الأسلحة الكيماوية وقصتنا مع التقارير الأجنبية
abusamira85@gmail.com
دون أي محاولة للدخول في معارك سياسية قد تتحول إلى حوار طرشان يعيد تقرير منظمة العفو الدولية الذي يتهم السودان باستخدام أسلحة كيماوية في دار فور، تأكيد أن التقارير الأجنبية بحر واسع للعوم ومفتوح أيضا للغرق، ومن هنا تبدأ قصتنا مع التقارير الأجنبية، فالمتعامل معها لا يدخل فقط في مغامرة غير محسوبة، بل يجد نفسه أمام مأزق حقيقي، فنتائج التقارير الأجنبية تبدو للمتلقي نهائية، تشرحها حروف محددة قاطعة، وموضوعاتها بحر هائج متلاطم الأمواج، وينبغي قبولها على علاتها (كسر رقبة).
وفي سياق المجازفة بمثل هذا النوع من التعامل، بدا لي أن رد الفعل الوطني تجاه التقارير الأجنبية مثير للقلق، لأنه يتسم بنوع من التثاقل على مستوى الحكومة بمستوياتها كافة، ونوع من التسرع على مستوى المعارضة بكافة أشكالها وأنواعها.
ما علينا، فقبل 27 يوما من صدور تقرير منظمة العفو الدولية الصادر بتاريخ 29 ستمبر 2016، والمعنون (أرض محروقة وهواء مسموم ـ قوات الحكومة السودانية تدمر الحياة في حبل مرة)، كان كاتب هذه السطور ضمن عشرة صحفيين يمثلون اتحاد الصحفيين السودانيين يعيشون اللحظات في حب ومسرة في مرتفعات جبل مرة، حيث باتوا ليلة الثالث من سبتمبر 2016 في منطقة قولو الواقعة في وسط جبل مرة على ارتفاع 2300 مترا، وقضوا نهار نفس اليوم في سرونق المرتفعة بأكثر من 3000 مترا.
عنصر الاستهداف
عند العودة لتقرير منظمة العفو الدولية، الذي لا يخلو من خزعبلات، فإن عنصر الاستهداف يبدو واضحا من جهة أن التقرير لا يستند في محتوياته على معلومات موثقة من أي نوع، وضخم بحملات إعلامية عاصفة عن (دور مرتقب لمتطوعين معنيين بالوسائل الرقمية لكشف انتهاكات حقوق الإنسان في دارفور في مشروع تشاركي مبتكر). ومن هنا تبدأ الخزعبلات، فمنظمة العفو الدولية تعترف بأن (الكثير غير معروف حول المدى الحقيقي لاستهداف المدنيين في مناطق دارفور الريفية، في غياب تقييمات شاملة للهجمات على القرى على مدى الخمس سنوات الماضية). والخزعبلات في لغة العرب جمع خُزَعْبِل، وتعني (أحاديث باطلة)، عند استخدامها في مقام الجد، وتعني أحاديث مستطرفة تبعث على الضّحك عند استخدامها في مقام الهزل.
وحتى تثمر هذه الخزعبلات فقد أطلقت بحملة إعلامية ضخمة تقول (ساعدونا في تحليل البيانات الخاصة بدارفورعن طريق الاشتراك في أحدث مشروع لمنظمة العفو لتحليل البيانات يمكنك مساعدتنا في توثيق مدى الدمار في المنطقة).
ولتحقيق هذا الغرض قامت منظمة العفو الدولية منذ منتصف أكتوبر الماضي، بحشد شبكة عالمية من المتطوعين الرقميين لتحليل صور الأقمار الصناعية وتحديد ما إذا كانت القرى يبدو أنها تعرضت للهجوم أو تضررت، أو تدمرت، وأطلقت دعوة مجانية مفتوحة للانضمام إلى فريق محللي البيانات في منظمة العفو الدولية.
وخلصت ميلينا مارين كبيرة مسؤولي حملات الأنشطة الابتكارية لدى منظمة العفو الدولية، إلى أن (هذا مشروع مبتكر طموح يمثل تحولاً جوهرياً في الطريقة التي ننظر بها إلى بحوث حقوق الإنسان).
