ushari@outlook.com
أولا،
التقييم السياسي لأحداث تركيا
فلنترك جانبا الحقائق الثابتة أن الرئيس التركي أردوغان دكتاتور إسلامي مغرور، وديماغوجي قبيح يصف معارضيه في السياسة والفكر بأنهم "إرهابيون"، ونعرف أنه عنصري لا يعترف بحقيقة الإبادة الجماعية للأرمن على أيدي قبيلته التركية، يكره الأكراد يعذبهم ويتمنى زوالهم، وهو يتصور نفسه خليفة عثمانيا عصريا، ويظل يعاني من جرح رفض ألمانيا وفرنسا عضوية تركيا المسلمة في الاتحاد الأوربي.
تكفي "إسلامية" أردوغان لتفسير شخصيته العدوانية. تجده كإسلامي يتميز غيظا يغلي بالحقد على الجنود الانقلابيين الشباب صغار السن، وقد شهدناهم فوق الدبابة المسلحة مفزوعين بالخوف إلى درجة الطُّراش والبكاء وعدم القدرة على الوقوف على الرجلين أمام شباب مقاومين عزل في سنهم أو أصغر منهم يشبعونهم الضربات لكما وركلا، يريد أردوغان وهو جاهل بالمبادئ العامة للقانون "إعدام" هؤلاء الشباب الانقلابيين، على الطريقة الإسلامية، "بأثر رجعي".
...
لكن أردوغان، بكل تلك فظاظته، يظل الرئيس الشرعي لتركيا الديمقراطية، جاء بانتخابات صحيحة ونزيهة، وفق دستور علماني. ودونك فظاظة دونالد ترمب. فيمكن إزاحة أردوغان يوما كما يمكن إزاحة ترمب، عبر صناديق الانتخابات، لا بانقلاب عسكري. وتاريخ تركيا لا ينته بإسلامية أردوغان.
عليه، لا معنى للمغالطة عند تقييم الوضع المفضي إلى الانتصار الرائع والصحيح للديمقراطية بقيادة الأتراك الإسلاميين ضد الانقلاب العسكري في بلادهم. فالموقف الأخلاقي الصحيح هو أن نقف مع هؤلاء الإسلاميين الأتراك، في هذه الوضعية المُحددة بمكوناتها الجوهرية الحاكمة، وأن نهنئهم، كإسلاميين، على وقفتهم الشجاعة أمام الجيش العلماني الشرير، وأن نظل، مع ذلك، نرفض الأيديولوجية الإسلامية التي يعتمدونها. فالإسلامية ستظل دائما أيديولوجية فاسدة وغير صالحة للحكم أو لترتيب الحياة العامة أو الخاصة، بسبب "وجود" النصوص الحاكمة المكتوبة باللغة.
هذا المعيار الأخلاقي يلزمك بالانفعال الإيجابي مع عظيم انتصار هؤلاء الإسلاميين الأتراك لقضية الديمقراطية في بلادهم. وإلا كنتَ تريد أن تكون مصريا مُهرجا بِتاع السيسي، أو أنت ليبرالي علماني من النوع الانتهازي عندك الأمر أمر الديمقراطية لعبة التلاتة ورقات. فانتصار الإسلاميين الأتراك للديمقراطية في بلادهم هو كذلك انتصار لقضية الديمقراطية في السودان ضد المثقفين الإسلاميين الموتورين المتحالفين مع العسكر وهم أصحاب الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة.
فلنحتفي بالإسلاميين الأتراك، لأنهم بينوا لنا بالتجربة العملية، أمامنا، أنه يمكن للمقاومين المدنيين العزل من السلاح إلحاق الهزيمة الماحقة بالجيش عدو الديمقراطية الأول في السودان، ولأنهم انتصروا للديمقراطية، كفكرة إنسانية راقية، بالرغم من مشكلاتها أنها تأتيك أحيانا بترهات الإسلامية، وبتجاوزاتها، وبمثل هذا الإسلامي الديماغوجي المغرور أردوغان.
فما قد يبدو تناقضات لا يعدو كونه نتاج إجراءات البحث عن الحقيقة في تضاريس هذه الوضعية التركية المعقدة، وضعية الانتصار الرائع والمدهش الذي حققه المدنيون الأتراك، الإسلاميون بالدرجة الأولى، ضد جيش يتمثل الدكتاتورية وبشاعات تعذيب المعارضين وقتل الأمل وتدمير الحياة ذاتها، ليس فقط في تركيا بل في السودان أيضا حيث الجيش التافه المثيل جيش نظام الإنقاذ الإسلامي البغيض.
