أراء حول ذكريات وتجارب السفير د. عطا الله حمد بشير الدبلوماسية
قضيت ساعات ممتعة خلال يومين بين سطور ( ذكريات و تجارب دبلوماسية) خطها السفير د. عطاالله بلغة عربية سلسة، جعلتنى أيقن بأن الناطقين بغيرها ..هم الاكثر قدرة على التعبير بها..والتحليق بمفرداتها الى افاق رحبة ، تأخذ الانسان من دنياوات القرية الوديعة ، والتى رغم شظف العيش تحلو الحياة فيها .للطف انسانها ..المتجذر تاريخه ، فى أرض هى مهد الحضارة الاصيلة لهذا الوطن الممتد.
ود. عطا الله ليس غريبا لدى ، فقد عاصرته بمدرسة وادى سيدنا الثانوية منذ الستينيات من القرن الماضى ، وعرف منذ ذاك الزمان بميوله الفنية ، اذ كان مغرما بالفن التشكيلى ... و مجودا لدروسه.منضبطا و مشاركا نشطا فى النشاطات الرياضية والاجتماعية التى كانت تعم مدارس تلك الايام ، و لم تتح لى فرصة العمل معه فى المجال الدبلوماسى...الذى سبقنى اليه بعدة سنوات ..لتعثرى فى حياتى الدراسية والعملية ..متنقلا من عالم التدريس والادارة ..لالج هذا العالم السحرى بعدئذ.
و لانه من نفس بيئتى ....بنيلها ونخيلها و سواقيها وشواديفها و مراكبها و حكاويها، شعرت بأن كل عبارة كتبت تحمل فى طياتها الصدق والعمق، مما يستدعى ان يكون الكتاب كتابا تقرأه الاجيال القادمة مع ما خطه اخرون
كتوثيق ربما يصلح و يقوم مسار الوطن فى مجالات السياسة الخارجية .
كأكاديمى نابه اتسمت منهجية الكتاب بمنهج وصفى تحليلى ممتع لحياة القرية ببساطتها وقسوتها ، و مما يثلج الصدر ان كثير من دبلوماسيينا اتجهوا للالتصاق بما تربوا عليه..دونما ادعاء بأنهم من أرومات الدماء الزرقاء وابناء ذوات شأن بعض الذين ظنوا انهم من كوكب اخر! فقد تعلموا من اديبنا الراحل الطيب صالح ان ذروة العالمية تصلها حين ترتبط بالارض التى تربيت عليها و تمرمغت فى ترابها.
ولعى ودهشتى بروعة هذا الكتاب لم يثنينى عن ما درجت على قوله والالتزام به.بأن علينا ان نقرأ تجارب كل منا ...بعين فاحصة..و بنقد بناء ..لا الغرض منه ...اساءة ..أو تقليل شأن ...أو استخفاف، انما المراد من نشر تجاربنا على الملء ان تكون مرجعا لاخرين سيأتون من بعدنا..و ربما يبنون تجاربهم على ما يقرأونه ليكون عالمهم عالما مغايرا تسود فيه المصداقية والشفافية.
وفى رأيى لا يعقل ان نكيل المدح والثناء لبعضنا البعض، ليغيب من ساحاتنا النقد البناء الذى يدفع لحوار ديدنه تعميق التجارب لاصلاح الاحوال....ابدأ تعليقى عن بعض النقاط التى وردت فى الصفحات الاولى بدءا
من النشأة والتكوين حتى دخول الجامعة، وهو فى مجمله عبارة عن ملاحظات عامة غير اساسية ، و لا تغير من سياق الاحداث و تعد خواطر ربما تعطى ابعادا للقارىء.
اولى الملاحظات أنه ذكر تحت عنوان (ملامح من مناسبات القرية ) الاحتفال بميلاد الطفل (الذكر) مشيرا بأن المجتمع النوبى مجتمع ( ذكورى )، وأحسب أن هذه الصفة تتنافى و ما درج النوبيون على ممارسته ، فالمجتمع النوبى منذ عهد الكنداكات كارملو_كسانا_بيتما _منسا .شاناداخت_امنى ريناس_امانى شكتو_ ..الخ يضع المرأة فى المقدمة ..والمجتمع امومى بل درج الكثيرون على تسمية الناس باسماء امهاتهم...فعلى سبيل المثال ( سيد اليزا :_ واليزا اسم مسيحى خالص) ومحمد سيسى ( وسيسى اسم شائع عن نفيسة) و (حسن أريا :- واريا هى ريا ..ولعدم وجود حرف الراء فى اللغة النوبية يضاف الالف )..الخ ، والمرأة تقف مع الرجل فى المزرعة بل تفوق اعمالها اعمال الرجل فى كثير من الاحيان ، و يفرح النوبى بميلاد البنت على اساس انها فأل خير ,وتجدر الاشارة ان لا تأنيث و تذكير فى اللغة النوبية ، ومن الطرائف التى حكاها د. عطا الله فى كتابه
الرائع ، انتهاج سياسات صارمة لتعليم اللغة العربية وحظر اللغة النوبية بادخال ما
سمى ( بقرش الرطانة ) فى مراحل الدراسة الاولية والوسطى، وقد عايشتا هذه التجربة فى مناطقنا شمال دنقلا ، ولم نكن نعلم فى تلك الفترة ان هذا الاجبار والالزام يتنافى وحقوق الانسان للشعوب الاصيلة--كما تنص ادبيات هذا الزمان! ، ومن الطرائف التى اذكرها اثناء تعلمنا لغة الضاد...فى حصة املاء كان استاذ اللغة العربية يملى قطعة وبصوت جهورى قال ( افتح قوس ,.brackets( و امتلكت الدهشة جارى الجالس قبالتى .الذى لم يفهم المراد لفتح القوس..فقد عرف كلمة افتح ولم يسعه الا ان فغر فاهه كأوسع ما يكون لان كلمة (قوس) فى نوبيتنا تعنى الحلق داخل الفم..ولم يتمالك المعلم الا ان يقهقه ونحن من ورائه بين دهشة من فتح فاهه....و لدينا قصص ونوادر مع ماسمى بقرش الرطانة يمكن تخصص لها ابواب!!
