما ، ومَن مِن أبناء جيلنا لا يذكر الفيلم الشهير " العظماء السبعة " المقتبس من قصة يابانية باسم "الساموراي السبعة" ، ومَن مِنا لم يتفاعل بكل حواسه من يول براينر ، وستيف ماكوين ، وشارلس برونسون وهم يعملون على إنقاذ أولئك المزارعين الطيبين في إحدى قرى المكسيك من بطش العصابة التي تعودت على سرقة عرق جبينهم. اشتهرت في ذلك الزمان كما هو معلوم الأفلام التي سُميت بكاوبويات الاسباجيتي ، وهي أفلام الكاوبوي الإيطالية التي كانت تتميز بالقسوة البالغة والعنف الشديد وتساعد كما يقول مختصو علم النفس على تفريغ شحنات العنف التي قد تملأ نفوسنا في ذلك الوقت وهي لا تقارن بما يملأ نفوس الشباب في الوقت الحاضر. وقد لقيت شخصيات هذه الأفلام من أمثال ديجانغو شهرة واسعة ودخلت قاموس السياسة السودانية من أوسع ابوابها عبر الفيلم الشهير "سارتانا لا يرحم". هذا فضلاً عن أفلام الفانتازيا الهندية التي كانت تنقلنا لعالم رائع من الموسيقى والرقص والغناء وحسناوات الهند ، والخير الذي ينتصر دائماً في النهاية مهما تكالب عليه الأعداء والمصائب. ولعل فيلم "من أجل أبنائي" التراجيدي سجل الرقم القياسي في كمية الدموع التي ذرفت خلال أي فيلم من الأفلام ، كما سلبت بطلة "جانوار" ألباب الكثير من شباب ذلك الزمان وحملت اسمها العديد من حسناوات السودان اللائي جئن للدنيا في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي. ولعل التعليقات التلقائية للجمهور المنفعل بالأحداث التي تتكشف أمامه على الشاشة الكبيرة تمثل البهار الذي يكسب كل فيلم من هذه الأفلام طعمه المميز ويكمل المتعة التي كنا نجدها من زيارة السينما.
كثيراً ما كنا نقضي بعض الوقت في مقاهي بحري القريبة من السينما بعد نهاية الفيلم ، وكنا نستمتع بالإنس مع الكادحين الذين قضوا سحابة يومهم في العمل الشاق وجاءوا ليرتاحوا على كوب من القهوة أو الشاي بعد العشاء. لم تكن شوارع الخرطوم قد عرفت الشماشة أو المشردين بعد ، وكان من السهولة بمكان الدخول في حديث ودود وممتع مع غريب تلتقيه للمرة الأولى. وفي طريق عودتنا للبركس والتي عادة ما تكونعلى الأقدام "كداري" كنا نلتقي عند كازينو النيل الأزرق ، الذي تروده طبقة مختلفةمن المجتمع ، ببعض موظفي الخدمة المدنية وهم خارجون من جلسة أنس جمعت بينهم في نهاية يوم من العمل المرهق. وقد كان بعض هؤلاء يصرون على توصيلنا حتى البركس بسياراتهم بالرغم من قرب المسافة ، في زمان لم يكن الناس يخافون إلا الله والذئب على أغنامهم. وحسب درجة روح المرح التي كانت تتملكهم كانوا يحدثوننا عن أيام العز الماضية في جامعة الخرطوم وما دروا أن الزمان يخبئ لهم إن امتد بهم الأعمار ما يجعلهم يتحسرون حتى على أيامهم تلك ، التي سلبوها صفة العز.
تدافعت كل هذه الخواطر على بالي وأنا أرى في أحد الأيام ذلك الوحش الحديدي يهوي على شاشة سينما الوطنية بحري التي طالما أسعدتنا بأفلامها والذكريات التي ارتبطت بها. تملكني حزن عميق وأنا أرى جانباً من ذكريات الشباب العطرة تطاله يد التمزيق ، وتخيلت أن من يقوم بهذا العمل لا يفهم القيمة التاريخية للموقع ولا قيمة البهجة التي أدخلها على قلوب الملايين من أبناء الشعب السوداني. لا أشك في أن سينما الوطنية بحري ، مثلها في ذلك مثل غيرها من دور السينما في مختلف أنحاء العاصمة قد فقدت قيمتها الاجتماعية بعد أن تضاءلت بصورة كبيرة نسبة مشاهدة الأفلام على شاشة السينما خلال العقود الثلاث الماضية من تاريخ السودان. وهي حقيقة تعكس الأوضاع البائسة في بلادنا ، ففي معظم أنحاء العالم لا زال الناس يرتادون دور السينما وأن صناعة الأفلام لا زالت تسجل مساهمات مقدرة في الدخل القومي للعديد من الدول حيث بلغت إيرادات السينما على مستوى العالم خلال العام الماضي 36 مليار دولار ، ولا زال رواد دور السينما في الهند يفوقون التسعة مليار مشاهد في العام. وتأتي دولة أفريقية هي نيجيريا في الدرجة الثانية بعد الهند من حيث عدد الأفلام الروائية الطويلة بانتاج بلغ 997 فيلماً خلال عام 2011.
غير أنه غني عن القول أن مشاهدة الافلام لم تكن الخدمة الوحيدة التي تقدمها هذه الدور للمجتمع السوداني ، فبالاضافة للمتعة التي كان رواد السينما يجدونها عند مشاهدة الأفلام فإن البرامج المرافقة مثل تناول طعام العشاء أو كوب من الشاي بعد نهاية الفيلم والأنس الذي يرافق تلك الجلسات كان يعطي لليالي الخرطوم طعماً خاصاً نفتقده هذه الأيام عندما تجبرنا ظروف االعمل أو الاجتماعيات للعودة إلى المنزل بعد الساعة التاسعة مساء عبر شوارع الخرطوم المهجورة تماماً إلا من بعض الكلاب الضالة والمتسكعين العاطلين وربما عدد من مرتادي الإجرام.
ينتابني إحساس عميق أنه بالاضافة لعزوف الناس عن مشاهدة الأفلام في دورالسينما في زماننا هذا ، فإن بعض أثرياء الغفلة ربما رأوا في موقع الوطنية أو كلزيوم أو غيرها من دور السينما فرصة سانحة للاستثمار في مبانٍ تفتقر لأي مسحة من الجمال ، وهي المباني التي سمق العديد منها في سماء الخرطوم مثل النبت الشيطاني دون خطة واضحة ودون الأخذ في الاعتبار المفارقة بين هذه المباني الشاهقة والشوارع الضيقة من حولها ، وهي ظاهرة أثبت العلم الحديث أنها ليست في صالح سكان هذه المباني أو مستعملي الطريق. ولعل المتجول في شوارع الخرطوم يري في موقع ليس بعيداً عن السينما الموءودة قيام مجمع جديد للمباني الفخمة العالية تحت اسم غريب لا تألفه الأذن السودانية ، وكأن التراث السوداني قد نضب عن تفريخ أسماء لمثل هذه المشروعات. سيكون المشروع عند اكتماله سبباً في حجب واحد منأجمل مناظر السودان الطبيعية وهو مقرن النيلين الأبيض والأزرق إلا عن أعين تلك الفئة السعيدة بالطبع ، من أصحاب الحظوة ، والذين سيحصلون على شقق تطل على النيل ضمن هذا المشروع ذي الاسم الغريب.
mahjoub.basha@gmail.com