خزعبلات التقرير
في سياق تنفيذ هذا المشروع المبتكر بدأت الخزعبلات، فقد دشنت منظمة العفو الدولية (شبكة من المتطوعين المعنيين بالوسائل الرقمية للمساعدة في كشف انتهاكات حقوق الإنسان في إقليم دارفور السوداني الذي مزقته النزاعات، وتعد هذه الشبكة جزءا من مشروع تشاركي مبتكر أطلقته المنظمة)، في منتصف أكتوبر الماضي.
وتظهر الخزعبلات مرة أخرى بتشجيع المتطوعين بإتاحة موقع التفاعلي لـ (تحليل البيانات الخاصة بدارفور لمؤازري منظمة العفو الدولية من تحليل صور الأقمار الاصطناعية لآلاف الكيلومترات المربعة في المناطق النائية من دارفور، حيث يشتبه في وقوع تفجيرات وهجمات بالأسلحة الكيميائية، وذلك باستخدام أولئك المؤازرين لهواتفهم، أو أجهزة حاسوب محمولة أو أجهزة حاسوب لوحي).
وتنتهز مارين الفرصة لدعم الخزعبلات مرة ثالثة، بتأكيد أن المشروع (يمنح الفرصة لكل من يستطيع الدخول إلى شبكة الإنترنت كي يساعد في كشف بعض أشد المظالم في العالم).
وتضيف مارين إلى الخزعبلات فقرة رابعة تقول فيها إن (هناك مساحة هائلة من أراضي دارفور حيث تشير معلوماتنا إلى ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان فيها، ولكن تحليل هذه البيانات مهمة طويلة وشاقة. ولهذا نسخر قوى شبكتنا الضخمة من المؤازرين للمساعدةىفي هذا الأمر).
وتعترف مارين في الفقرة الخامسة من الخزعبلات بأن (العثور على معلومات موثوقة، وتم التحقق منها، بشأن تأثير العنف على السكان المدنيين داخل جبل مرة أمر بالغ الصعوبة. فالقيود المفروضة على الوصول إليها، والتي تفرضها الحكومة، تعني عدم السماح لأي صحافي، أو محقق في شؤون حقوق الإنسان، أو ناشط إنساني بإجراء أي تقييم للأعوام القليلة الماضية).
هترشات التقرير
على الرغم من كل هذه الخزعبلات، فإن تقريرا استقصائيا لمنظمة العفو الدولية صدر في نهاية سبتمبر الماضي قد (كشف عن أدلة مروعة على اشتباه استخدام القوات الحكومية السودانية المتكرر للأسلحة الكيميائية ضد مدنيين، من بينهم أطفال صغار جدا، في منطقة جبل مرة في دارفور خلال الثمانية أشهر الماضية).
ولا يخلو التقرير الاستقصائي لمنظمة العفو الدولية المبني على خزعبلات من هترشات، والهترشة في العامية السودانية صفة تطلق على الحديث المضطرب. وهكذا جاءت الهترشة الأولى (بناء على شهادات أوائل المستجيبين والناجين، تقدر المنظمة أن ما بين 200 و250 شخصا قد لقوا حتفهم نتيجة التعرض لعوامل الأسلحة الكيميائية، وكثيرون منهم كانوا أطفالا).
وتأتينا الهترشة الثانية من مايك فارفور، أخصائي الاستشعار عن بعد بمنظمة العفو الدولية بقوله (على الرغم من أننا لا نستطيع السفر إلى دارفور لجمع الأدلة، فيمكننا الحصول على صور الأقمار الاصطناعية، ومقارنة تواريخها المختلفة لتحديد التغيرات في المشهد، وهنا يأتي دور مشروع تحليل البيانات الخاصة بدارفور).
وفي هترشة ثالثة يعترف التقرير الاستقصائي، (هناك من البيانات ما يحتاج تدقيقه إلى آلاف الساعات، وتطلب منظمة العفو الدولية من المتطوعين المعنيين بالوسائل الرقمية تكريس أي وقت يستطيعونه، ابتداء من خمس دقائق إلى أربع ساعات أو أكثر، للمساعدة في إقامة الأدلة التي سوف توضح، إلى جانب تقارير شهود العيان والضحايا، أن المدنيين في دارفور تعرضوا لهجوم ممنهج).
