دكتور حيدر بين اجحود أهل السلطان وعطاء أهل العرفان: آما آن أوان التدافع لدعم الإبداع؟

 


 

 

لم يهزني أمر مثلما هزتني تلك الرسالة التي بعث بها مظفر –ابن الدكتور حيدر إبراهيم- إلى رئيس الوزراء التشيكي، متطلعاً إلى عونه في المحنة التي تمر بها الأسرة، التي يتقلب عميدها في مستشفى بمدينة براغ وفي جوفه قلب أوهنته صروف الدهر وعاديات الزمان وظلم بني الجلدة. وما هزني في هذا الأمر إلا أن الذي تداعت أطرافه ووهن منه القلب والجسد، هو مثقف رفيع المكانة، قليل المثل، رفد وطنه بفكر ثاقب، وودفع بسنوات من عمره، ليلقي بعض ضوء على أركان الظلمات الوطنية. ولم يكن سبيله إلى ذلك وقوف بأبواب السلاطين، أو تقرب بالزلفى من أصحاب السطوة. فقد ظل الرجل يحفر بالأظافرصخر الظروف، لتبقي روافده لبلده وأهل بلده ما استطاع.

لا يملك المثقف عطاءً لبلاده قناطير الذهب والفضة، ولا المكنوزات من دينار أو دولار. بل يسعد النطق عند المثقف حين يتعذر عنه الحال. فلم يكن عطاء الحيدر لبلاده إلا من النصيب الأخير، أفكاراً ومواقف وتطلعات في وريقات، تصيب أوتخيب، تخطئ أو تصيب، تقسو أوتغضب، ولكنها في كل الحالات هي العطاء الموفي لوطنه. صحيح أنها في عمومها – عند حيدر - كلمات حارقة لأهل السلطان ، إلا أنها أصوات تصب في المنتهى في غدير الالتزام بالوطن، تماماً كما هو حال المعارض والموالي في منظومات الحكم، يكمل الواحد منهما الآخر في تعارض واختلاف يقصد به أن ينتهي بالوطن نهضة ورفعة.
بيد أن الذي واجه حيدراً في محنته من أهل السلطان هو إعراض لا شبيه له. بل هو إعراض يتوارى عنه حتى الذين جبلوا على ظلم ذوي القربي عند الملمات. لقد سكت أصحاب السلطان عن محنة الحيدر لأن عينه لا ترى ما تراه أعينهم، فهو لم يخالفهم موقفاً ومبدأ فحسب، بل ظل سالقاً لهم باللسان الحاد، حتى واجهوا القول بالفعل فأعملوا فيه ما يؤذيه حقاً، تسكيراً لمواقعه، ومطاردة له في الرزق والقوت حتى هجر الأرض وعاد كما كان...كلمة شاردة، تروم الأرض فتحوم السماء.
وهزني- سعادة- ذلك التدافع الكثيف من بنات وأبناء الوطن، لرد الجميل لمن أوفى لوطنه بالفكرة والموقف. فقد تلاقى على طبقات الاسافير رجال ونساء من نيِّري أهل السودان، بعضهم زامل ورافق حيدر، وبعضهم نهل من علم وفكر حيدر، وبعضه الأكثر لم يعرف حيدر إلا أفكاراً ومواقف على صفحات القراطيس. لقد عز على المتدافعين أن تشيح الدولة بوجهها وهي تبصر مثقفاً سودانياً تقاطرت عليه الرزايا، فضجت الوسائط – من المحيط إلى المحيط وحتى اليابسة فيما بينهما - حتى أثمرت عملاً سودانياً رفيعاً أبلغ الغايات، وحفظ الحيدر من كل سوء.
ما كان الحيدر وحده من مرت به منعطفات حرجة، ووجد مواقف كسولة - في أحسن حالاتها- من أهل السلطان، ولو أراد المرء أن يعد لجاء بقائمة. ولكن المحنة هي أم التدبير الحصيف، ولهذا فقد انعقد عزم ثلة من أبناء السودان على التلاقي في رحاب فكرة تستمد قوتها من واقعة كواقعة حيدر، ليقوم على امتداد السودانَيْن –المُهاجِر، والصابر الصامد- جهد يدرء عن المبدعين عاديات الزمن و عاديات السلطان.
لا تزال الفكرة في مهدها، ولكنا نسير بها وسط الأسافير مستلهمين واقعة الحيدر لتكون أساس العظة والعبرة.

galander@qu.edu.qa

 

آراء