نهاية السياسة وتراجع الايدولوجيا ؛ ام تسوية جبرية مع امريكا ؟! حسن الترابى يضرب الانغلوفونية البريطانية - الامريكية بالفرنكوفونية الفرنسية
تعرض السودان لعقوبات دبلوماسية فرضها مجلس الامن الدولى فى مارس 1996 اثر فشل محاولة إغتيال الرئيس المصرى السابق حسنى مبارك فى اديس ابابا فى يونيو 1995 حيث طالب المجلس نظام الانقاذ تسليم 3 مصريين مشتبه فيهم بتنفيذ المحاولة إلى إثيوبيا ؛ ما ادى إلى توتر حاد فى العلاقة مع مصر التى وظفت نفوذها داخل النظام الدولى لفرض مزيد من العزلة على السودان. عادة ما تلحق الولايات المتحدة فى نظام عقوباتها الاحادية بندا للتقيد الصارم بتنفيذه بغض النظر عن اى حقوق ممنوحة او التزامات ناشئة عن اتفاق دولى او عقد مبرم تم الوفاء به قبل صدور قرار العقوبات. مما لا شك فيه ان تطبيق العقوبات الأمريكية بعد صدور قرارى مجلس الامن الدولى رقم ( 1054) ورقم (1070) قد أثر بشكل سلبى على مجمل النشا ط التمويلى والاقتصادى والتجارى وألحق الضرر بسد منافذ الحصول على قطع الغيار فى قطاعى الطيران والسكة حديد وفقده 83 % من بنيته التحتية ؛ كما توقف تنفيذ عقود ابرمها النظام مع مؤسسات روسية فى يونيو 1995 لبناء خط انابيب بترول .كما ادى فرض العقوبات إلى الحد من المبادرات الحكومية الصناعية وقيّد الحصول على مدخلات الانتاج مع زيادة العبء الضريبى على المنتجين فى القطاع الصناعى والصناعات الغذائية ؛ وتنفير المستثمرين الدوليين الراغبين فى تثمير اموالهم وجنى عوائد مجزية من عمليات الاستثمار وإلى إحجام بيوت الخبرة الدولية عن التعامل مع السودان لصعوبة الحصول على التمويل اللازم وإنكماش مستوى التعامل المصرفى مع المصارف الاجنبية التى ترفض الدخول فى معاملات مصرفية مع المصارف السودانية للمقاطعة الدولية. كما ادت العقوبات المفروضة إلى الحجز على الاصول السودانية وتقييد التحويلات المالية للمغتربين والأفراد وأثرت على مشتروات القطاعين العام والخاص، إضافة إلى تدهور القيمة السوقية للجنية السودانى الذى بلغ سعر صرفه مقابل الدولا ر 20 جنيها. ويؤثر فرض نظام العقوبات على موقف الدولة التعاقدى نظرا لانعدام الخيارات المتاحة مما يؤدى إلى ارتفاع تكلفة العقود ات البديلة مثل ارتفاع تكلفة التنقيب عن النفط وإنتاجه مع خفض سقف حصة الدولة النفطية بنسبة 80 إلى 20 لصالح الشركات المستثمرة ؛ حيث ترتفع بالتالى اسعار السلع مع زيادة معدلات التضخم وشل حركة الاستيراد وفقدان الدولة لمركزها التنافسى الاقتصادى مما يؤدى بدوره إلى رفع فواتير الوقود والادوية ومواد التخزين وقطع الغيار وتقليص شحنات الاسلحة والمعدات العسكرية وقطع غيار الطائرات المدنية والحربية. كما أدى فرض العقوبات إلى شلل الاتفاقات العسكرية مع الصين وروسيا وجنوب افريقيا التى تمت فى التسعينات وبالاخص قطع غيار طائرات الميج 19 و21 الروسية. كما ادت العقوبات الامريكية االمفروضة إلى تقييد الاستثمارات الاجنبية فى السودان وإضمحلال النشاط التجارى حيث ضمت قائمة الحظر التجارى الامريكية حوالى 106 شركة سودانية من بينها شركة ( GNPOC ) المعروفة الناشطة فى مجال الانتاج النفطى السودانى . وحسب التجربة السودانية فإن قطاعات النفط والكيماويات والادوية والعقاقير الطبية والنقل والتعدين من اكثر القطاعات تضررا من فرض العقوبات. وبالرغم من شح الاحصاءات والارقام فى مجال الخسائر الناجمة عن العقوبات فقد قدرت من بعض الدوائر السودانية بنحو 500 مليار دولار ؛ فيما بلغت الخسائر غير المباشرة 4 مليارات دولار. وتأثر 1000 مصنع سودانى جراء عدم الحصول على قطع الغيار والبرمجيات الاميركية. وكان الصمغ العربى هو المنتج الوحيد الذى سمح للسودان بتصيره الى الولايات المتحدة الاميركية.
