منصور خالد: لمن تعزف مزاميرك يا داؤود؟

 


 

 

تصدت لنقد الدكتور منصور خالد ثلاث تيارات مختلفة المواقف والتوجهات ، الأول نقد النكاية ومثله الراحل علي أبوسن في كتابه (ذكرياتي مع المجذوب)، وغلبت علي هذا الكتاب ضيق تفكير دولة الأفندية وأضعف من متنه ومعانيه انه كان غارقا في الشخصانية، اذ أحب أبوسن ان  يثأر لخصومته مع منصور بعد المواجهة الشهيرة امام الرئيس نميري في قاعة الصداقة. وتعمد منصور احالة أبوسن الي المعاش المبكر، وحاول أبوسن في كتابه ان يؤسس للوقيعة الأدبية بين الشاعر الضخم محمد المهدي المجذوب ومنصور خالد. التيار الثاني وهو نقد الفكر و تصدي له الدكتور عبدالله علي ابراهيم، الذي ظل يبحث في بُطُون الكتب وأضابير الوثائق عن زلة قدم منصور، خاصة في تصوير هجنة  السودانيين وما قال به منصور من ان اسلام اهل السودان (وشته  وثنيات)، وهو ضرب من التفكير ظل عبدالله علي ابراهيم يدفعه دفعا لأنه مستقي من ماكمايكل وترمينغهام. وبلغت حملة عبدالله علي ابراهيم الفكرية مداها في مناجزة  منصور في كشفه عن تقرير السفارة الامريكية عام ١٩٥٩ وهو يؤكد ان منصور كان احد مصادر المعلومات الواردة فيه، و نحا عبدالله باللائمة علي الحزب الشيوعي واتهمه ( بخفة اليد الثورية) وهو يبدل وثائقه التاريخية التي اغلظ فيها علي منصور ووصفه بالعمالة، ثم عاد ليسقط من نصوص طبعاته الجديدة هذه الاتهامات. كما تصدي المرحوم احمد سليمان في آخر أيامه بأمريكا لمنصور خالد بمقال اسماه ( من وراء البحار في الرد علي منصور) وفند فيه ادعاءات منصور أن الحركة الجنوبية كانت أسبق من نظيراتها الشمالية في الإرتباط بحركات التحرر الوطني التاريخية في القارة الافريقية. وساق الحجج والشواهد التاريخية علي ريادة الحركة الوطنية السودانية والأحزاب السياسية في الذود عن حمي حركات التحرر الوطنية في أفريقيا. أما التيار الثالث الذي تصدي لنقد منصور فهو النقد الأيدلوجي ويمثله الطيب مصطفي وهو تيار لا يرضي من منصور عدلا او صرفا، ويتهمه بالعمالة للغرب وبالتآمر علي الثقافة العربية والإسلامية في السودان. وقد اعترض التيار الأيدلوجي الذي يمثله الطيب مصطفي علي تكريم منصور رافعا شعار لا تكريم للعملاء.