ويشير التقرير في هترشة رابعة، وهي بيت القصيد إلى أن منظمة العفو الدولية (سوف تستخدم المنظمة الأدلة لتعزيز دعواها أمام حكومة السودان لوضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان، ولمساءلة الجناة. كما سيتم استخدام الأدلة لتعزيز دعاوى المنظمة لدى الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، وبقية المجتمع الدولي، بأن دارفور قد تم تجاهلها لفترة طويلة للغاية).
وسيلة ممتازة
في إفادات جديدة تقترب من الخزعبلات ولا تتبعد من الهترشات يقول سكوت إدواردز، كبير المحللين بفريق البحوث التحليلية والتخطيط (إن عمل متطوعينا المعنيين بالوسائل الرقمية ليس بديلا عن البحث الدقيق الذي يقوم به خبراء منظمة العفو الدولية، وإنما هو وسيلة ممتازة لدعم عملنا من خلال تحويل معلومات ضخمة غير مرتبة وغير منظمة إلى أدلة على انتهاكات حقوق الإنسان).
ويستطرد (إن مهمة وقف انتهاكات حقوق الإنسان العالمية لم تكتمل قط. ولكن كلما انضم المزيد من الناس إلى الدعوة، كلما استطعنا أن نكون أكثر فعالية. فأي شخص في أي مكان يمكن أن يشارك، بشكل حقيقي، في عملية جمع منظمة العفو الدولية للمعلومات. كل ما تحتاجه هو جهاز كمبيوتر أو هاتف ذكي، والرغبة في إحداث تغيير حقيقي).
ويكشف إدواردز بوضوح (مشروع تحليل البيانات الخاصة بدارفور هو المشروع الثاني في حملة منظمة العفو لتحليل البيانات، التي تقوم بإنشاء شبكة من المتطوعين في جميع أنحاء العالم ممن يستخدمون أجهزة الحاسوب الخاصة بهم، أو هواتفهم للتدقيق من خلال فحص كميات كبيرة من المعلومات، والمساعدة في البحوث الخاصة بحقوق الإنسان).
الأسئلة المثارة
ربما يأخذ القارئ الكريم علينا استخدام كلمتي خزعبلات وهترشات عند استعراض منهج منظمة العفو الدولية في هذا التقرير. وحقيقة لم نجد كلمتين حسب الشرح السايق أفضل منهما، في وصف هذا المنهج، الذي تجاهل ما هو معلوم بالضرورة من أن الأسلحة الكيماوية محظور دوليا بيعها وتصنيعها، فهل يعقل أن تكون في السودان أسلحة كيماوية غير مرصودة دوليا؟
يبدو واضحا أن معد تقرير منظمة العفو الدولية قد تجاهل هذا السؤال المشروع. وهذا التجاهل الذي يبدو مقصودا يوفر لنا فرصة أن نصف المنهج بالهترشة تارة وبالخزعبلات تارة أخرى، لا سيما أن المادة الثالثة لاتفاقية حظر الاسلحه الكيمياوية تلزم كل دولة طرف في هذه الاتفاقية تقديم الإعلانات السنوية فىما يتعلق بالأسلحة الكيمياوية التي تمتلكها أو تتواجد في حيازتها أو في أي مكان يخضع لولايتها أو سيطرتها. ويتم فيها التحديد الدقيق للموقع والكمية الإجمالية والجرد التفصيلي للأسلحة الكيمياوية التي تمتلكها أو توجد فى حيازتها أو التي تكون قائمة في أي مكان يخضع لولايتها وسيطرتها. وكذلك الإبلاغ عن أي أسلحة كيمياوية في أراضيها تمتلكها دولة أخرى وإعلان ما إذا كانت قدنقلت أو تلقت بصورة مباشرة أو غير مباشرة أي أسلحة كيمياوية وتكون هذه الإعلانات سرية بين المنظمة والدولة الطرف، وإذا ما حدث عدم مصداقية في هذه الإعلانات تقوم المنظمه بإرسال فريق من الأمانة الفنية للتحقق من مدى صدقية تلك الإعلانات.