حسن الترابى والخطاب الأممى: وبالرغم من استحكام عزلة السودان المجيدة فى اواسط التسعينات حتى استحق فيها عبارة كانت تتداولها كافة الاوساط الدبلوماسية الدولية لوصف نظام الفصم العنصرى فى جنوب افريقيا " الدولة المنبوذة "؛ إلا ان الشيخ حسن الترابى الذى إستتبت له مقاليد الأمور والإمساك بزمام السلطة الفعلية ذكر لصحيفة الاندبندنت البريطانية (21/2/1998) " ان السودان ليس لديه ما يخسره فهو من اغنى الدول وبدون تحديات لا يمكن للدول ان تتطور وانه من الأحسن ان السودان بات الآن معروفا لدى كل العالم. ويؤكد الترابى ان الادانة التى اصدرتها الامم المتحدة والتى تمت نيابة عن الولايات المتحدة كان سببها ان السودان ليس صديقا للولايات المتحدة. وان قرار الامم المتحدة هو بالأساس قرار مبادرة مشتركة بين مصروبريطانيا وهما قوتان استعماريتان سابقتان تعانى من الغيرة بسبب ان السودان يعمل بشدة على تأكيد مزيد من الاستقلال" . ويؤكد حسن الترابى لمراسل الصحيفة بقوله" هل نعمل نحن على تصدير نموذجنا الاسلامى وإبرازه للعالم ؟ نعم لأن هذا حال العالم ؛ ان فضائية سى ؛إن؛إن تغزو غرفة نومى. ولكنا لن نستخدم القوة لنشر الاسلام لأننا جد ضعفاء ؛ ولواستخدمنا القوة سوف نخسر المعركة " . كان الشيخ حسن الترابى يبرز خطاب الاممية الاسلاموية الذى يمثله المؤتمر الشعبى العربى الاسلامى بعد عقد ثلاثة مؤتمرات إسلامية تمت بعد زيارة الرئيس البشير إلى ايران وإعلان تطبيق الشريعة الاسلامية فى عام 1990. ولقد كان الترابى يعكس خطاب عالميته الاسلاموية الاممية فى قضية دبلوماسية حين قال للمراسل المذكور آنفا " إننا نحظى بدعم كل شعوب العالم " ؛ ورغم ان الترابى قال الشعوب ولم يقل الحكومات إلا ان مراسل الصحيفة فهم عبارة شعوب بحسبانها الحكومات حيث قال " ان التطورات الاخيرة لا تؤكد ذلك لأن التصويت فى مجلس الأمن كان بالإجماع. وان السودان قد شهد إنقلاب غالب جيرانه ضده العام الماضى وان الدعم من الحلفاء مثل إيران وليبيا قد تقلص. كما لاحظ المراسل ان حسن الترابى كان يردد بشكل متكرر اثناء المقابلة مفهوم " المؤامرة الدولية ضد السودان" وانه يؤكد " ان السودان واحد من اكثر الدول امانا فى العالم" وطرح عليه السؤال " لماذ انجلترا غاضبة جدا من السودان لأنه يؤكد إستقلاله ويتحدث اللغة العربية ؟" . واتهم الصحافة البريطانية بالتآمر بجعل السودان ضحية لأنها ضد السودان بشكل كبير وان المراسل الامين سوف لن تنشر مواده هناك وانها سوف تتعرض للشطب او التبديل بشكل تام" ويتوصل المراسل إلى انه بالرغم من ان حسن الترابى قد درس القانون فى باريس ولندن ويتحدث عددا من اللغات الاوربية إلا انه افتقد قدرا من ديناميته وهو الذى كان من قبل شخصا حاضر البديهة".