انعقدت فعاليات تكريم الدكتور منصور خالد وسط همهمات وضجيج النخب التي أوسعها منصور ضربا ولسعا من سياط نقده الحارق. أولي الحقائق الجديرة بالنظر والتأمل هي ان النخبة التي حملت فكرة التكريم وسعت إليه و اقامته هي ثلة من فئة الأكاديميين والتكنوقراط من ذوي النزعة الليبرالية، الذين شاركوا منصور تجربته المايوية في عدد من المؤسسات خاصة وزارتي الخارجية والتربية والتعليم. أى ان تكريمه لم يتصد له تنظيم حزبي أو مؤسسة سياسية من التي أفني فيها منصور خيوط شبيبته ومخيط شيبه. فقد غاب مكون الحركة الشعبية وجنوب السودان إلا من تمثيل رمزي، اذ جاء أحد مستشاري الرئيس سلفاكير عابرا، وشارك بالصدفة المحضة في التكريم بعد أن قدم واجب العزاء في المفكر الراحل الشيخ حسن الترابي. كما شارك الدكتور لوال دينق وزير النفط الاسبق في التكريم وهو لا يمثل المؤسسة الرسمية في جنوب السودان ولا الحركة الشعبية لكنه يمثل أحد تيارات التقريب السياسي والثقافي بين البلدين. غابت عن التكريم أيضا تيارات الإسلاميين بكل تصنيفاتهم وتوجهاتهم ، كما غابت تيارات اليسار الماركسي الذين دافع منصور عن حقهم في العمل السياسي الديمقراطي، وهو يقاوم وينتقد حل الحزب الشيوعي بواسطة الجمعية التأسيسية. ولعل مشاركة الأستاذ نبيل أديب جاءت من باب حقوق الانسان وليس تمثيلا للحزب الشيوعي، كما جاءت مشاركة الدكتور الواثق كمير من باب خبرته السياسية والأكاديمية والفكرية بقضايا الوحدة والحرب والسلام، وليس تمثيلا للحركة الشعبية التي ابتعد عنها تنظيميا. ولعل مشاركة الدكتور النور حمد وهو يحاول ان يرسم مقاربات المستقبل من خلال تتبع الجهد الفكري والعقلي لمنصور خالد قد لامست في بعض جوانبها أفكار الحركة الجمهورية، والامتنان الثقافي لدفاع منصور الصادق والحار عن الاستاذ محمود محمد طه. كما جاءت مشاركة الدكتور الدرديري محمد احمد من وسط الحضور في إطار شهادته الشخصية علي الروح الوطنية التي ظل يتحلي بها منصور اثناء مشاركتهم في صياغة دستور السودان الانتقالي عام ٢٠٠٥، و لم تكن بأي حال تمثيلا لتفكير الإسلاميين في كسب منصور الفكري والسياسي.

احدث تكريم د. منصور خالد لغطا بين أهل الثقافة والصحافة والرأي ، لما يعتور سيرة الرجل من تقاطعات حادة بين الفكري والسياسي،اذ استغضب الرجل بفكره ومواقفه السياسية الكثير من اهل أيدلوجيا اليمين السياسي، وبلغ الغلو ببعضهم الي تخوينه وتجريده من الوطنية لسني خدمته تحت التاج السياسي لجون قرنق والحركة الشعبية.وبلغ التعظيم ببعضهم ان جعلوه اماما للعقلانية في العصر الحديث، ولعل الحقيقة النسبية  تكمن في القراءة الواعية للتاريخ وملابساته خاصة وان منصور خالد ظل يعٓبر عن ضمير الأزمة في تطور السياسة والمجتمع السوداني، وانحصر جهده الفكري العميق في ثلاثية الوحدة الوطنية والتنمية والديمقراطية، مما دعي حيدر ابراهيم الي نعته بالأزمولوجي. وتقتصد قراءتنا الراهنة الي موضعة أطروحاته وتجريدها من الفعل السياسي الملغوم. وقد بلغني رذاذ من العتب اللطيف من بعض آل أبوسن لما وصفت به النقد الذائع للأستاذ علي أبوسن ضد منصور خالد  في كتابه ( ذكرياتي مع المجذوب)، بأنه نقد غارق في الشخصانية  مما اضعف من متنه ومعانيه لأنه اختط مغالبات دولة الأفندية.
لا شك عندي ان منصور خالد يمثل قيمة مضافة للمعرفة والثقافة السودانية لما ظل يصدر عنه من اعلاء لقيمة العقل والتفكير الموضوعي، والوعي المجرد بحقائق السياسة والاجتماع والتاريخ. لكن يضعف من كسبه لدي العامة خياراته السياسية التي اشتط بها الجنوح لدعم منظومة الحزب الواحد في مايو، ومن ثم أصبح السند الفكري لمشروع السودان الجديد مع جون قرنق لإعادة تشكيل وحدة السودان علي أسس جديدة دون أن يفكر في جملة الكلفة البشرية والمادية لهذا المشروع، والذي تميز ببريق فكري عابر زانته أنشودة التنوع المعاصر والتنوع التاريخي، وأهزوجة أهل اليسار بالتحرر من مزاعم الإضطهاد والخطاب الديني وحتمية العربسلامية في ثقافة الوسط النيلي التاريخية. وهو عين ما احتفي به منصور  خالد عندما قال من قبل علي السودان ان يقبل برئيس من خارج أنظومة الأغلبية العربية والإسلامية. وأكبر مطاعن النقد في تفكير منصور خالد السياسي أنه ربط تعسفا الوحدة الوطنية من قبل بحكم أحد رموز الأقليات المهمشة ، وهذا ما استدرك عليه البروفيسور محمود ممداني في جامعة كولمبيا بنيويورك وهو يعضد من ان العدالة السياسية في ظل حكم الأغلبية هي الأكثر مطلبا للإستقرار من ضرورة  تفكيك الأسس التاريخية للثقافة السودانية وإعادة تركيبها من جديد علي أوهام الأحلام وأنصاف الحقائق.
