السيد عبدالرحمن المهدي والتعليم (3-3): عرض لكتاب “الجزيرة ابا: همس التاريخ” د. الطيب احمد هارون .. عرض: صديق امبده

 


 

د. صديق أمبده
7 September, 2016

 


(دار جامعة السودان المفتوحة للطباعة 2014)(309 صفحات).

د. صديق امبده
مقدمة: هذا كتاب يستحق القراءة ومجهود تجب الاشادة به عدة مرات وليس مرة واحدة. قيمة الكتاب وفرادته تكمن في الكم الهائل من المعلومات التي جمعها الكاتب خلال 16 عاما من افواه الانصار المعاصرين والمشاركين في ذلك التاريخ (حوالي 200 شخص) ومن محفوظاتهم الشخصية. تبع ذلك أن كان الباحث استاذا في مدارس الجزيرة أبا الثانوية ووجد وثائق الدائرة او المتبقي منها في سراي الامام عبدالرحمن ، والذي كان جزئيا مقرا لدائرة المهدي، ثم اكمل كل ذلك بالمراجع المطبوعة والرسائل الجامعية ومن دار الوثائق القومية. وهو سفريجد قيمته في مضاهاة المحكي شفهيا بما هو موجود في الوثائق و من ثَم الوصول الي الحقائق، وقد سبقه في هذا المنحي ربما فقط الاستاذ زلفو في كتابيه عن شيكان وكرري. الكتاب في سلاسة راوية مشوِّقة ، وهو يندرج في اطار تأريخ ما أهمله التأريخ ، ولذلك اسماه الكاتب "همس التاريخ" لانه يحكي بعضا من المسكوت عنه في تاريخ الانصار والجزيرة أبا والسيدعبد الرحمن المهدي. الكاتب الدكتور الطيب هارون من أبناء الانصار الملتزمين إذ يقول "أ نا من أبناء الانصار الذين يكنِّون لامامهم نوعا من الاحترام يشبه التقديس ". لكنه كمؤرخ يقول "عندما بدأ التاريخ يتكلم قررت ان اصمت، وبدأت احاسيس التقديس والعصمة تتلاشي." صفحة 9 . والكتاب في رأي المؤلف يتضمن "حقائق تأريخية تنشر لاول مرة، معلومات يندهش لها حتي أبناء الجزيرة أبا أنفسهم ، لأنه لم يكن متاحا التداول فيها، بل كان التداول فيها يهدد حياة متعاطيها". ص 5
في الجزئين الاول والثاني من استعراض الكتاب تناولنا سيرة السيد عبدالرحمن ودائرة المهدي و ذلك في اطار علاقتهما بالجزيرة لأن تأريخ الجزيرة أبا هو تاريخ هذه العلاقة بين السيد والدائرة والجزيرة. في هذا الجزء الثالث والاخير سنتناول موضوع التعليم الذي شغل جزءا معتبرا من الكتاب.
بدأ التعليم الديني بالجزيرة أبا بالخلاوي مند بداية قدوم الانصار لها، وبحلول عام 1940 كانت هنالك اربعة تُّقابات (خلاوي) كبيرة تخرج حفظة القرآن. وفي عام 1944 انشـأت الدائرة معهدا دينيا اوسط يقبل له من خريجي الخلاوي ومدارس الارشاد (انظر ادناه) ويوزع الذي يكملون الدراسة في المعهد علي مناطق الانصار ليكونوا مرشدين دينيين.