وبعد هذا الاستطراد المقصود نشير إلى أن السودان يقوم بتقديم تقاريره سنويا، ولم تحدث أي عملية تحقق من المنظمة في تلك الإعلانات المقدمة، ولعل الشاهد هنا أن تقرير منظمة العفو الدولية أهمل الإشارة إلى هذه العنصر المهم في توجيه الاتهام من عدمه.
التحذيرات المفقودة
قبل استخدام الأسلحة الكيماوية من أي طرف عادة يصدر تحذير دولي أو إقليمي من أن هذا الطرف أو ذاك قد يستخدمها في الحرب، والسؤال أن تقرير منظمة العفو لم تسبقه تحذيرات أو تقارير من أي مستوى، كيف يمكن النظر للمسألة؟
يحيلنا خبير دولي مختص في الأسلحة الكيماوية رغب عن ذكر اسمه، إلى أن الغرض من الاتفاقية الخاصة بمنع تطوير وإنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة الكيمياوية والدمار الناتج عنها لعام 1999، هو منع استخدام الأسلحة الكيمياوية ذات الدمار الشامل والتخلص منها وهي تشمل الكيماويات السامة وتوابعها وخاصة الذخيرة المصممة والأجهزة والمعدات الخاصة بانتشارها. انتهت إفادة الخبير، لكن يظل السؤال مشروعا بصورة تعيدنا إلى خزعبلات وهترشات تقرير منظمة العفو الدولية، والمعلوم أن استخدام الأسلحة الكيماوية تسبقه إجراءات تأمين وحماية في المنطقة المراد استخدامه فيها، فهل حدث هذا في دار فور حتى نصدق مزاعم منظمة العفو الدولية؟
لا يكتف الخبير الدولي بالإجابة القاطعة لا، بل يستبعد تماما أي استخدام الأسلحة الكيمياوية، لأنها تؤدي إلى تعرية واسعة المدى للتربة، وإفناء الحياة البرية الأرضية وخسائر في أسماك المياه العذبة وتدهور في الثروة السمكية البحرية الساحلية. ويتفاوت التأثير على البشر من حالات التسمم العصبى إلى الإصابة بالالتهاب الكبدي وسرطان الكبد والإجهاض التلقائي والتشوهات الخلقية.
ويدعم نفيه لاستخدام الأسلحة الكيماوية، لعدم هطول الأمطار مع الدخان المشبع بالكبريت الذي يجعل التربة أكثر حمضية، إضافة إلى أن أدخنة السلاح الكيماوي تصيب الطيور بالعمي وتجعلها تتساقط، وكذلك تسبب في صعوبة الرؤية خاصة للطيارين بسبب تكوين ما يعرف بالضباب الحمضي.
حصاد القول
رغم كل الأدلة العلمية القاطعة والأسئلة المشروعة، فإن تقرير استخدام الأسلحة الكيماوية يستند على إفادات وشهادات من متطوعين من الواقع الافتراضي، مما جعله يحتوي على مزاعم أطلقتها منظمة العفو الدولية، بعد إيقنت من انحسار التمرد في دار فور من جهة، وأن المواطنين في دار فور قد ملوا الحرب من جهة أخرى. وحصاد القول إن الحكومة قد تعاملت هذه المرة بجدية مع التقرير وأعدت ردا علميا مفندا الخطوات التي اتبعتها منظمة العفو الدولية.
ثنائية التعامل
تقود ثنائية التجاهل التام أو الاحتفاء الشديد بالتقارير الأجنبية عن السودان، إلى محنة من تضارب المشاعر والولاءات. فإذا كان محور القضية حقوق الإنسان، فهي في المقام الأول قضية سياسية يتعين علينا إلا نحولها إلى قضية خيرية حتى لا تصبح مساوية لفكرة الإحسان والصدقة عندما يراد لها أن تحل في المجتمعات محل فكرة التنمية والتقدم.