يضاف الي ذلك، أن معارك منصور القلمية تتميز بالحدة، ونزعة الإنتصار  الشخصي وإيغال النصل في الخصم الي حد مقبضه، وهو ذات ما وصف به الترابي من قبل بأنه يغرس الخنجر في صدر خصمه وهو يبتسم. وهو يقول عن نفسه ان له سيف حاد الشذاة، كما يقول انه لا يتسامح مع الجهلة ومزوري التاريخ، او  طفيليّ الاعراس كما وصفهم. أجمل ما تضمنته فعاليات تكريم الدكتور منصور خالد هي عودة صوت مثقفي جنوب السودان الي المشهد السياسي من جديد، ولعل الشهادة التي أدلي بها ممثل الرئيس سلفاكير في جلسة مناقشة الأوراق و التي جاءت عفوية دون ترتيب مسبق و حظيت بالإهتمام والتصفيق تكشف عن محورية دور منصور خالد كحلقة وصل عضوية بين نخب الشمال والجنوب في تحديات الخطاب السياسي الراهن . اذ أكد ممثل الرئيس سلفاكير في حديثه انه كان شاهد عيان عندما دخل منصور خالد لأول مرة علي جون قرنق واشترط لإنضمامه للحركة الشعبية الحفاظ علي وحدة السودان واحترام ثقافة الأغلبية العربية والإسلامية. ورغم ان هذه الشهادة قوبلت بالإحتفاء والتصفيق من الحضور إلا ان ما يضعف من مصداقيتها أن النخبة الحاكمة في جنوب السودان التي سلخ منصور خالد بعضا من انضر سنوات عمره في الدفاع عنها تعمدت خذلانه يوم صوتت بأقدامها وأيديها  ووعيها لإنفصال جنوب السودان. وصدقت كل التنبؤات السابقة أن مشروع الوحدة ارتبط في ضمير النخبة الجنوبية بكاريزما جون قرنق الشخصية لأنه كان وحدويا يقود جيشا من الانفصالين، او انه لعب بذكاء علي أوتار الوحدة حتي يغني بإيقاع التم تم علي سلم الانفصال.
  ولعل اكثر ما أثار النظر هي مداخلة الدكتور لوال دينق وزير النفط الاسبق وأكثر الجنوبيين ايمانا بالوحدة  الطوعية سابقا، وهو يهز غيبوبة النخب في الخرطوم وهي تمضغ بغباء علكة الأمل الخادع والفجر الكاذب بوحدة متوهمة وخطاب عاطفي ممجوج، وهي تنظر لمتاعب وفشل دولة جنوب السودان، اذ أكد لوال دينق في مداخلته إن الوحدة مستحيلة ، وعلي النخب ان تعي درس التاريخ، والبحث عن آفاق التعاون بين البلدين. ولعل ما يدهش هو ان نخب الخرطوم اضاعت وحدة لم تحافظ عليها كالرجال وغدت تبحث عنها الآن بدموع النساء وتفجعات الثكالى ؟!.