أما التعليم الاكاديمي فقد بدأ بافتتاح اول مدرسة أولية بالجزيرة أبا عام 1924. ويقول المؤلف كان اول ناظر (مدير) لها هو الشيخ رحمة الله احمد من منطقة بربر، وقد عمل ناظرا لها لمدة ثلاثين عاما حتي وفاته عام 1954. ويضيف "أري أن هذه المدة الطويلة من العمل كانت تحقيقا لرغبة السيد عبد الرحمن، لأن الناظر كان ملتزما بسياسة السيد التعليمية التزاما تاما"(ص174). ويقول أيضا "كانت دائرة المهدي تزهد شباب الانصار في التعليم بعد المرحلة الاولية لسبب مهم جدا ورئيسي وهو أن يتفرغوا للإنتاج في اعمال الدائرة المختلفة، ومن الذرائع التي تقدم لاقناع ذويهم أنهم سوف يطِّلعون علي ما يكتب في المجلات والكتب مما لايتفق وحياة شباب المسلمين وأن علماء المسلمين منعوا قراءة كتب الفلسفة والطبيعة" ص 176. كما ذكرفي مكان اخر أن الدائرة كانت لاتشجع ابناء العمال علي دخول المدرسة علي ان يكتفو بالتعليم في الخلوة والانخراط في معسكرات النظام (ص177). وعندما بدأ أبناء العمال يبدون بعض التذمر من أنهم محرومون من فرصة التعليم ربما بسبب معسكرات اولاد النظام التي تضم أبناء العمال ، و شعرت الدائرة بالمشكلة فكَّرت في إنشاء مدارس أهلية محلية اسمتها "مدارس الإرشاد" لاستيعاب أبناء العمال وذلك في عام 1948 بغرض تربيتهم تربية دينية وتدريبهم في اقسام الدائرة الزراعية، ومدة الدراسة ثلاثة سنوات. لكن عندما اكمل التلاميد السنة الثالثة ظهرت مشكلة مستقبلهم ، إذ سكتت خطة الدائرة لانشاء المدارس عن مستقبل خريجيها ، وحينها رأوا أنها ليست اكثر من خلاوي نظامية ، إذ ليس لتلاميذها أي مستقبل.
كما انشات الدائرة المدرسة التوجيهية عام 1946والدراسة فيها لمدة سنتين بعد الاولية وتدرس منهج زراعي وصناعي. وقد كانت المفاجأة "أن التلاميذ الذين تم قبولهم في السنة الخامسة (القسم الزراعي والصناعي) وعددهم اثنا عشر تلميذا لم يحضر منهم احد للمدرسة " ص179، كناية عن عدم قناعتهم بجدوي تلك المدرسة الاهلية التي ليس لخريجها مستقبل في الوظائف الحكومية، وإنما تخرج مساعدي خولية في مزارع دائرة المهدي. ويقول المؤلف (ص180) ،" المدرسة هي قفل طريق مباشر لأبناء الجزيرة أبا أمام تقدمهم إلي المستوي الاعلي في التعليم".
لم يذكر المؤلف عما إذا كان السيد عبدالرحمن قد طلب من وزارة المعارف فتح أي مدرسة أولية في أبا خلال الفترة من 1924 وحتي وفاته عام 1959 وماذا كان رد الحكومة. لكن في الجزء الاخيرمن تلك الفترة تم انشاء عدد من المدارس الصغري (ثلاثة سنوات) في كل من الجباري 1948 بواسطة مجلس ريفي كوستي ، والجزيرة أبا الصغري للبنات 1948 التي كانت بدايتها اهلية ثم ضمت الي وزارة المعارف ورفعت الي اولية للبنات عام 1954، و طيبة الصغري للبنين1957، و قفا الصغري للبنين 1959، و قفا الصغري للبنات 1962. ولكن لم تنشأ مدرسة اولية اخري قائمة بذاتها أو مدرسة متوسطة في الجزيرة أبا حتي عام 1964 وهي مدرسة أنشأها الاهالي (مدرسة أهلية شعبية) من مواردهم الذاتية علي قلتها، كما لم تنشأ مدرسة ثانوية حتي 1969 (انقلاب مايو).