وفي جميع الأحوال، فإسلامية تركيا قشرة خارجية إسهامها الإسلامي الإيجابي الوحيد أنها سمحت للمرأة بأن ترتدي حجابها إن هي أرادت، دون معقب على قرارها من علماني غبي، غير ذلك فإسلامية تركيا فَشَنْك لا تقدم ولا تؤخر. ويمكن رد الانتهاكات المريعة التي ظلت تقترفها حكومة أردوغان إلى وراثة الدماغ السياسي العثماني، حيث لم تكن الخلافة العثمانية إلا أداة سلجوقية للمفظِعات من كل نوع. وأنت لا تجد في إسلامية تركيا ما يشبه الدولة الإسلامية الحقيقية، تلك الإجرامية الفاسدة في السودان. أي، إنك لا تجد في إسلامية تركيا نوع التنزيل بالعنف والقهر والإرهاب للشريعة الإسلامية الصحيحة في نظام الحكم وفي المؤسسات العامة وفي الحياة الخاصة. فبالمقارنة مع نظام الإنقاذ، ليست "إسلامية" تركيا إلا حركات براغماتية فالصو.
...
فلأن المدنيين إسلاميي تركيا أدهشوا العالم بهزيمتهم العسكر أصحاب الدبابات، يصبح الأمر الذي أراه جديرا بإعمال التأمل فيه، من منظورنا في السودان، هو الفرق الجوهري بين الدَّبَّاب الإسلامي التركي والدباب الإسلامي السوداني الإنقاذي.
فقد شاهدنا الدباب الإسلامي التركي، يحاول بيديه إيقاف حركة الدبابة المجنزرة المعتدية على الديمقراطية، وشاهدناه يتسلق هذه الدبابة وينازل بيديه العاريتين قائدها المسلح بيديه مدفع رشاش. وكذا شاهدناه يقف أمام الدبابة يصيح في قائدها يتحداه فأنا لن أبرح مكاني، تعال ادهسني بدبابتك، من أنت؟ من أين أتيت؟
كان هذا الدباب الإسلامي التركي، بذلك صموده وبتلك شجاعته، يتخذ موقفا وجوديا أخلاقيا صافيا، وكان مدفوعا بروحانية دينية مشدودة إلى حماية الأمل والديمقراطية والحقوق، ضد العدوان الجائر من جيش تافه.
...
أما الدَّبابُ الإسلاميُّ الإنقاذي المعروف في السودان، فقد كان مجاهدا عربيا إسلاميا عنصري المزاج، وكان ترك قريته بالقرب من حلة ود بانقا أو هي ود الترابي وذهب غازيا معتديا على أهل جنوب السودان في أرضهم. كان هذا الدباب الإنقاذي مهووسا، قضيتُه الوجودية كراهية "العبيد"، وكان مشعوِذا ذي تمائم وهذيان بالنصوص، تفكيرُه مستحوذ بتصاوير الحور العين ينتظرنه في الجنة إن هو قُتل في سبيل الله.
فبالتمييز بين هاتين الصورتين المتضادتين، نتمكن من اتخاذ الموقف السياسي الأخلاقي الصحيح إزاء الحدث التركي.
فألتفت إلى درس إضافي.
ثانيا،
دلالات الحدث التركي للسلطة القضائية في السودان
يتعلق الدرس الإضافي المستَقَى من تركيا بموضوع السلطة القضائية والقضاة. فقد كانت الضربةُ القوية المباغتة التي وجهها أردوغان إلى القضاة، كقضاة، أكثر الأفعال السياسية درامية في أعقاب انهيار الانقلاب العسكري.
كيَّف أردوغان القضاة المستهدفين بأنهم أعوان العسكر الذين نفذوا الانقلاب الفاشل، ومن ثَم لم يَكْتفِ باعتقال الثلاثة ألف من أولئك العسكر، بل أصدر مباشرة صبيحة يوم السبت، عبر مجلس القضاء العالي التابع لوزارة العدل والمسؤول عن التعيين ومحاسبة القضاة، مذكرات توقيف موجهة إلى 2845 قاضيا في مختلف الدرجات، ضعف عدد قضاة السودان تقريبا، ووضع أردوغان هؤلاء القضاة قيد التحقيق بشأن علاقتهم بالانقلاب، وبشأن ما يسميه هو "التنظيم الموازي" في مؤسسات الدولة، تنظيم غريمه غولين.