الترابى يضرب "الامبريالية الانجلوفونية" بالفرانكوفونية: بلور الانقاذيون خطابا إعلاميا مضادا للولايات المتحدة جمع بين الديماغوجية والدعائية يهدف إلى تحريض العالمين العربى والاسلامى لنصرة السودان وهو يواجه النظام العالمى الجديد والامبريالية التى تحول دون إستقلال قراراه السيادى وإقامة مشروعه الحضارى. وإشتمل الخطاب التعبوى المناهض للامم المتحدة المناداة بحلها وإبدالها بهيئة امم إسلامية تتمخض ربما من العالمية الاسلاموية الترابية. وعند صدور قرار مجلس الامن رقم 1044 فى عام 1996 توعد د. غازى صلاح الدين من موقعه امينا عاما للمؤتمر الوطنى بضرب المصالح الامريكية فى كل العالم بدعم من مؤيديهم وتأجيج القرن الافريقى إذا صدرت عقوبات ضد السودان . وفى تصريح اذاعى نفى الشيخ حسن الترابى ان يكون للعقوبات اى اثر على النظام مبديا إختفافة لصياغة القرار المبهمة و ان دولا كثيرة اكدت عدم الالتزام بقرار مجلس الامن رقم 1054 وان القرار سوف لن يؤدى لعزلة النظام لتمتعه بشعبية جارفة فى العالمين العربى والاسلامى وجنوب شرق آسيا. مشروع الدولة الخامسة تسرب الى الاستخبارات الفرنسية على عهد الرئيس السابق فرانسو ميتران فسعى لإجهاضه عبر مستشار الرئيس للشؤون الافريقية ؛ لتعارضه مع مصالح فرنسا بدعمه لجبهة الانقاذ الجزائرية وتطويق المصالح الفرنسية فى تلك الدائرة الفرنكوفونية الحيوية مع تهديده انظمة الحكم فى كل من الجزائر والمغرب وتونس. ولكن الترابى توصل إلى تسوية بابرام صفقة مع الفرنسيين إشتملت على إحلال الشركات الفرنسية توتال وإلف محل الشركات الاميركية فى قطاعى النفط والتكنولوجيا وتسليم الارهابى كارلوس وتسليج الجيش الجديد بأسلحة ومعدات فرنسية ومساعدة الجيش بتقديم خرائط جوية لمواقع الحركة الشعبية فى الجنوب وألتقاط صور بالاقمار الصناعية لكل هدف متحرك او ساكن اكبر من 6 امتار ليفوق ما قدمه الامريكان لنظام النميرى حيث كانت الاهداف الاكثر من 18 متر فى عام 1983 لتحرير الرهائن الاميركيين الذين اسرتهم الحركة الشعبية. ومنحت فرنسا امتياز تنقيب الذهب فى بنى شنغول وجبيت . ومقابل ذلك يقوم الترابى بتهدئه جبهة الانقاذ وفرملة توجهها لنقل الصراع إلى داخل فرنسا مما يزيد من عبء النفقات الامنية ويقلق امن الدولة الفرنسية. ولقد سعى السودان مثل إيران إلى الالتفاف حول نظام فرض العقوبات ونتائجها الماحقة بتطوير نوع من التعاون المميز بين فرنسا والسودان مما اعتبر سندا دبلوماسيا للنظام السودانى وسط العزلة والعقوبات المفروضة مما شجعه على التمادى فى سياساته حيث قامت فرنسا بتوفير دعم تكنولوجي وتقديم مساعدات فنية عسكرية ومالية لكسر طوق العزلة المفروضة على السودان من اجل تحسين موقفه العسكرى فى حرب الجنوب. وكشفت نشرة عزة الإخبارية السياسية الشهرية التى تصدر فى باريس ( العدد (2)؛ يونيو 1995) مشيرة إلى تقرير اعدته منظمة " باكس كريستى" البريطانية المسيحية ان هناك مكتبان للأمن الفرنسى فى الخرطوم وجوبا يعمل فيهما فنيون فى الإرصاد الجوى ويقومون بتوجيه