رغم عدم تطور التعليم الاكاديمي بصورة مرضية كما في أعلاه إلا أنه كان هناك تدريب مهني استفاد منه عدد من أبناء الجزيرة أبا. يقول المؤلف " وقد اتصل تطور أغلب هذه الصناعات باحتياجات الدائرة ، أي بوجود طلب لتلك المنتجات والخدمات. مثلا نتيجة لتوفر جلود المواشي لدي الدائرة وجه السيد سنة 1924 باختيار اربعة من أبناء العمال لتعلم صناعة المراكيب علي يد الاسطي بيلو واشتهرت منتجات ورشة المراكيب فيما بعد باسم (قطع الجزيرة)، وفي سنة 1936 أنشأت الدائرة ورشة هندسية كبيرة في قسم طيبة الزراعي بالجزيرة أبا تحت ادارة المستر رودلف، وفي سنة 1941 أنشأت الدائرة ورشة لصناعة الكبابيت وبها قسم لصناعة الشنط تحت ادارة النيجري محمود نوفاي ونقلت ستة من أولاد النظام لتلك الورشة كما ارسلت 1945 اثنان منهم لمصنع القرش لتعلم صناعة الشنط والنسيج، وفي اوائل الاربعينات ايضا ارسلت عدد اخر الي كوستي ليتعلموا دباغة الجلود في مدبغة محمود ربيع، وفي سنة 1945 احتاجت الدائرة لمن يقوم لها بعمل سمكرة صفائح الجبنة فاختارت من اولاد النظام من يتعلم ذلك" (ص196). كما كانت للدائرة ثلاثة ورش لصناعة وصيانة المراكب تتحرك حسب حاجة الدائرة وحسب متطلبات السوق (ص199). ويقول المؤلف في مكان آخرإان "هذه الجهود وجهت شباب الجزيرة ابا وجهة فنية فصار كثير منهم فنيين مهرة في مجالات مختلفة سواء في قيادة العربات او ادارة طلمبات الري الزراعية أو في ورش الحدادة والبرادة والخراطة الخ" (ص291).
ويذكر المؤلف أنه في عام 1945 كون السيد لجنة لدفع مصروفات للذين لا يستطيعون دفعها للمدارس والكليات و المبلغ المرصود لها كان في حدود 2000 جنيه. ويري -استنادا علي اراء عدد ممن استجوبهم - أن 95% من هذه المنح قد ذهب لغير أبناء الانصار، ويتساءل عن حتي عن ال5% المتبقية وهل استفاد منها ابناء انصار الجزيرة أبا علما بأن آباءهم هم اصل هذا المال الذي يتصدق به السيد وبدون مقابل .هذازعم غليظ ، لكن هنالك بعض الشواهد المتناثرة التي تشير إلي أن بعض هذه المنح علي الاقل استفاد منها أخرون لا علاقة لهم بالانصار. فقد ذكر الاستاذ مبارك الفاضل أن من بين من استفاد من إحسان السيد عبدالرحمن الناظر محمد الامين ترك الذي تكفل السيد بنفقة تعليمه في كمبردج مع ابنه احمد المهدي، والشريف حسين الهندي والذي كان زميلا لابنه الامام الهادي في كلية فكتوريا في الاسكندرية علي نفقة السيد. ولكن القول الفصل حول اهمتام السيد عبدالرحمن بالتعليم ، خاصة في مجال اسرته ، جاء في ورقة الباحث سيد محمد علي احمد الحوري ( الامام عبدالرحمن المهدي والتعليم- في مجلد الاحتفال بمئوية السيد عبدالرحمن والذي قام بتحريره كل من البروفيسر يوسف فضل والاستاذ ابوسليم والاستاذ الطيب ميرغني شكاك) صفحات 245-297.
يقول الاستاذ الحوري أن اقتناع السيد عبدالرحمن بجدوي التعليم الحديث قد اكتمل بعد زيارته لبريطانيا سنة 1919 ومشاهدته لما يحدثه مثل هذا النوع من التعليم من تقدم مادي. لذلك فقد سعي السيد لتوفير افضل تعليم ممكن لافراد اسرته ، بما في ذلك البنات لان بعضهن كن الاكبر (زهراء وعائشة وشامة). بدأ السيد بفتح مدرسة في بيته في العباسية للاولاد وعندما اكملت الصف الرابع في عام 1924 افتتح بها قسما ابتدائيا لتمكين خريجيها من الالتحاق بكلية غردون. كما افتتح في منزله في العباسية ايضا مدرسة للبنات لتعليم بناته واخريات من بنات الانصارالذين حوله عام 1928 وطورت عام 1932 لتضم قسما ابتدائيا. وكان يشجع بناته علي التعليم خاصة اللغة الانجليزية واتقانها إدراكا لمكانتهن القيادية في المجتمع واحتياجه لهن كواجهة مثقفة للتعامل مع زوجات حكام البلاد الانجليز حين استضافته لهم. وفي وقت لاحق بعث السيد ابنيه الهادي ويحي الي كلية فكتوريا بالاسكندرية للدراسة ودرس معهما علي نفقة الامام الشريف حسين الهندي ولذلك لعدم رغبة والده الشريف يوسف الهندي في تعليم ابنائه التعليم الحديث ، ولكنه خضع لرغبة السيد خاصة بعد ان التزم بتغطية جميع نفقات دراسته ومعاملته كواحد من ابنائه.