ثالثا،
النقطة المهمة هي كيفية التعامل مع القضاة في وضعية التغيير الراديكالي
تعضد حركة أردوغان الدرامية ضد القضاة في تركيا أهمية النقطة التي ظللت أثيرها بشأن كيفية التعامل مع القضاة في سياق التغيير في السودان، حين يأتي الوقت. وظللت أحرض الشباب على التفكير في الإعداد لحل السلطة القضائية الفاسدة الراهنة، بالنظر في تقنيات حلها، وفي كيفية إحلال البديل المعد سبقا في مكانها، استعدادا للوقت الذي ستأتي فيه "اللحظة الثورية المواتية"، للتنفيذ.
هذه "اللحظة الثورية المواتية"، فهمَها أردوغان، فلم يتأخر في استغلالها لتوجيه ضربته القوية في جسد السلطة القضائية التركية المعروف فسادها.
فيظل السؤال قائما للمقاومة السودانية:
كيف يتم التعامل مع السلطة القضائية السودانية الفاسدة ومكوناتها الداخلية ومؤسسيتها وتركيبتها البشرية (القضاة والموظفون)، في سياق أوضاع التغيير السياسي الراديكالي، بنهاية نظام الإنقاذ، وحيث لا قيمة أصلا لتغيير لا ينهي نظام الإنقاذ؟
فلننظر في مكونات النموذج التجريدي التقليدي البسيط للتغيير الراديكالي الذي ظل يطال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، بينما كان يترك السلطة القضائية لحالها، وهو النموذج الذي فجَّره أردوغان بإدراجه السلطة القضائية كموضوع للتغيير السياسي، في معية تغيير السلطتين التنفيذية والتشريعية.
ولعله كان أخذ الفكرة ذاتها من الإسلاميين السودانيين الذي فصلوا جميع القضاة غير الإسلاميين بمجرد توطيد أركان حكمهم، وهو ربما أخذها من قراءته الصحيحة أن القضاة كان لهم دور أساس في تقويض حكم الرئيس مرسي في مصر وفي إجهاض الثورة المصرية.
فهذه هي مكونات النموذج التقليدي للتغيير:
(1) قَطعُ رأس الملك، كناية عن إزالة السلطة التنفيذية المتمثلة في الرئيس والوزراء وكبار موظفي السلطة التنفيذية في الأجهزة الحاكمة الأساسية؛
(2) تسريح البرلمانيين في السلطة التشريعية؛
(3) بقاء السلطة القضائية على حالها، ربما برئيس قضاء جديد، وفق فهم مؤداه أن القضاة في المحاكم لا علاقة لهم بالسياسية، أو بالتغيير الجديد، فهم بتاعين تطبيق القانون على الوقائع، بالحياد والتجرد من الأيديولوجيات.
ذلك هو النموذج التقليدي الذي فجَّره أردوغان، بوضع القضاة في قلب العملية السياسية. فلننظر في التغييرات الراديكالية في السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، في سياق الحدث التركي. ويكون النظر هنا من منطلق هَمِّنا المحلي بكيفية التعامل مع السلطة القضائية السودانية الفاسدة، حين تأتي اللحظة الثورية المواتية، ومن منطلق كيفية الإعداد لتلك اللحظة.
فيبين استهداف أردوغان المفاجئ للقضاة إدراكَه الصحيح لخطر السلطة القضائية على كل تغيير سياسي من أي نوع. فهِم أردوغان أنه للتعامل مع الانقلاب لابد له من تعامل راديكالي يستهدف السلطات الثلاثة في ذات الوقت: التنفيذية والتشريعية والقضائية، خاصة القضائية.
السلطة التنفيذية
في البداية، قطع الإسلاميون، وأعوانهم، رأس المَلِك المتمثل في هذه الحالة في "الجيش"، بأكمله، كالسلطة التنفيذية الفعلية لها أساس خطابي في الدستور، وكان الجيش قبل الانقلاب يطغى باستعلائية فظة على مواطني تركيا ويقمعهم بدعوى "الأتاتوركية"، وهي رديف "الإسلامية" في الوضعية السودانية، وظل الجيش يناجز عبر السنين لأجل الإبقاء على تحكمه في مفاصل الحياة السياسية التركية بأكملها.
