“رسالة إلى الركاب الجدد في قطار حكومة حوار الوثبة”

 


 

 

 

نحو أفق جديد

"الاختيارات التى نبحث عنها بين ثنايا القدر لنتبناها، هى التى تحدد من نحن!"

_______________

يوميا، أواجه بالسؤال عن موقفي تجاه المستوزرين والبرلمانيين والمعتمدين والولائيين الجدد في الحكومة مولودة حوار الوثبة، الذين كانوا زملائي في العمل المعارض لفترة طويلة، ونشأت بيننا صداقات حقيقية. وبإستمرار، ظلت إجابتي ثابتة ومختصرة: هذه قناعاتهم، لا أتفق معها، ولكني أحترمها مثلما أحترم أشخاصهم. وهم، بحكم معرفتي اللصيقة بهم لسنوات وسنوات، قطعا يدركون تبعات خياراتهم، وأعتقد أنهم مستعدون لتحمل هذه التبعات. وفي هذا الصد، فإن كل ما أملك أن أقوله لهم، هو ذات ما ظللت أردده لنفسي: "إن الاختيارات التى نبحث عنها بين ثنايا القدر ونتبناها، هى التى تحدد من نحن!".

ورغم أني كنت على علم تام بأن بعض زملائي وأصدقائي هولاء، في ذات الوقت الذي كانوا فيه يجالسونني ويتجاذبون معي أحاديث المعارضة،كانت خطوط إتصالاتهم السرية مفتوحة مع دوائر في النظام، إلا أنني أبدا لم أسعى لتفتيش ضمير أي منهم، فهذه ممارسة أرفضها تماما، ومثلما لن أقبلها على الإطلاق تجاهي، فلن أرضى بها أبدا تجاه الآخرين. والآن، بعد أن إلتحق زملائي وأصدقائي هولاء بحكومة حوار الوثبة، فلن أتسرع لأقفز بهم إلى خانة الإتهامات بالتخوين، أو السقوط في قاع الهاوية، أو أنهم متعجلون لإدراك ما تبقى من "الكيكة" المنهوشة و"تصليح الأوضاع الخاصة"، بل سأفترض أن هذه هي قناعتهم التي يؤمنون بها لكيفية خدمتهم للوطن والمواطن، وسأهمس "عذرا" لمن يعترض ويصفني، أنا وإفتراضي هذا، بالسذاجة..!، وسأقول له أني أتبع منهج الرئيس الراحل إبراهيم عبود عندما كان يقول "أحكموا علينا بأعمالنا"، تلك القولة التي أصبحت شعارا لصحيفة "الثورة" الناطقة بإسم نظام الرئيس الراحل عبود، والتي كان بعض الباعة يتجولون بها منادين: "البرش بقرش"، وتلك الأعمال التي حكم بها الشعب على ذاك النظام بثورة أكتوبر 1964 المجيدة. وفي رسالتي هذه إلى زملاء المعارضة "الكانوا زمان"، أود تنبيههم إلى بعض المتوقع منهم، بإعتبار أنهم جاء إلى مواقعهم الجديدة لخدمة الوطن، وإعمالا لمنهج الحكم عليهم بإعمالهم، وليس بنواياههم التي لن ندركها أبدا، ولا ينبغي لنا البحث فيها:

· في السودان، أضحى الناس دائما ينتظرون حدثا ما، يحدث دويا عاليا، يهزهم من الداخل، ويخرجهم من السكون. لا يهم إن كان هذا الحدث من الأرض أو من السماء، هادئا مسالما أو كاسرا هادما، سيفترسهم، أو يهدهدهم، فهم يبحثون عن شيئ ما يعيد تشكيل حياتهم ويكون العلامة الفارقة. شيئ يكسر أغلال الحياة اليومية، ليحرر ذاكرتهم ويطرد منها إحتمالات الموت المتوقع بين ثانية وأخرى. هذا ليس تهويلا، أو مبالغة في القول. فلا شك أنكم تابعتم تعليقات الناس، قبل أسابيع قليلة، على إرتطام النيزك الضخم بالأرض، مثلما تابعتم في 2011 إحتمالات سقوط حطام القمر الصناعي الأمريكي على أرض السودان، ورأيتم معنا كيف كشفت تلك التعليقات عن تشوق غريب لإستقبال الحدث. فقد كانوا ينتظرونه كحدث خاص، لدرجة جعلت البعض يتساءل عن الذي حدث لسايكولوجيا الشعب السوداني!. لكن، ربما هذا البعض لا يعلم أن الشعب، الممكون وصابر، ضاعت منه أحلام العشة الصغيرة و"اللقمة" الهنية، فترك حطام البلدة الأم، وإقترب من المدينة التي ينام فيها الرئيس، حتى يتفيأ ظل أي من العمارات السوامق المكتنزة أسمنتا كامل الدسم، والخالية من أي لمسة جمالية، إلى أن خرج عليهم الوالي صارخا ومعيّرا: "الماعندو قدرة للعيشة في الخرطوم ما يقعد فيها"!. نعم قالها ذاك الوالي، أو ذاك الراعي المسئول عن رعيته!، فهو يريد سكانا للعاصمة بمواصفات خاصة جدا، إذا لم تكن تمتلك واحدة منها، فإذهب إلى حيث تجوع مجهولا ولا تسبب أي "دوشة" لأي مسئول يُقيم الليل أثناء ساعات العمل النهارية!. والوالي وغيره من المسئولين معذورون، فهو لم يسمعوا بكل الأرض منفى، لكنهم يعرفون جيدا إن حكومتهم تخوض حربا أدمت هلالا مكتمل البهاء، ينسرب من جنباته، مع كل طعنة، أوناس مكلومون، موجوعون، يأتون للخرطوم مكرهين. ويعرفون جيدا إنهيارات المشاريع الكبيرة والصغيرة، حتى باتت القرى مقفرة حزينة تعافها الكلاب، وأن الكثيرين زحفوا من الريف إلى العاصمة طلبا لأبسط ما يسد الرمق، وما يبقي الإنسان حيا. أما سكان الخرطوم أنفسهم، فجمع كبير منهم آثروا المنافي. فما قولكم في هذا يا زملاء المعارضة سابقا؟.