وبلغ من اهتمام السيد بتعليم بناته أن وافق علي مواصلة بعضهن (الدر، فاطمة، نون وامينه) الدراسة في مدرسة الاتحاد العليا للبنات- التي تديرها الكنيسة الانجليزية- وذلك لعدم توافر التعليم الحديث فوق الاوسط الا بتلك المدرسة . كما سمح لابنته قوت القلوب ان تدرس في مدرسة الراهبات بامدرمان لرغبتها في التمكن من اللغة الانجليزية ، ووافق لابنته انعام ان تدرس القانون لانه رغبتها، وعين مدرساخاصة لابنته زينب لرغبتها في تعلم اللغة الانجليزية (ص 271-272). وفي شهادتهن لوقوفه مع حقوق المرأة تقول كل من الاستاذات محاسن عبدالعال وسارة نقدالله ومحاسن جيلاني وسعاد ابراهيم عيسي : "وقف السيد عبد الرحمن بجانب حق المرأة في التعليم بل وفتح لها المجال في العمل العام وتعداه لمنحها الفرصة للمشاركة في المجال الرياضي فكانت بنته صديقة اول امرأة سودانية تتعلم ركوب الخيل، واختار لها معلمة ومربية بريطانية هيأ لها السكن والراحة لتقوم بواجبها نحو الاسرة كاملا. "(انظرمقال "دعم السيد عبدالرحمن للحركة النسائية وتعليم المرأة" –اعداد محاسن عبدالعال، سارة نقدلله، محاسن جيلاني وسعاد ابراهيم عيسي في مجلد المئوية) ص322.
لقد كان السيد عبدالرحمن متقدما بمراحل علي أبناء جيله فيما يختص بتعليم المرأة ، إذ لم يقف الامر عنده في السماح لبناته بالتعليم حتي مراحله العليا داخل السودان، بل تعدي ذلك الي ابتعاث إحدي حفيداته الي امريكا للدراسة (ضد رغبة الاسرة). يقول الحوري " في عام 1958 زارالخرطوم وفد من الكلية الغربية للبنات التابعة لجامعة سنسناتي بولاية اوهايو بالولايات المتحدة الامريكية ، ليعرِّف بالكلية التي تم اعدادها خصيصا لتوفر تعليما للبنات يقل فيها اختلاطن مع الرجال بما يتوافق والقيم الشرقية. التقي السيد عبدالرحمن الوفد وطلب منه ان يوفر فرصة للدرسة بالكلية لحفيدته سارة الفاضل محمود.وكانت قدحصلت علي شهادة كمبردج ووقفت الاسرة ضد مواصلة دراستها بجامعة الخرطوم لاعتراضها علي اختلاط البنات بالرجال ولو في مجال التعليم. ابقي السيد امر طلبه للكلية سرا حتي حصل علي منحة منها ووجَّه بتكملة اجراءات السفر سرا ثم فجًّر الخبر خلال احتفال بشفاء سيادته داخل الاسرة (اقام الحفل السيد عبدلله الفاضل) وطلب من الجميع الدعاء لسارة بالنجاح في المهمة التي كلفها بها إذ انها تتوجه الي امريكا لوحدها من غير مرافق وأنها اهل للثقة التي وضعها فيها. ورد علي المعترضين من الاسرة بقوله" إننا ان لم نجار الزمان داس الزمان علينا وفاتنا" (ص 284). انظر الي بُعد النظر هذا ، و نحن نعلم أن السيد عبدالرحمن رجل لم يتعد تعليمه النظامي الخلوة وحلقات الدرس في مسجد البدوي وغيره. لقد كان اهتمام السيد عبدالرحمن بتعليم اسرته عظيما إذ يقول الحوري "كانت دائرة المهدي تلتزم بدفع المصروفات الدراسية ليس لابناء السيد عبدالرحمن واحفاده فقط وانما لكل انجال اسرة المهدي في جميع المراحل التعليمية." ص271