السلطة التشريعية
كان الفعل التركي أثناء مغالبته الانقلاب راديكاليا أيضا على مستوى تعامله مع السلطة التشريعية، لأن الأحزاب العلمانية المعارِضة وقفت في البرلمان مع الحزب الإسلامي الحاكم، حزب أردوغان، في رفض الانقلاب الذي كان قادته ادعوا في بيانهم الأول أنهم أرادوا بالانقلاب تحقيق أحلام العلمانيين في دولة تركية غير إسلامية.
فتمثَّلَ هذا الموقف المبدئي من قِبل البرلمانيين العلمانيين إزاء "الديمقراطية"، بعِلَّاتها، في رفضهم الصريح حكم "العسكر"، مما ورد في البيان المشترك من قبل جميع الأحزاب في البرلمان أثناء الجلسة الطارئة ليلة الانقلاب. فكان ذلك الإجماع تغييراً لحظيا ثوريا ضد النموذج التاريخي الانتهازي (العلمانيون والديمقراطيون في مصر مع انقلاب السيسي، الشيوعيون في السودان مع انقلاب مايو، والإسلاميون غير الحزبيين مع انقلاب الإنقاذ).
هكذا، تم رمزيا "حلُّ" البرلمان الافتراضي، المفترضة انتهازيته التقليدية، وأصبح لتركيا، في تلك اللحظة الثورية، برلمان "أخلاقي" من جميع الأحزاب التي وقفت متحدة مع الديمقراطية وضد تفاهة الجيش.
السلطة القضائية
في سياق هذا الزخم الثوري، جاءت راديكالية التغيير التركي في استهداف أردوغان السلطة القضائية، بصورة مفاجئة ومباشرة كان أردوغان مستعدا لها أصلا ببرنامج متكامل للتعامل مع خطر القضاة في لحظات التغيير الراديكالي.
عليه، لابد لنا من استيعاب الدروس من خبرة هذا الإسلامي ذي القدرات، أردوغان، في مباغتته القضاة مباشرة بعد حسم أمر الانقلابيين العسكر، بل قبل أن ينتهي من أمر حسمهم. فالقائمة بالقضاة المستهدفين، 2845 قاضيا، كانت جاهزة في جيب أردوغان، منذ زمن. لأنها ظهرت فجأة صبيحة السبت قبل الدحر النهائي للانقلاب. وواضح أيضا أن التدابير المؤسسية الضرورية لإيقاف القضاة كانت جاهزة، فقد صاحبت عمليةَ إيقاف القضاة صفةُ الرسمية واحترامُ الإجراءات.
ففي يوم السبت، اجتمعت الجهة الرسمية المسؤولة أصلا عن فصل القضاة وتعيينهم، المجلس العالي للقضاة ووكلاء النيابة، فعينت أعضاء إضافيين في المجلس، وفصلت من لم يكن متفقا مع القرار السبقي، ثم اتخذت القرار بإيقاف القضاة، وكأن أردوغان نفسه لا علاقة له بالقرار.
هكذا، ضمن أردوغان مباغتة القضاة الذين كانوا كدأبهم في مثل هذه الحالات الثورية بعد انهيار النظام القديم سينزوون في قاعات محاكمهم وكأن الأمر لا يعنيهم، وكانوا سيتخفون وراء حجب خطاب استقلالية القضاء يتصنعون المَسْكنة ويدعون بالكذب أنه لا علاقة لهم كقضاة بالسياسة.
...
فمثل ذلك التدخل العنيف من قبل أردوغان ضد القضاة، وقد فهم خدعتهم، هو ما يتعين على الشباب في السودان فهمه كدرس أساس من دروس الأحداث التركية: أن تكون مثل أردوغان مستعدا ببرنامجك في تلك اللحظة الثورية المواتية التي لا تتحكم أنت أصلا في توقيتها. فاللحظة الثورية ستفاجئك، ومن ثم عليك حينئذ أن تكون مستعدا أصلا ببرنامجك لتوجيه الضربة القاضية التي تطيح بالقضائية الفاسدة لا أمل يرجى منها، وإلا فاتت عليك الفرصة فتستجمع القضائيةُ الفاسدة قواها لتنقض عليك وعلى برنامجك للتغيير.
رابعا،
استهداف أردوغان القضاة بالتشريع والتدابير الإدارية
لم تكن تلك ضربة أردوغان للقضاة حين استهدفهم في "اللحظة الثورية المواتية" هي الأولى. فقد سبقتها قبل أسبوعين فقط من وقوع الانقلاب ضربة أخرى موجعة. وسائغ الاستنتاج أن ضربة القضاة قبل أسبوعين خلقت نفسانيات لدى القضاة المستهدفين فتورطوا في الانقلاب، فجاء رد فعل أردوغان الانتقامي ضدهم بإخراج الورقة من جيبه فيها أسماء 2845 من القضاة تقرر أصلا منذ زمن فصلهم من العمل. وما "الإيقاف" للتحقيق في دور مفترض لهم في الانقلاب إلا تمهيد لفصلهم من العمل.