· ثمان وعشرون عاما، وزملاؤكم الجدد يعبثون بكل شيئ في السودان الذي لم تسلم حتى خريطته. فعلوا في الناس ما لم يفعله الإنكشاريون في الماضي، وبالفعل "شلّعوا" البلد حتى صارت خرابا. بعد إنفصال الجنوب، ظن الناس أن زمن الكريهة قد ولّى ولن تعود، فإذا بدقات طبول الحرب تخترق آذانهم، وإذا بشبح الموت يحلق مرة أخرى فوقهم، غير بعيد، ليختار المهبط التالي. وبات الناس في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ينامون ويصحون على أصوات أزيز المدافع وحفيف أجنحة الموت ورائحة حريق الحياة، وأعدادهم، عسكريين ومدنيين، تتناقص كل صباح. أصبح الوطن كله في حالة من الذهول والقلق والدوران الحائر: خرج من حرب أهلية ليعيش فترة انتقالية يفترض أن تعبد طريق السلام المستدام، فإذا بها مجرد هدنة مؤقتة لم تمنع أسباب الاقتتال، بل هي تفضي إلى مستنقع الحروب الأهلية من جديد!! لماذا يترك الراعي وطنه ليحترق؟ ولماذا يفترض قادة المؤتمر الوطني أن التوتر والخصومة الدائمة، في الداخل وفي الخارج، وجر القوات المسلحة من حرب أهلية إلى أخرى، سيضمن لهم البقاء والاستمرار في الحكم؟! هل من إجابة لدى ركاب القطار الجدد؟؟.

· في ظل سلطة من كنتم تعارضونهم بالأمس، تمددت الأفعال البغيضة من فساد وسياسات وممارسات تمزّق نسيجنا الإجتماعي، وتحقّر من معنى سيادتنا الوطنية، وتدحرجنا نحو الهاوية. مواطنون يتظاهرون ضد الغلاء والفساد، لا يحملون من السلاح سوى أصوات حناجرهم ومشاعر غضبهم، فيأتيهم رد الحكومة سريعا في ذات اللحظة، ومختصرا في إطلاق الرصاص عليهم. وقادة يتجشأون على مطالب الجوعى بلا أي خجل، وهم يأكلون من سنام الدولة المنخور بالفساد والسياسات الإقتصادية الخاطئة، لا تهزهم إنهيارات خدمات الصحة والتعليم وسائر المرافق الخدمية الأخرى، ولا يقلقهم عجزهم عن حل مشكلات البلاد الروتينية، ولا فشلهم في تربية شباب حزبهم الذين يطربون لموت فنان مبدع أثرى وجدان الشعب السوداني بالموسيقى والمعاني الجميلة، ولا ردع شيوخهم المدافعين عن مشروع الانقاذ الحضاري، فانقطعوا، لدرجة قف تأمل، عن تراثنا الشعبي والديني الذي يقول لا شماتة في المرض أو الموت..! أولئك وهولاء، استمسكوا بحبال قادتهم الكبار الذين تخرج الأموال من بيوتهم، وليس البنوك، "بالشوالات"...، فهل ستستمسكون بذات الحبال؟.