أما خارج الاسرة فيورد الاستاذ الحوري مساهمات السيد عبدالرحمن الكبيرة في دعم التعليم في المناطق الحضرية خاصة في العاصمة. فقد دعم السيد معهدالقرش 1939-رغم رفض طلبه بان يكون رئيسا للجنة الملجأ بمبلغ 500 جنيه وشيكات علي بياض لتكملة النقص، ودعم المدرسة الاهلية الوسطي بامدرمان ، كما دعم الطلاب الساعين للدراسة في مصر ومنهم توفيق احمد البكري ومحمد المبارك عبدالله (ص259). لكن الدعم الاكبر كان لمدارس الاحفاد التي تبرع لها عندما تم نقلها الي الخرطوم في 1932 والتزم بتغطية بقية النفقات لاكمال البناء فتبرع بمبلغ 670جنيها زائدا 100 سنويا لميزانية تشييد المدرسة. وعند انشاء القسم الثانوي في 1943 رفع تبرعه لها الي 1000 جنيه بالاضافة الي التزامه بتكملة البناء. كما تبرع لمدرسة بيت الامانة الوسطي 1941 ومدني الاهلية الوسطي 1949، ومدرسة الهدي الوسطي بامدرمان. وفي اول يوم للتعليم اقامه مؤتمر الخريجين 1941تبرع السيد بمبلغ 500 جنيه (مقارنة بمبلغ مائة جنيه (100) لكل من ابو العلا وشركة عبد المنعم والشركات الاجنبية مثل جلاتلي هانكي) . كما تبرع كذلك لمكتبة كلية غردون التذكارية.
كذلك كون السيد لجنة مال التعليم عام 1941 (برئاسة إبنه السيد الصديق وعضوية كل من صالح عبدالعظيم ويوسف بدري وسكرتارية يوسف زمراوي). وطلب من اللجنة دراسة طلبات ابناء الانصار وغير ابناء الانصار بنفس الدرجة. لكن الحوري يقول "ليس من اليسير رسم صورة متكاملة لعمل اللجنة التي اشرفت علي توزيع هبة السيد عبدالرحمن لمساعدة الطلاب والمؤسسات التربوية لاختفاء الوثائق الخاصة باعمال هذه اللجنة." ويقول وجدت وثائق لسنة واحدة هي العام 1951/52 وبها نجد ان المستفيدين القدامي والجدد بلغ عددهم 92 طالبا بالمدارس المختلفة بتكلفة قدرها 1193 جنيه. ص270
اما في مجال تعليم الانصار فيقول الحوري " اسس السيد خلاوي تدريس القرآن والحقها بالمساجد التي بناها في الجزيرة ابا وود نوباوي واصبحت هذه الخلاوي النواة الاولي لتخريج الفقهاء الذي يبعثهم الامام لتدريس الانصار القرآن والفقه وتعليم الصبية القراءة والكتابة والقرآن" . ويقول في مكان اخر "واصلت مؤسسات دائرة المهدي التعليمية في مجال التعليم الديني والمدني الحديث تأدية رسالتها وكانت الجزيرة أبا تمثل قاعدة التعليم الديني التي يشرف عليها مكتب شئون الانصار حيث تدار من هناك خلاوي تدريس القرآ ن في جميع انحاء السودان والمعاهد العلمية الثلاثة في الجزيرة أبا و الفاشر ونيالا." ص281. ومما يلاحظ في هذه الفقرة هو تطابقها مع ما اورده الكتاب من أنه لم يكن هنالك اهتمام بتعليم ابناء الانصارتعليما حديثا في الجزيرة أبا ، و يمكننا إضافة ولا في مناطق الانصار الاخري.