وكما أسلفت، يجب أن ندرك هنا أن أردوغان لابد كان قرأ بصورة جيدة تجربة قضاة مصر والنائب العام المصري في إعاقة جهود الرئيس مرسي في الحكم. فقرر أردوغان العمل مبكرا بصورة منتظمة لتحجيم دور القضاة.
قبل أسبوعين فقط من الانقلاب العسكري، مرر حزب أردوغان قانونا لإعادة هيكلة السلطة القضائية في تركيا، ليتم وفق القانون الجديد إنهاء خدمة سبعمائة قاضيا، وخلخلة المحاكم الإدارية التي كان القضاة يستخدمونها لمضايقته بقضايا المواطنين ضد حكومته.
ولا تحسبن أن القضاة السبعمائة المهددين بالفصل بالتشريع الجديد في أول يوليو 2016 كانوا ذهبوا فجلسوا في بيوتهم يلعقون جراحهم ينتظرون خطابات الفصل. ولا ننس أن القضاة سياسيون من الطراز الأول. فنعرف من نظرية العقل أنهم لابد انضموا إلى الانقلابيين، أو على أقل تقدير حرضوهم.
فالدرس هو أن نتذكر دائما خطر القضاة والقضائية والقضاء في كل تغيير سياسي في السودان. خاصة وأن القضاة يعرفون أن المقاومةَ ربما تكون تُعد لحل السلطة القضائية، وهو ما أدعو إليه وأعمل لأجله.
تبين لنا التجربة التركية الحضور القوي للخطاب بشأن القضاة في لغة الانقلاب التركي الفاشل، في ورود الإشارات في البيان العسكري الأول للانقلابيين إلى القضاء والقضاة والقانون. ومن ثم أهمية قراءة استهداف أردوغان للقضاة على خلفية فهمه الصحيح للقضاة كـ "حيوانات سياسية"، أي كسياسيين يستخدمون قدراتهم المؤسسية لتركيز مصالحهم كشريحة طبقية من العلمانيين أصحاب المصلحة في الدولة الأتاتوركية العميقة الفاسدة.
...
كذلك كان أردوغان قبل عامين تقريبا 2014 استهدف إداريا القضاة بالتنقيل المفاجئ، مثيرا بذلك الفوضى في الترتيبات القضائية الفسادية التي كانت قائمة ومستقرة، وقضائية تركيا معروفة بفسادها. فالنقل المفاجئ للقضاة يدمر نسق تجارة العصابات الإجرامية التي ينشئها القضاة في المحاكم ويرعونها عبر سنوات طوال.
وكنت قدمت أمثلة لعصابات القضاة القائمة في المحكمة العليا في السودان (عصابة عبد الباسط عبد الله حامد وأحمد محمد عبد المجيد وصلاح التيجاني الأمين، وعصابة وهبي أحمد دهب)، وفي محكمة الاستئناف (عصابة فادية أحمد عبد القادر، وعصابة إلهام وني)، وهنالك عصابة القاضية كوثر في الديوم الشرقية وفيها المحاميان علي أحمد السيد وإيمان المك وأربعة قضاة آخرون، أزهري شرشاب وأحمد الطيب عمر ويحيى أحمد محمد خير وأنس حسن مالك، وهكذا.
فالعصابات الإجرامية التي يرأسها قضاة حقيقةٌ ثابتة في تركيا وفي السودان. ولا يدور الفساد القضائي أصلا إلا في سياق اتفاق جنائي فيه أطراف عندهم اتفاقية. ولا شيء يعذب القضاة رؤساء وأعضاء العصابات مثلما يعذبهم التنقيل الفجائي الذي فرضه عليهم أردوغان عبر وزارة العدل التي يسيطر عليها. والنقليات من نوع ما فعله أردوغان بالقضاة في العام 2014 لابد تركت أثرا تخريبيا في مشروعات الجريمة المنظمة القائمة في القضائية التركية. وبالطبع كانت لأردوغان دوافع انتقامية خاصة وراء استهدافه القضاة، وتعلقت بالتحقيقات في قضايا فساد تورط فيه ابنه وبعض وزرائه. فأردوغان كذلك إسلامي فاسد، عمل كل شيء للتستر على الجرائم المتعلقة بصفقة النفط العراقي مع إيران.