عند العودة لتقرير منظمة العفو الدولية، فإن عنصر الاستهداف يبدو واضحا من جهة تقسيم مشروع تحليل البيانات الخاصة بدارفور إلى مرحلتين، في الستة أسابيع الأولى، قام المشاركون بالمساعدة في تعيين مساحات نائية، وجرداء إلى حد كبير، لتحديد مواضع القرى المعرضة للهجوم في منطقة شرق جبل مرة في دارفور.
أما في المرحلة الثانية، قارنوا صورا من القرى، قبل وبعد، من أجل تحديد ما دمرت منها. وقبل أن يبدأ المشاركون، تم إعطاؤهم درسا تعليميا قصيرا في تحليل البيانات عما سيبحثون عنه بالضبط.
أدلة وهمية
رغم أن كل المعلومات التي توصلت إليها منظمة العفو الدولية كانت عبارة عن مكالمات هاتفية أو صور أرسلت عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني، وهي معلومات تفرض طريقة جمعها الشك فيها، إلا أن تقرير المنظمة يقول (تجمعت لديها أدلة مروعة على الاستخدام المتكرر لما يعتقد أنها أسلحة كيمائية ضد المدنيين، بما في ذلك الأطفال الصغار جداً، من قبل القوات الحكومية السودانية في واحدة من أكثر المناطق النائية في دارفور خلال الثمانية أشهر الماضية).
ويمضي التقرير في خزعبلاته (فباستخدام صور الأقمار الصناعية، وإجراء أكثر من 200 مقابلة متعمقة مع الناجين ومن تحليل الخبراء لعشرات الصور المروعة التي تبين الأطفال الرضع والصغار المصابين بإصابات مروعة، أظهر التحقيق أن مالايقل عن 30 هجمة كيماوئية يحتمل وقوعها في منطقة جبل مرة في دارفور منذ يناير/ كانون الثاني 2016. وكان أحدثها عهدا في 9 سبتمبر/ أيلول 2016).
وتعيدنا تيرانا حسن، مديرة برنامج الاستجابة للأزمات بمنظمة العفو الدولية، إلى استخدام صفة الهترشة حين تقول (في هذا الصدد من الصعب التعبير بالكلمات عن حجم هذه الهجمات ووحشيتها. إن الصور وأشرطة الفيديو التي شهدناها في سياق بحثنا مروعة حقا، ففي أحد الأشرطة طفل صغير يصرخ من الألم قبل أن يموت،ويظهر العديد من الصور الأطفال الصغار وقد غطت أجسادهم الجروح والبثور. كان بعضهم غير قادر على التنفس ويتقيأ دما).
شهادة دولية
خير رد على خزعبلات التقرير وهترشة تيرانا شهادة دولية قدمها مارتن أوهومو بيهي رئيس بعثة يوناميد في دار فور، وقد قال حرفيا (إنه وبالرغم من أن بعثة يوناميد لديها 20 ألف جندي من العسكريين والمدنيين المنتشرين على الأرض في الإقليم، إلا أنه ليس من بينهم شخص واحد رأى على أي مواطن أعراض تشير إلى استخدام الأسلحة الكيماوية).
ويدعم رئيس بعثة يوناميد هذا النفي الواضح بتأكيد (إنه ليس من بين النازحين فرد واحد مر على العيادات الميدانية التابعة لبعثة يوناميد وعليه مثل هذه الأعراض، علما بأن النازحين يأتون لعيادات بعثة يوناميد بصورة طبيعية).
وهكذا بنت منظمة العفو الدولية تقريرها على شهادات من مقدمي الرعاية والناجين، تقدر أن ما بين 200 و250 شخصا قد لقوا حتفهم نتيجة التعرض لمواد مصدرها الأسلحة الكيماوية، وكثير منهم أو معظمهم كانوا أطفالا، متجاهلة الاتصال بأي فرد من أفراد بعثة يوناميد البالغ عددهم 20 ألف ويقيم بعضهم في مناطق سرتوني ونيرتيتي التي تزعم باستخدام السلاح الكيماوي فيها.