من الملخص المطول اعلاه لورقة الاستاذ الحوري نري مدي ادراك السيد عبدالرحمن لقيمة التعليم الحديث وفهمه المتقدم علي جيله حتي لأهمية تعليم المرأة واسثماره في تعليم ابنائه واحفاده واسرته الممتدة ثم دعمه الكبير للتعليم في المدينة (مركز التأثير السياسي والاجتماعي) ، وفي المقابل نري تركيز دائرة المهدي علي الخلاوي والمعاهد الدينية ، والتي هي خارج دائرة التعليم المؤثر، في الجزيرة أبا ومناطق الانصار.
خلاصة: مما سبق يتضح أن السيد عبدالرحمن كان شخصية فذة واستثنائية بمقاييس كثيرة ليس آخرها فهمه المتقدم لاهمية التعليم الحديث وما يمكن ان يحدثه من تغيير وتقدم كما لاحظ هو نفسه عند زيارته لانجلترا في عام 1919. لكنه ككل البشر لم يكن خلوا من الاخطاء وقصر النظر احيانا. ويتبدي هذا في أنه فات عليه أن القوة المستدامة ليست القوة المادية الضخمة المتمثلة في دائرة المهدي وتنميتها كشركة متكاملة في شتي مناحي العمل الزراعي والصناعي والتجاري والعقاري والخدمي، ولا القوة المصادمة المتمثلة في شباب الانصار الذين هم طوع الاشارة ، وإنما هي تنمية راسماله البشري المتمثل في الانصار، ليس بالضرورة بصرفه عليهم كصرفه علي اسرته ، انما بتشجيع الانصار علي ارسال ابنائهم للمدارس الحكومية للتقدم في مدارج التعليم (بالمجان) لاحتلال الوظائف الحكومية والمشاركة في الطبقة التي سترث مؤسسات الخدمة المدنية والعسكرية من الحكم الاستعماري في نهاية الامر، بالاضافة الي حمايتهم لكيان الانصارمن اختراق التنظيمات السياسة العقائدية لهم كما حدث بالفعل.
يقول البروفيسير حسن احمد ابراهيم في كتابه عن السيد عبدالرحمن "استخدم السيد ثروته وشهرته المتنامية للسيطرة علي القيادة السياسية التي مثلت الراي العام الحضري المستنير بالعاصمة المثلثة" ص128. وربما يفسر هذا اهتمام السيد بالحضر المتمثل في العاصمة ، لكن القوة الحاسمة انتخابيا بالنسبة له هي جماهيره في الريف. ويعتقد الكثيرون أن عدم دعم السيد لتعليم ابناء الانصار هو اعتقاده بان تعليمهم سوف يخرجهم من دائرة السيطرة واتباع الاشارة ، بالاضافة الي خسارتهم كعمالة رخيصة في اعمال الدائرة. واري أن رأي السيد هنا قد لا يكون صحيحا وذلك أن أبناء الانصار اذا شعروا باهتمام السيد بهم و بتعليمهم وبحرصه علي تقدمهم لجازوه احسانا باحسان ولاتبعوه بعقلانية واثروا كيان الانصار وحزب الانصار (حزب الامة) بدلا من الخروج منه. وعكس ذلك هو ما حدث لكثير من ابناء الجزيرة أبا بانتماء اعداد منهم الي الحزب الشيوعي والاخوان المسلمين كرد فعل عنيف لشعورهم بالغبن وهم يقارنون حالهم بابناء السيد الذين سمعوا بانهم تلقوا و يتلقون تعليما حديثا في الخارج بينما هم يتلقون تعليمهم في الخلاوي والمعاهد الدينية.
لقد دفعت طائفة الانصار الثمن غاليا بسبب قصر النظر ذاك حيث اصبح الجهل مسيطرا علي مناطق الانصار في التخوم فاصبحوا احتياطيا للتجنيد من قبل التنظيمات العقائدية ومشروعا للتجييش للوصول للسلطة بالغزو من الخارج او حمايتها في الداخل، بما في ذلك نظام الانقاذ الحالي. وقد جرًّت تلك النظرة القاصرة بحبس الانصار في ابا وكل مناطق الانصار في جهلهم كرصيد اشارة في الانتخابات والتجييش-جرت الكوارث المستقبلية ليس علي طائفة الانصار فقط وانماعلي السودان ككل.