خامسا،
في لزوم الإعداد السبقي لخطط المقاومة
فلأنا في مجال استقاء الدروس من الأحداث التركية الأخيرة بشأن القضاة، لا يكون الأمر هنا متعلقا بإسلامي أو علماني، بل بكيفية التعامل التقني المجرد مع القضاة كجنس مهني له أجندة سياسية ومصالح طبقية، فلن يقبل هؤلاء القضاة أن تتم الإطاحة بهم حتى وإن كانوا فاسدين، بل لن يقبلوا الإطاحة بهم لأنهم فاسدون.
لابد للمقاومة السودانية من رسم مسار زمني دقيق فيه جميع التفاصيل لتوجيه الضربة القاضية للسلطة القضائية السودانية الفاسدة، في اللحظة الثورية المواتية. وأن يتم الإعلان عن ذلك مسبقا، بأن نضع خطة التغيير وبنية القضائية البديلة المتفق عليها في العلن، لا سرية في هذا الأمر، ثم تستمر المقاومة تنتظر تلك اللحظة الثورية المواتية غير المعروف ميقاتها لأي من الأطراف. فحتى حين يكون القضاة الفاسدون في السودان يعرفون أن المقاومة تخطط لحل السلطة القضائية، فهم لن يعرفوا متى تكون تلك اللحظة الثورية المواتية، لكنها حتما حين تأتي ستجدهم في وضعية استضعاف من هول الصدمة السياسية.
وينطبق الأمر ذاته، أمر التخطيط السبقي العلني، على كيفية التعامل مع المؤسسات الأخرى، مثل القوات المسلحة وجهاز الأمن، وحتى في الخطط الشبابية لمحاربة الفساد في المجتمعات المحلية، في المستشفى والمدرسة والمجلس المحلي والدكان والأجزخانة، وفي كل المرافق التي يتعامل معها المواطن.
لا أرى للسودان مستقبلا مع بقاء المؤسسات الإجرامية مثل القضائية والجيش وجهاز الأمن بذات تركيبتها البشرية وبتدابيرها المستقرة والمركبة أصلا للإجرام ولصناعة الفساد.
سادسا،
إسهام أردوغان في تفكيك خرافة القضاة
همي وراء تبيين قوة أردوغان وسلامة استراتيجياته في التعامل مع "القضاة" هو تثبيت إسهام أردوغان في إنهاء خرافة "استثنائية القضاة"، وتثبيت إسهامه في المعرفة العامة أن القضاة "سياسيون" مثلهم مثل جميع الفئات الأخرى، وأنهم موضوعٌ للتدخل السياسي في سياق المنعطفات التغييرية الكبرى.
فسياسية القضاة معروفة، لكن درامية التجربة التركية سلطت الضوء على الأمر، ولفتت الانتباه إلى وقائع سابقة عن دور القضاة في السياسة، في مصر والسودان وليبيا والمغرب وتونس والعراق واليمن. ومن كل ذلك سيتخلق وعي شعبي عام يرفض الأوهام والخرافات التي ظل القضاة يَبُثونها عن أنفسهم وظل أعوانهم يروجون لها. أوهام وخرافات من نوع: خصوصية الصنعة القضائية، تقوى القضاة، استقلال القضاء والقضاة، الحصانة القضائية ضرورية وفي صالح المواطنين، نزاهة القضاء الإسلامي، وهنالك الخرافة الكبرى أن القاضي لتحديد قراره القضائي ينظر في الوقائع ويختار القانون الواجب التطبيق فيطبقه وعلى أساس ذلك يتخذ القرار، بكل حيدة وتجرد، وكله محض كذب واستهبال.
فما القضاة إلا حرفيون عاديون أصحاب صنعة يتكسبون منها، وهم سياسيون مخادعون على درجة من الدهاء عظيمة، مهمومون بالدرجة الأولى بمصالحهم الشخصية، وهم يستخدمون تكنولوجيا القضاء المتمثلة في الرموز والجلابيب والحجاب وصرة الوش وعظم العجيزة وطلاسم القانون ولغونة الكلامات أدوات كهانة لتعزيز مكاسبهم الفئوية الطبقية.