من الصعب التعبير بالكلمات عن حجم الاستهداف الذي تنضح به سطور تقرير منظمة العفو الدولية حين يقول (إن الأدلة التي جمعناها موثوقة وتصور نظاماً يسعى إلى توجيه هجمات ضد السكان المدنيين في دارفور دون أي خوف من العقاب الدولي). وشرح العبارة أن المنظمة تسعى إلى هدف واحد، يتمثل في فرض عقوبات على السودان، متخذة من المزاعم السابقة جسرا لتحقيق هدفها.
زبدة التقرير
زبدة تقرير منظمة العفو الدولية مطالبته لمجلس الأمن الدولي بـ (الضغط السياسي الكافي على حكومة السودان لضمان السماح لقوات حفظ السلام والوكالات الإنسانية بالوصول إلى السكان في المناطق النائية من أمثال جبل مرة، بالتأكد من التنفيذ الدقيق لحظر الأسلحة الحالي وتوسيعه ليشمل البلاد كلها).
والملاحظ أن التوصية الأولى أهملت موضوع الأسلحة الكيماوية، لكن التقرير عاد إليها في الفقرة الثانية ليطالب مجلس الأمن الدولي بـ (التحقيق على وجه السرعة في استخدام الأسلحة الكيماوية، وإذا كانت هناك أدلة كافية مقبولة، بملاحقة كل من يشتبه في مسؤوليته عن ذلك).
ويبدو عنصر الاستهداف واضحا في التوصية الأخيرة، إذ أن كل عناصر التقرير تتحدث عن تأكيد قاطع لمزاعم استخدام الأسلحة الكيماوية صيغت بأسلوب درامي وكلمات (تقطع القلب)، من شاكلة ما روته منار إدريس باحثة شئون السودان في منظمة العفو الدولية عن زيارتها لمعسكرات اللاجئين في شرق تشاد، وهذه فقرة من تقرير طويل كتبته منار (جلست ساعات طويلة وسط مجموعة من النساء في مخيمات اللاجئين استمع إلى رواياتهن المفجعة وإلى مخاوفهن وآمالهن. تحدثن عن ماضيهن وحاضرهن وعن مستقبلهن. لقد عانين جميعهن كثيرا. ومعظمهن فقدن أزواجهن، أو أقاربهن المقربين. وكثيرات منهن لا يدرين أين أطفالهن، وهل مازالوا على قيد الحياة. بعض النساء ضربن أو أطلقت عليهن النار وأخريات اغتصبن).
الغرض واضح
لا تحسبن أن هؤلاء القوم بالسذاجة حين يتعاطفون من نص منار إدريس رغم ضعفه وركاكته، فالغرض عندهم واضح جدا، وهذا التعاطف تحسمه تيرانا حسن بقولها (وبالتأكيد لم تتخذ تدابير فعالة لحماية المدنيين على الإطلاق، على الرغم من كون الإقليم تحت مراقبة بعثة حفظ السلام المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة. ولم تجلب محادثات السلام واتفاقياته أمنا ولا راحة لشعب دارفور. وحتى الآن، كان رد المجتمع الدولي مزريا. ولا يمكن له أن يستمر في تجاهل التصدي لهذه الانتهاكات المروعة التي لا نهاية لها).
أصل الحكاية أن منار إدريس، باحثة شؤون السودان بمنظمة العفو الدولية قد أمضت أكثر من أسبوع في نوفمبرالماضي، في شرق تشاد، لعقد مقابلات مع لاجئين من دارفور في مخيمين مختلفين من مخيمات اللاجئين، تقول منال (وجدت نفسي أفكر كيف أن الموجة الأخيرة من العنف في دارفور أدت إلى تدفق المزيد من اللاجئين إلى تشاد. وأنه بات محزناً أكثر منه مفاجئا أن نسمع على وجه الخصوص كيف يؤثر العنف على النساء والبنات ليس في دارفور وحدها ولكن في مناطق الرحلة الخطرة إلى تشاد). ولو أن الباحثة منال كانت دقيقة ومحايدة في بحثها العلمي لو وجب عليها أن تحدثنا عن موجات كبيرة من العودة الطوعية إلى القرى في مناطق واسعة من ولايات وسط وغرب وجنوب دار فور، وكيف أن مساحات واسعة من الأراضي قد زرعت في خريف هذا العام.