هنالك سؤال يحتاج الي إجابة . لقد كان للسيد عبدالرحمن مجلسا للمؤانسة من الاصدقاء والمقربين من خاصته من متعلمي ومثقفي ذلك الزمان وكان السيد يستأنس بارائهم فهل نصحه المجلس او لماذا لم ينصحه بان الاسترايتجية الصحيحة بالنسبة له في بناء شخصيتة واستدامة زعامته واستحواز حزب الامة علي السلطة في الانتخابات هي مزيج من الثروة والتعليم للاتباع لان يومهم سيجئ ، إذ ماذا يفعل السيد بقوة ضاربة شبه عسكرية ، بدون خط دفاع اخر من المتعلمين المنتمين له ولحزبه؟ ومن المعروف ان عددا كبيرا ممن استعان بهم واصبحو من قادة حزب الامة لم يكونوا منتمين الي طائفة الانصار رغم أن (كل انصاري حزب امة وليس كل حزب امة انصاري). في تقديري لقد كان ترك الانصار في جهلهم استراتيجية خاطئة وضد مصالح حزب الامة وتحقيق السيد عبدالرحمن لهدفه في انصاف المهدية التي ظلمها اعداؤها –كما يري- ولم يقدروا تضحيات دعاتها وانصارها في سبيل السودان الحرمن الدنس الاجنبي. وفي هذا الاطار يقول الامام الصادق المهدي في مقاله الموسوم "عبدالرحمن الصادق: امام الدين" والمنشور في مجلد مئوية السيد عبد الرحمن المشار اليه سابقا : "في اوائل عام 1958 بدي لي أن اتحدث مع جدي الامام عبدالرحمن ... وكان يشجعني علي ذلك. علمت أن مساعي حزب الامة وقتها كانت تتركز في اختياره رئيسا للجمهورية. قلت له إنه الان في مكان يفوق رئاسة الجمهورية واذا كان اهل السودان سوف يجمعون علي ذلك ويجعلونه رئيسا للجمهورية فهذا حسن والا فإن المنصب أقل من مكانته. قال لي: نعم أنا لا اريد أن اكون رئيسا للجمهورية بالمعني العادي، بل اريد أن يكون ذلك لفترة قصيرة جدا فصحتي نفسها لا تسمح بذلك. ولكن حرصي علي هذا الاجراء لتأكيد شرعية المهدية. فقد ظلمها اعداؤها وحاولوا جعلها نسيا منسيا. أن رئاستي للجمهورية لاي فترة مهما كانت قصيرة تربط ما بين الماضي والحاضر والمستقبل بصورة تتناسب مع تضحيات من ضحوا في تأريخنا.". ويضيف الامام "هذا ما قاله لي ، والدليل علي أن هذه الفكرة كانت مهمة جدا عنده أن كثيرا من الوريقات التي يسجل فيها خواطره تناولتها." (ص95).
في الختام أري ان كتاب "الجزيرة أبا: همس التاريخ" للدكتور الطيب هارون رغم أنه يتناول قضايا تاريخية علي قدر كبير من الحساسية وسط جماهير الانصاروقيادتهم إلا انه يشير الي امكانية أو وجوب التصالح مع ما صح من التاريخ والتعامل مع صانعيه كبشر أدوا اداورهم وحققوا منجزات كبيرة باثمانها ، وعلي الاجيال اللاحقة أن تخرج من صندوق ذلك التاريخ وتحقق هي انجازاتها بنفسها، فبقدرما انه ليس لها فضل مباشر في تحقيق الانجازات التاريخية تلك، كذلك ليس عليها اي تبعات لأي خطأ او سوء تقدير تأريخي. وربما يكون الكتاب وما اثاره مناسبة للمزيد من للمصارحة والمكاشفة وسط اجهزة كيان الانصاروحزب الامة من ان الزمن قد تغير، الزمن الذي قال عنه السيد عبدالرحمن قبل اكثر من نصف قرن " إننا ان لم نجار الزمان داس الزمان علينا وفاتنا"، وذلك حتي تكون العلاقة بين مكونات الكيان وافراده وقيادته مزيج من الندية ومزيد من الاحترام الواجب والمتبادل في المؤسسات الحزبية والدينية وكل في وضعه المناسب.
صديق امبده
30 اغسطس 2016

sumbadda@gmail.com

 

آراء