فتتأتى قيمة التجربة التركية في أنها وضعت "القضاة" في بؤرة الضوء كموضوع سياسي. فأصبح عاديا أن تناقش الصحف موضوع القضاة. وحفزت هذه التجربة التركية الدرامية لزوم تفكير المقاومة السودانية في القضاة كـ "سياسيين". ليكون التعامل مع هؤلاء القضاة تعاملا سياسيا، بالدرجة الأولى. بتفكيك احتيال القضاة في خطابهم وفيه زعمهم الكاذب أن لهم "خصوصية"، بل هم يدعون "استثنائية"، بعلة أنهم "فوق السياسة"، وأنهم "لا علاقة لهم بالسياسة".
فبعد فعل أردوغان العنيف ضد القضاة، بدأت تترى من الجهات التي فجعها فشل الانقلاب العسكري الكلامات المعروفة عن أهمية "احترام القانون"، واستقلالية القضاء، واستقلال القاضي، وحصانة القضاة. بينما موضوع القضاة، في وضعية التغيير الراديكالي، في اللحظة الثورية المواتية، في تركيا أو في أي مكان آخر، موضوع "سياسي" بالدرجة الأولى ولا تنطبق في هذي وضعية التغيير الراديكالي المعايير القانونية أو القضائية التقليدية.
لكن الوضعية الثورية ذاتها ليست فوضوية مفتوحة لكل فعل من أي نوع، بل هي مقيدة بلزوم اعتماد تحليل صحيح للأوضاع القضائية، وبلزوم تقديم البيِّنة لدعم الادعاءات ضد القضاة محل الفعل الثوري. ولابد دائما من التفكر السبقي والتأمل. ويكون الحكم على مدى مشروعية تدابير التغيير الثوري على أساس "الأخلاق"، لا على أساس العقيدة القضائية أو القانونية التقليدية السارية.
فعلى سبيل المثال، ولأنا نعرف السياق، ونعرف أن القضائية التركية فاسدة، لا يمكن أن نذرف دموعا على القضاة الذين أوقفهم أردوغان من العمل، فقط بحجة تحتية أن أردوغان إسلامي، ومن ثم تتم بالغرض السياسي الانتهازي إثارة موضوعات الحوكمة واستقلال القضاء، وكذا لا يجوز أن نعبر عن رفض لموقف أردوغان فقط لأن القضاة المستهدفين علمانيون يرفضون إسلامية أردوغان وحزبه الحاكم.
ولنتذكر ما دفعتُ به في مقال سابق أن القاضي الإسلامي النزيه، مثل محمد إبراهيم محمد، المتأثر بالأفكار الإسلامية ضد المرأة، لنقل، أفضل أخلاقيا ألف مرة من قاض علماني فاسد بتاع جندر.
فالقاضي الإسلامي النزيه يمكن إصلاح تحيزه، بالتدريب والتثقيف والمحادثات، أما العلماني الفاسد فلا فائدة ترجى منه ولا مكان له في السلطة القضائية يتعين فصله. فالمعيار الجوهري لهداية كيفية الخوض في هذه الأمور، في سياق التغييرات السياسية الراديكالية، هو "الفساد والنزاهة".
تلك هي التقاطعات الدقيقة التي يتعين أن نلتفت إليها في التعامل السياسي مع القضاة والقضاء في سياق تقييم الدروس التركية في وضعيات التغيير في السودان.
...
سابعا،
مقترح للمقاومة
كيف تتعامل المقاومة مع القضاة والقضائية
فأرى أن تعتمد المقاومة السودانية إسهام أردوغان في تثبيت "سياسية" القضاة والقضاء، وأن تفيد من استراتيجياته وتكتيكاته المتمثلة في تكييفه القضاة والقضاء موضوعين سياسيين في جوهرهما.
لكن يتعين على المقاومة رفض تسبيب أردوغان لاستهدافه القضاة والقضاء، تسبيبه المرتكز على أن القضاة المستهدفين يحملون أفكار غولين أو أنهم يتمثلون التيار الموازي، وهي ذاتها لغة "الطابور الخامس".
فالأصوب للمقاومة السودانية أن تفهم موضوع التعامل مع السلطة القضائية ومع القضاة على أساس الفساد المؤسسي في السلطة القضائية، وعلى أساس فساد القاضي الفرد.