النهج المفقود
قد لا يسع المجال للحديث عن أهمية النهج العلمي للنظر في مثل هذه القضايا، ولكن تبدو هذه الأهمية غائبة أو مغيبة في تقرير منظمة العفو الدولية. ففي الوقت الذي تعترف فيه المنظمة بوضوح بأن (العثور على معلومات موثوق بها حول تأثير العنف على السكان المدنيين داخل جبل مرة أمر صعب للغاية)، تقول ببراءة عن طريق تحقيق أجرته (تجمعت لديها أدلة مروعة على الاستخدام المتكرر لما يعتقد أنها أسلحة كيمائية ضد المدنيين، بما في ذلك الأطفال الصغار جدا، من قبل القوات الحكومية السودانية في واحدة من أكثر المناطق النائية في دارفور خلال الثمانية أشهر الماضية). وتتابع المنظمة مزاعمها في براءة حين تقول (فباستخدام صور الأقمار الصناعية، وإجراء أكثر من 200 مقابلة متعمقة مع الناجين ومن تحليل الخبراء لعشرات الصور المروعة التي تبين الأطفال الرضع والصغار المصابين بإصابات مروعة، أظهر التحقيق أن ما لا يقل عن 30 هجمة كيماوية يحتمل وقوعها في منطقة جبل مرة في دارفور منذ يناير كانون الثاني 2016. وكان أحدثها عهدا في 9 سبتمبر/ أيلول 2016).
وفات على منظمة العفو الدولية أن عالم اليوم لا يسمح لمثل هذا الاتهام بالمرور دون تعليق ما، ففي البداية ينبغي الإشارة إلى أن كل التقارير الدولية حول الأوضاع في دار فور وأخرها تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الذي صدر قبل يومين من تقرير منظمة العفو بتاريخ 27 سبتمبر 2016، لم يشير إلى اتهام للحكومة السودانية باستخدام أسلحة كيماوية.
النهج العلمي
رسم تعامل حكومة السودان مع مزاعم تقرير منظمة العفو الدولية هذه المرة فصلا جديدا في قصتنا مع التقارير الأجنبية. فقد غادرت محطة التجاهل التام أو إصدار البيانات النافية بقوة العبارات الإنشائية، بتشكيل لجنة علمية لتقصي الحقائق حول التقرير. وضمت هذه اللجنة تسعة أعضاء، برئاسة معاوية بابكر أحمد عثمان مدير عام الجهاز الوطني لحظر الأسلحة الكيماوية وأعضاء يمثلون الجهات التالية: الجهاز الوطني لحظر الأسلحة الكيماوية، التحقيقات الجنائية، الأدلة الجنائية، إدارة الوبائيات، والمعامل الكيمائية القومية.
وقدمت اللجنة تقريرا من 65 صفحة، احتوى على رد تفصيلي للمزاعم والاتهامات التي أوردتها منظمة العفو الدولية.
واستندت اللجنة ف ردها على أدلة من أرض الحدث تفيد عدم وجود أي مؤشرات لاستخدام اسلحة كيماوية بالمناطق المذكورة في تقرير المنظمة.
ويفند الموجز التنفيذي لتقرير اللجنة مزاعم تقرير منظمة العفو الدولية في النقاط التالية:
* استخدمت منظمة العفو برامج متخصصة لتغيير معالم الصور الفضائية والصور الجوية المقدمة في التقرير حتى تثبت الاتهامات المزعومة.
* عدد من الصور التي تم عرضها في تقرير منظمة العفو الدولية وبحسب ما تكشف من التحليل العلمي وجد أنها صور قد تم التقاطها في العام 2015، ولكن تم التلاعب فيها للإيحاء بأنها صادرة في العام 2016، ويمكن ملاحظة ذلك بكل سهولة عند تحليها بواسطة الخبراء المختصين في هذا المجال.
* هناك عدم مصداقية في تواريخ التقاط الصور، فهناك صورة يفيد التعليق الموجود بأسفلها أنها ألتقطت في 9/3/2016 وداخل الصورة مكتوب أنها ألتقطت في 9/3/2015.