القاذفات السودانية بمساعدة الخرائط الجوية التى يرسلها يوميا قمر صناعى روسى . وقامت فرنسا بتزويدد السودان بالذخيرة وقطع الغيار للأسلحة الفرنسية الصنع المكونة من البنادق الرشاشة ماركة ( ML90 ) ومدافع عيار 155 وطائرات بوما المروحية. وكانت عملية التزويد بالسلاح تتم خلال سريان الحظر الذى فرضه الاتحاد الاوربى على مبيعات السلاح للسودان منذ مارس 1994. وكشف التقرير ان " مسيو مارشيانى" مستشار وزير الداخلية الفرنسى " شارل باسكوا" هو المشرف شخصيا على عملية بيع السلاح لنظام الانقاذ. ونلاحظ ايضا عقد إبرام صفقة فرنسية- سودانية يبدو انها تمت ضمن دائرة الخلاف القائم بين امريكا وفرنسا حيث بدأت الاولى فى التأثير على دوائر النفوذ الفرنسى التقليدية فى غرب افريقيا الفرنكوفونية ؛ ولأول مره يسيطر على السودان شخص فرانكفونى خريج من اعرق الجامعات الفرنسية " السربون" فلن تدع فرنسا هذه الفرصة تفلت منها ؛ مستثمرة موجة التوتر القائم بين امريكا والسودان ؛ ومن جهة اخرى قام نظام الانقاذ بارسال شحنات اسلحة ايرانية إلى جبهة الانقاذ الاسلامية فى الجزائر تم تسريبها عبر الصحراء ؛ وهو ما يتعارض مع الموقف الفرنسى الرسمى المؤيد لتدخل الجيش الجزائرى والقضاء على حركة الانقاذ. ولذلك عمدت فرنسا إلى إتخاذ عدة تدابير إيجابية لصالح نظام الترابى تبدو فى شكل صفقة مبرمة على النحو التالى: • اعادت الحكومة الفرنسية الضمان المالى الذى كان يقدم للشركات الفرنسية المتعاملة مع السودان بعد ان تم إيقافها • قيام فرنسا بإسقاط مستحقات الديون المستوجبة على السودان مع فتح إعتمادات جديدة للديون القصيرة والمتوسطة الاجل • قيام شركة مارسيليا للاعمال الكبرى بدراسة جدوى إنشاء شبكة مواصلات برية وسكك حديدية فى إقليم دارفور • عزم الخطوط الجوية السودانية لشراء 4 طائرات إيرباص • توقيع شركة سوداتيل للاتصالات السلكية واللاسلكية عقد مع شركة الكاتيل الفرنسية بقيمة 9 مليون دولار • لجم نشاط المنظمات الاسلامية الاصولية فى مناطق النفوذ الفرنسى • موافقة بنك "باريباس " الفرنسى على تمويل صفقة لعدد من المشاريع السودانية فى مجال الطاقة وتحديث ميناء بورتسودان بقرض قيمة الجزء الاول منه تبلغ 25 مليون دولار • إستعداد بنك لازار افرنسى لإقراض السودان لتمكين النظام من تسديد متاخراته لصندوق النقد الدولى وذلك ضمانة عدد من المؤسسات العربية بجانب عائد الذهب الذى تقوم بإنتاجة شركة أرياب الفرنسية Ariab التى يسيطر عليها مكتب البحوث الجيولوجية والمعدنية بنسبة 51% وتسعى لزيادة الانتاج من الذهب فى مناجم البحر الاحمر بواقع 3,8 طن فى العام بدلا عن 3 اطنان • ضمانة مكتب البحوث الجيولوجية والمعدنية BRGM لقرض تحديث ميناء بورسودان مع سعيه للحصول على مزيد من التراخيص للتنقيب عن الذهب فى السودان والذى ينافسه شركات من الصين وجنوب افريقيا واستراليا تسعى للتنقيب عن الذهب قبالة الحدود الاثيوبية والمصرية. • استمرار العلاقات التجارية بين السودان وعدد من الدول الاوربية مثل المانيا وايطاليا واسبانيا