على المستوى المؤسسي،
يتعين النظر في وضعية السلطة القضائية السودانية كمخرأة عامة للفساد. واللغة مقصودة. من حيث إن الفساد منتظم في المحاكم بدرجاتها، وإن القضاة يشكلون عصابات إجرامية أفقيا في المحاكم ورأسيا عبر درجات المحاكم لصناعة الفساد، وإن بضاعة تجارتهم هي القرارات القضائية الفاسدة، أو الصحيحة للبيع وبالابتزاز. وإن القضاة يفسدون دون الخوف من محاسبية من أي نوع، غير شد الأذن أو النقل إلى محكمة أخرى. وإن كبار القضاة ورؤساء الأجهزة القضائية ورئيس القضاء حيدر يتسترون على جرائم القضاة في مجال صناعة الفساد.
هذا الفهم الصحيح سيؤطر كيفية التعامل مع القضائية، بحلها، وبإحلال البديل المعد سلفا مكانها، في اللحظة الثورية المواتية.
على المستوى الفردي،
يتعين النظر فيما إذا كان القاضي الفرد المستهدَفُ فاسدا، وفق تعريف الفساد القضائي على أنه الكتابة الاحتيالية المتدبرة للرأي القضائي، بنسج القاضي هذا الرأي بالانحراف عن القانون وبأفعال الخداع والتدليس. فهذه مسطرة تقييمية لها أساس في الوقائع المادية في نص الرأي القضائي مقروءا مفسرا في سياق مجمل نصوص الخطاب ذي العلاقة به، في الأوراق في ملف القضية وفي سجلات المحكمة، وفي القانون الواجب التطبيق، في نصوص القانون والسوابق القضائية والدستور والكتابات القانونية المتعلقة بموضوع النزاع. فهنا لا مجال للمغالطة بشأن اتهام جزافي ضد القاضي.
ثامنا،
سيفشل أردوغان أمام القضاة
سيفشل أردوغان في إسباغ مشروعية ثورية أو أخلاقية على برنامجه لاستهداف القضاة، لأن القضاة الماكرين الذين سيتم فصلهم وفق تسبيب أردوغان المعلن عنه سيقولون إنه تم عزلهم من القضاء لأسباب "سياسية"، وسيتحدُّون أردوغان في المحاكم الإدارية والمحكمة الدستورية، ولن تكون عند أردوغان حجة يعتد بها. وهو ما لا يفهمه هذا الإسلامي المغرور.
فالتحليل الانتقادي للوضعية التركية بشأن القضاة يبين أن نجاح أردوغان في "تأديب" القضاة نجاح تقني تكتيكي وليس نجاحا موضوعيا استراتيجيا. لأن أسبابه المقدمة لتبرير استهدافه القضاة خاطئة. بالقول الذي ظل هو وأعوانه يرددونه إن الثلاثة ألفا من القضاة أعضاء في تنظيم غولن، أو إنهم القضاة يعتقدون في فقه غولن، أو إنهم قضاة علمانيون يعرقلون سياسة أردوغان.
فالذي أراه هو أنه من حق كل قاض أن يكون له رأي سياسي، مهما كنا نراه رأيا بائسا، وصحيح أن الرأي السياسي للقاضي ينسرب في كتابة الرأي القضائي، وكذا يثير الشبهات والقلق ويدعو إلى التدخل، لكنه كرأي سياسي غير كاف لإيقاف هذا القاضي من العمل، وإلا لزم إيقاف جميع القضاة الإسلاميين من العمل.
فيمكنك أن تختار شخصا ليكون قاضيا بإعمالك معايير الكفاءة المعرفية والحرفية، وكذا وفق معايير سياسية، مثل أن تكون تريد قاضيا تقدميا في أفكاره إزاء المرأة، أو قاضيا إسلاميا في توجهه، كله جائز، لكن لا يمكن أن تفصل قاضيا بسبب موقفه الفلسفي إزاء المرأة، مهما كانت طبيعة موقفه الفلسفي.
فأنت تفصل القاضي الفرد فقط لعلة الفساد القابل للإثبات بالأدلة المادية. وأنت تحل السلطة القضائية حين تكون قدَّرت بصورة معقولة على أساس بينات قوية أن الفساد فيها أصبح هيكليا ومنتظما، رغم وجود أقلية من قضاة نزيهين. وكله تحكمه "أخلاقية" المشروع الذي يتم في إطاره حل السلطة القضائية.
ولأن المشروع الإسلامي في السودان غير أخلاقي، فهو مشروع الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة التي نعرفها، لا ينطبق عليه شيء، كل ما يدور في سياقه باطل.
فأخلاقية المشروع السياسي هي التي تحكم مدى شرعية القرارات "الثورية" من نوع حل السلطة القضائية السودانية الفاسدة، أو من نوع ما فعله أردوغان بإيقاف 2845 قاضيا من العمل.
...
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com