احتشدت في الليلة الختامية وجلسات مناقشة الأوراق جموع غفيرة من الناس، احسب ان دافعهم الأساسي هو الإهتمام الجدي وليس الفضول، مما يدفع بغائلة التشكيك حول عزوف المتعلمين وعامة الشعب عن الحوار الجاد والموضوعي الذي تقيمه الصفوة.  و كشفت فعالية التكريم أن لمنصور خالد شعبية خارج تحيزات الصفوة كأحد أيقونات الثقافة السودانية المعاصرة، واثبتت أن للخرطوم وجه آخر لا يركن فقط لحفلات جحافل الراقصين في صالات الافراح ، اذ جلس منصور خالد يقرأ من مدونة التاريخ و يسجل اعترافاته الجهيرة بفشل النخب وهو يقول : "عندما يتكرر الفشل اكثر من مرة كَر الليل والنهار يصبح نزعة وجنوحا نحو الفشل". و لم يكتف منصور في قراءته الختامية من مدونة التاريخ بالإدانة بل حاول ان ينبه من أن تراكم الفشل خلق نزعة مقيتة وهي الحساسية الكاملة من النجاح، والأخطر من ذلك هو ذوبان الدولة مما يقود في النهاية الي الهاوية المحتومة. ويقول في خاتمة هذا التوصيف والتحليل إن هذا الفشل زرعته النخب بأياديها وها هي تحصد ثماره المريرة بعد ان وضعت كل نبتة في مغارسها ويختم متسائلا: لمن تعزف مزاميرك يا داؤود؟!.
تميزت الأوراق التي ناقشتها الجلسات بالجودة والإحكام والتفرد من لدن نخبة أكاديمية وثقافية متميزة، اذ قدم البروفيسور احمد ابراهيم ابوشوك بعمقه الفكري المعهود،وتدفقه العلمي  وتميزه البحثي الأصيل ورقته التي حظيت بالاهتمام من الجميع " الدكتور منصور خالد:قراءة في منهج بحثه العلمي". ووصف كتاباته بأنها تمثل (ذاكرة مضادة) حسب وصف ادوارد سعيد، لأنها مغايرة لطرح الآخرين ولا يهمه رأي الناس أحبوه ام كرهوه. همه في ذلك اثارة الحوار العلمي الجاد. واستقصي بروفيسور ابوشوك خصائص منهجه العلمي من خلال تحليل كتابيه ( حوار مع الصفوة، والنخبة وإدمان الفشل).لمعرفة الخلل الوظيفي وإختلال الانساق. ويكشف ابوشوك عن تحفظ موقف منصور من المواقف الأيدلوجية المجردة التي لا تمس حيوات الناس ، منوها الي أن الكفل الأكبر من تحليل منصور العلمي ارتبط بقضيتي الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية. والنخب تمد عينيها لما تمتعت به من بؤس النظر في التركيز علي تنمية الحضر وإهمال الريف. وتميز منصور حسب ابوشوك بالمنهج الوصفي التاريخي والتحليل متعدد التخصصات لموسوعيته، ولعل موقف منصور من التراث يشبه الي حد كبير الموقف المعلوم للشيخ حسن الترابي من  التحفظ علي قداسة التراث وعدم قدرته علي الانفتاح نحو الآخر. كما تميز منصور بأسلوب لغوي آخاذ لا يعتمد علي النكت البلاغية والأسهاب الأدبي في الوصف بل يمازج بين جماليات اللغة وعمق الفكر ورصانة الطرح وموضوعية التحليل.
تتفق الأوراق الثلاث الاولي في أن فترة عمله في وزارة الخارجية كانت غنية ومثمرة، وتمثل الأوراق التي حررها السفيران مأمون حسن وعطا الله البشير،  وورقة الدكتور نور الدين سآتي عن منصور والدبلوماسية متعددة الأطراف ، وورقة الاستاذ نبيل أديب عن منصور وحقوق الانسان تلخيصا لعمله المتميز في تطوير أساليب عمل وزارة الخارجية و توسيع آفاق كسب الدبلوماسية السودانية، ومشاركته في قضايا التنمية والسياسة الدولية. و لمنصور جهد مركوز  وغير منكور في قضايا دبلوماسية التنمية وتجسير التعاون العربي الأفريقي. وجاءت هذه الاوراق المذكورة احتفائية النزعة لتبيان جهد منصور وإسهامه في هذه المجالات. في المقابل تميزت ورقة الدكتور الواثق كمير الموسومة: "أطروحة منصور عن السلام ووحدة البلاد والفرص المهدرة" بالتوثيق الشامل والرصد النابه  والمتميز لمسيرة منصور. حاول د. الواثق محتشدا بالتحليل العميق واللغة السلسة ان يرد الإعتبار لتجربة منصور خالد السياسية في البحث عن دولة المواطنة والوحدة والسلام، وما يؤخذ علي منصور في هذا الصدد هو تكريس سلطات ضخمة في يد رئيس الجمهورية في دستور ١٩٧٣ عقب اتفاقية أديس أبابا للسلام، مما كرس للديكتاتورية وصناعة صنم جديد في ديوان السياسة السودانية. وأشار د. الواثق كمير في ختام ورقته بآيات اللوم الخفي لسكوت منصور عن التقسيم التنظيمي للحركة في الفترة الإنتقالية و ضم المنطقتين لقطاع جنوب السودان، وكذلك السكوت علي نزعة الإنفصال المرتفعة والمتواصلة وسط النخبة السياسية في الحركة الشعبية وجنوب السودان.