* في مناطق شرق الجبل اتضح بعد التحليل أن الصورة بتاريخ 24/12/2015 هي نفس الصورة بتاريخ 13/5/2016 ولا يوجد أي تغيير فقط الاختلاف في درجة الوضوح.
* صورة الحريق لمنطقة مستشفى كاقرو عمل تكبير للصورة، وبعد التحليل لا توجد أي آثار حرائـــق بالمستشفي.
* في منطقة بولا سيد أثبت التحليل استخدام برنامج تحسين الصــور الفضائية، لتأكيد أنها تعرضت للحريق. والشاهد أنهم لم يقوموا بالتصوير مرة أخرى ولا يوجد آثار للحريق.
* صورة الغلاف في التقرير المعني وجدت أنها أُخذت من برنامج جوجل المتاح كما هو موضح في الرابط. وكان آخر تحديث للصورة في جوجل بتاريخ 16/11/2014
مزاعم مصورة
خلص التحليل الفني للجنة الوطنية إلى أن مُنظّمة العفو الدوليّة استعانت في تقريرها الذي يتِّهم السُّودان باستخدام أسلحة كيمائية بجبل مرة بصُّور تم قصّها مِن مقاطِع فيديو أو مِن صُور فوتوغرافية معالجة عَن طريق قص جُزْء مُحدّد مِن الصُّورة، وفي الحالتين يُؤثِّر ذلك على مَعْلومات الصُّورة الأصّل أو ما يُسمّى بملف الــ ( Exif Data )الذي يحْتوي على مَعْلومات الصُّورة وتاريخ التقاطها.
وأكد التحليل الفني أن معظم الصُّور المنشورة بخصوص الموضوع في موقع المنظمة أو بعض مواقع البحث الأخرى هي صور تم قصها من مقاطع فيديو لذلك مِن المُستحيل أن تكون لها معلومات كصور فوتوغرافية وهذا في حد ذاته مقصود من قبل المنظمة حتى لا تترك أثرا لعمليات الفبركة والدبلجة التي تمت فيها. إضافة إلى أن المنظمة ذكرت في تقريرها العديد من المناطق التي زعمت بأنها تعرضت للتدمير والحريق دون أن تورد لها صورا بالتقرير إمعانا في إخفاء الحقائق وتضليل قارئ تقريرها. والدليل على ذلك حسب التحليل الفني أن هُنالِك ست صُور تم التّعديل عليها بواسطة برنامج رسومي هي التي تحتوي على ملف بيانات بداخلها، ولكن بمُجرِّد إدْخال الصُّورة لبرنامج رسومي إحْترافي ينْشأ ملف تعريفي جديد للصُّورة، فظهرت هذه الصُّور بالمعلومات الآتية:
أولا: تم التعديل في برنامج الفوتشوب
ثانيا: تم التعديل في برنامج كمبيوتر الماكنتوش.
ثالثا: بدأ التعديل في الكامنتوش في الساعة 1:35 ظهرا وانتهى في الساعة 5:05 مساء يوم 20 سبتمبر 2016 أي قبل تسعة أيام من صدور التقرير.
يبقى القول
ويبقى القول إن هذه اللجنة قد بذلت جهدا طيبا وجديدا من جهتين: الأولى السير في طريق مختلف في تعاملنا مع التقارير الأدنية. الثانية: توفير حصيلة علمية مقدرة في تفنيد مزاعم منظمة العفو الدولية، ليس بعيدا من السياق الذي سارت فيه منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في بيان صدر بتاربخ 29 سبتمبر 2016 أي بعد ساعات من صدور تقرير منظمة العفو الدولية، حيث أشارت (إلى أنه ليس من الممكن في هذه المرحلة رسم استناجات يكمن الاستناد عليها لتأكيد تقرير منظمة العفو الدولية).
وعلى الأرض، فإن كل المؤشرات الطبيعية للحياة في مناطق جبل مرة تؤكد عدم تعرضها لأسلحة كيماوية، ومع ذلك سارت المنظمة في بث مزاعم أن لها تقارير موثقة من شهود عيان، فإذا كان الأمر كذلك فإن شهود العيان هؤلاء وهميين، لأنهم أن وجدوا لا بد أن يكونوا من الضحايا؟