· كنتم ترددون مع زملاءكم في المعارضة، أن الأزمات في أي بقعة في الوطن، مترابطة وليست جزر معزولة عن بعضها البعض، وأي كارثة تقع في أي من هذه المناطق، تحل تداعياتها في كل مناطق السودان الأخرى، وأن السبب في كل ذلك هو النظام الحاكم الذي يتعامل مع الشعب وقضاياه بعقلية الإقطاعي الذي يمتلك الأراضي والأقنان! وأن قضايا مناطق السودان المختلفة لا يمكن حلها إلا في إطار الحل الشامل لقضية الوطن، والذي يبدأ بفك رقبة الوطن من قبضة هذا النظام الذي لم يعد فيه من يرتكن إلى العقل، أو يقرأ ما بين سطور أحداث المشهد السياسي. صحيح، كنتم تؤكدون على عجز الحكومة في إدارة البلاد، وعجز المعارضة الراهنة، وأنتم جزء منها، عن إحداث الفعل المقاوم. وصحيح أن بعضكم إرتضى الحوار مع النظام كمخرج من الأزمة ولفك رقبة الوطن، في حين تمنع البعض، رغم تأكيدهم على أن أي عاقل لا يمكن أن يرفض الحوار، لأنهم يرون أن أجندة الحوار المطروحة على الطاولة تختلف عن تلك التي في الصدور، وأن النظام يراوغ، وجل هدفه التوصل إلى اتفاق يسهل الإلتفاف عليه، أو هو أصلا غير مقتنع بأبجديات أسس الحوار، ويراه مجرد مناورة لكسب مزيد من الوقت. فهل تلمستم أي المواقف هي الصحيحة؟

صحيح أنكم في بداية الطريق، ولا زلتم في المربع الأول لتأسيس ما تعتقدونه مرحلة جديدة. ونحن أيضا لن نتسرع ونطلب منكم إنجازا بين ليلة وضحاها، ولكنا نتوقع أن تكونوا مهمومين، مثلما كنتم تؤكدون وأنتم في المعارضة، بضرورة التغيير العاجل حتى لا تتدهور الأوضاع إلى ما هو أسواء من الراهن. ونقترح عليكم أن تشرعوا فورا في فرض الأولويات التي إتفقتم مع الآخرين عليها عندما كنتم في المعارضة، والتي تتلخص في أن الحل السياسي الشامل للأزمة السودانية، لا بد أن تتصدره العناوين الرئيسية الأربعة التالية: وقف الحرب وبسط السلام، فك الضائقة المعيشية كأولوية قصوى ومنع إنهيار البلاد إقتصاديا، والمحاسبة لكل من ارتكب جرما في حق الوطن والمواطن، وتفكيك دولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن ومؤسساته القومية. وهذا يعني، ضمن ما يعني، على سبيل المثال لا الحصر:

- الإلتزام بالتصدي لعلاج جذور الحرب الأهلية في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وأبيي، وذلك من خلال منبر قومي يحقق الشمول ومشاركة الجميع.

- الديمقراطية التعددية والتداول السلمي للسلطة والحكم الرشيد والمحاسبة والشفافية وسيادة حكم القانون، ويشمل ذلك مراجعة أوضاع السلطة القضائية والقضاء، بما يكفل إستقلالها وحيدتها ونزاهتها، وكذلك، تفكيك كل الأجهزة والمؤسسات، المدنية والعسكرية، التي كونت على أساس الولاء الحزبي، وإعادة تكوينها على أسس قومية.

- تنفيذ برنامج اقتصادي إسعافي لفك الضائقة المعيشية على المواطن.

- المساءلة أمام القضاء في قضايا انتهاك حقوق الإنسان والفساد وسوء استخدام السلطة، واسترداد المال العام والخاص.

- مراجعة وتقويم تجربة الحكم الاتحادي الحالية.

- إستعادة إستقلالية الحركة النقابية والتأكيد على دورها ودور منظمات المجتمع المدني في تحقيق السلام والتنمية، والعمل على إشراكهم في مواقع اتخاذ القرار على كافة المستويات.

- إعادة التوازن لعلاقات السودان الخارجية، بعيدا عن أي اعتبارات إيديولوجية أو عقائدية، وبعيدا عن التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، مع مراعاة المصالح المشتركة للشعوب، وعدم التفريط في مصالح الشعب السوداني.

وفي الختام، أسمحوا لي أن انبهكم بأن العناوين الرئيسية أعلاه، لا يمكن أن تطرح كمجرد عناوين، ناهيك عن الخوض في تفاصيلها، إذا وافقتم أن تظل الإدارة التي تسببت في الأزمة، والتي إرتضيتم مؤخرا التحالف معها، هي ذات الإدارة التي سيظل في يدها القرار النهائي، وقنعتم بالثرثرة في شرفات وردهات القصر والبرلمان ومجلس الوزراء ومؤسسات السلطة الإتحادية، أو المؤسسات الولائية المختلفة. أما إذا لم تضعوا في الحسبان وقف الحرب الأهلية كأولوية قصوى، وتقاعستم عن إبتدار حراك مصحوب ومسنود بأوسع قاعدة جماهيرية ممكنة في هذا الإتجاه، فالناتج سيكون تكريسا لوضع الكارثة العنقودية الجاثم الآن على أنفاس البلاد، وللأسف، ستوصمون بتغذيته والمساهمة في تكريسه.

 

آراء