تميزت ورقة الدكتور النور حمد عن "منصور خالد: عقل نحو المستقبل"  بكثرة الإضاءات علي التقاطعات الفكرية والثقافية بينه و الأستاذ محمود محمد طه ،  اذ ظل منصور  يتصدي  للحملات الضارية ضد محمود بل نشط مدافعا عن حقه في التفكير الحر، وتقديم أطروحته المثيرة للجدل بأعتبارها احد تيارات الحداثة والعصرانية والتقدمية  في الإسلام. كما احتفت الورقة بإسهامات النزعة العقلانية التطورية عند منصور وقدرته علي مقاومة فرض التغيير بالقوة.
اطرف ما ورد في الأوراق هو الرصد والتحليل الممتع لدور منصور في التعليم التي قدمها البرفيسور  عبدالله احمد عبدالله،  الذي كان احد أعضاء لجنة منصور للنظر في تطوير مؤسسات التعليم العالي منذ ورقته الذائعة عن ملائمة مؤسسات التعليم لإحتياجات المجتمع المتغيرة، وهي محاولة باكرة لربط التعليم بالإحتياجات الفعلية للدولة والمجتمع. وقد جلب لهذه المهمة أفضل خبراء ذلك العهد وعلي رأسهم الامريكي جيري ستيبرز  الذين وضعوا توصيات اعادة هيكلة مؤسسات التعليم العالي علي النحو الذي يؤسس للنهضة العلمية.
يُتهم الدكتور منصور خالد كمعظم أبناء جيله بالبرود في التعبير عن خلجات عواطفه اي نزوعه لإعلاء العقلاني علي الإنساني، لكن نظرة عجلي لمرثياته التي ضمنها كتابه (في حضرة غيابهم) كفيل بإعادة النظر في هذا الزعم الغليظ، فما كتبه منصور عن أصدقائه الذين رحلوا منذ جمال محمد احمد، وأمين التوم، وعثمان وقيع الله، والرشيد عثمان وإحسان عباس، وخوجلي عثمان والطيب صالح،   ، يشفع له لرد غائلة هذا الاتهام الجزافي. ومن قرأ رثاءه  للدكتور الراحل عزيز بطران لا شك وقف علي تشظيات الحزن في دواخله وسط اشعاعات وفائه القلمي الممتد. وتقف انشودته الحزينة وهو ينعي الطيب صالح بأن اهل السودان دفنوا رفاة حلم مضي، تقف دليلا اضافيا  علي نزعته الانسانية  ونصاعة اللغة  وتفجير طاقتها التعبيرية  الكامنة.رغم إغلاظه علي من وصفهم ان الطيب صالح لديه قدرة احتمال ومؤانسة للعاطلين عن كل موهبة.
من حق الناس ان يختلفوا علي مجمل كسب منصور العملي وخياراته السياسية التي وصفها الصادق المهدي من قبل بأنها رهانات خاسرة، لكن مناط الاتفاق انه يمثل  قيمة نوعية مضافة للحياة الفكرية والثقافية، وأحد مصادر الثراء والمعرفة في مجري منابعها الأصيلة، لذا فهو يستحق التكريم والإحتفاء، وقد قدمت في حقه أوراقا اوفت الغاية في التحليل والتجويد والتنويه بمجمل كسبه النوعي في النقد الواعي لعقلية الفشل لدي النخبة وترتيب أولويات النهضة والتآليف والإنتاج الفكري والمعرفي والثقافي.
قدم منصور وهو يحبو في بحر الثلاثينيات أطروحته الهامة ( حوار مع الصفوة)، التي أصبحت الركيزة الفكرية الاولي وهو يبني تنظيراته عن النخبة وإدمان الفشل، وما يحسب له انه كان يعبر عن تطلعات جيل الشباب وعقليته المتحفزة المتوثبة، وهو ما أشار اليه أستاذه جمال محمد احمد في تقديمه للكتاب. فعندما كان الترابي يخطو نحو مغامرته الكبري في أكتوبر كان منصور يعمق حفرياته المعرفية في حواره مع الصفوة ، وهما في عمر الثلاثين، كما كان عبدالخالق محجوب في الضفة الآخري في ذات العمر يعاظل اجتراحات الثورة الوطنية الديمقراطية التي ذبحها بليل علي اعتاب مايو، وهو يحرق المراحل حرقا فساقته الي حتوف التاريخ ومقصلة الغياب الدامي. ما يزال منصور يواصل نقد النخبة ولعن الصفوة آناء الليل وأطراف النهار وهي تفشل في كل المهام الوطنية الكبري، و في تأسيس الرؤية والتخطيط للنهضة، وشحذ الجهود والهمم لإعادة بناء الأمة ، لذا تساءل مستنكرا لمن تعزف مزاميرك ياداؤود؟
أنقدح الظن  في صدري ان منصور لم يحاور الصفوة كما أعلن، لكنه تعمد صفعها علي الملأ ، اذ سبح عكس خياراتها فقد كان غربيا في تفكيره وأسلوب حياته وارتضت هذه الطليعة ان تكون مشرقية الهوي تراثية المنزع. واختار ان  يكون الدين محايدا في خياراته السياسية ولم يرتهن لأيدلوجيا دهرية او غيبية، وكان عقلانيا عندما كان هدير الأيدلوجيا هو الصوت الطاغي، وكان ناقدا متحفزا عندما كان الذهن التسليمي الاذعاني هو سيد الموقف، وانتهت خياراته السياسية دون تطلعات الصفوة التي يحاورها، اذ بني صنم الحزب الواحد ودكتاتوريته حجرا حجرا حتي فارقه، ومن ثم مضي الي نهاية الشوط في الطرف الاخر وهو يتبني أطروحة السودان الجديد ويناصر زعيما من الهامش. لذا فإن منصور لم يحاور الصفوة بل صفعها علي وجهها. وعندما عاد منصور بعد تغريب وتشريق الي وطنه لم يجد من يحتفي بأنتاجه وتاريخه الا بقايا من ذات الصفوة التي ادمن صفعها علي وجهها. من سعي لتكريم منصور في قاعة الصداقة هي بقايا دولة الأفندية التي شغب عليها وصفعها علي الملأ.    
مناشدتي للمغاضبين من اهل الأيدلوجيا ان تناسوا معاركه السياسية وتجاوزوا عن خياراته التاريخية التي صنعتها ملابسات ومتغيرات كثيرة، حافزه في ذلك انه صاحب ذاكرة مضادة حيث قنع من السعي مع القطيع ، وحاول ان ينتصر للعقل، و لم يتأرجح وهو يغرز سيفه في فضاء المعرفة ويحارب دون قناعاته الفكرية، وان صانعته  بعض أنسال حظوظ النفس، وهو طبع البشر. مضي من عمر منصور الآن زمن المعارك السياسية ، التي خاضها علي أفضل ما يكون الذهن المتوثب والمتحفز في عنفوان شبابه وهو في عمر الثلاثين، والآن اتي صوت الحكمة وكلمته للتاريخ. فلا تشغبوا عليه  واحتفوا بثمرات عقله الثقافي والفكري فهي الابقي أثرا  والأعمق تأثيرا في سجلات التاريخ. ما يؤرقني ان منصور ترك منهجا لكن لم يخلف وراءه تلاميذا، وان تكاثر حوله المعجبون و الأصدقاء.
منصور هو آخر من بقي من الكبار بيننا بعد ان ارتحلت النجوم فحافظوا علي صوته حيّا بينكم، و لا تكثروا عليه الأوتاد والزعازع.

(نشر علي حلقتين في صحيفة السوداني).

khaliddafalla@gmail.com

 

آراء