و سرد السفير عطا مسيرته فى جامعة الخرطوم والتى توجها بحصوله على درجة امتياز الشرف تحت اشراف د. جعفر محمد على بخيت الرجل الاديب ، والعالم الموسوعى الذى شغل وظائف عدة اكاديمية
..سياسية ..ادارية.. وتعليمية، وتحدت عن مناقبه تحت عنوان ( الاستاذ الشامل )، وكل من عرف الراحل جعفرلا ينكر جديته وعلمه الواسع فى مجال الادارة وعمله الدؤؤب و تواضعه الجم ، و قد عاصرت د. جعفر ابان تلقينا دراسات عليا فى الادارة العامة بجامعة الخرطوم كضباط اداريين ، واعتبرت دفعتنا تحت اشرافه المباشر..و لايمانه بضرورة الانضباط الذى ينشده اصر ان تكون من ضمن دروس اعدادنا الذهاب الى سلاح المدرعات لنتدرب كجنود مستجدين يعلموننا مبادىءاستعمال السلاح النارى وكيفية تلقى الاوامر وتنفيذها اضافة لطوابير البيادات التى تشمل المشى السريع والهرولة لمسافات بعيدة ، وتأكيدا لحرصه كان الراحل يحضر احيانا طابور الصباح الذى يبدأ
الساعة السادسة صباحا وهو الساكن فى احدى اطراف الخرطوم بحرى.اضافة لذلك طلب من افراد الدفعة تكوين لجان للطواف على كل اقسلم مدينة الخرطوم الكبرى لاعداد دراسات تفصيلية عن كل جهة تشمل عدد السكان ، عدد الاندية الاجتماعية والانديات ان وجدت مع دراسات تشمل كيف يقضى السكان اوقات فراغهم ..الخ و دأب بنشاط مدهش قراءة
التقارير التى عكفنا على كتابتها حرفا حرفا و معلقا على بعضها!
ولكن علمه و ثقافته و موسوعية معارفه لم تكن كافية لتوصف كل قراراته بالناجعة ، فقد جنح الى ( مثالية ) مفرطة حين حاول ان يطبق شعار الانفتاح على الشعب ، فدعا الى ذهاب الادارة لمواقع الناس . وبفتح المجالس المحلية فى الاحياء ..و الفكرة فى مثاليتها مغرية ولكن عند التطبيق ... انتشرت المجالس المحلية فى الاحياء المختلفة , دون امكانات ووسائل لوجستية...وادى هذا التوسع الى تاكل هيبة المجالس المحلية ( البلدية والريفية )..و فى مرحلة لا حقة دعا الى ما اسماهم( الضباط السيارة ) و هم حسب الوصف الوظيفى من يسيرون وراء الرعاة فى البوادى لتقديم الخدمات الممكنه لهم ولجباية الضرائب !-- لتحقيق احلامه اتجه الى تبنى الشباب الواعد لتنفيذ خططه فابتدع ما سمى بالترقية بالزان.. ليترقى شباب جدد على رأس دهاقنة من الاداريين القدامى الذين تربوا على اسس الادارة المتدرجة المتأنية ..و قد ادت هذه الترقيات الى نوع من الاحباط فى الجسم الادارى فى وقت لم يتمكن فيه المترقون الجدد تقديم ما حلم به د. جعفر من انجازات.و فى رأيى تحتاج هذه الجزئية الى
دراسات معمقة ولكن اثرت ان اضع رؤؤس اقلام حولها ..ولكن ما يمكن الخلاصة اليه بأن كل فكر ثورى لا يفعل بدراسة متأنية يؤدى الى كوارث سلبية.
هذه خواطر عن الفقرات الاولى فبل ان يلج د. عطا الله وزارة الخارجية ليبدا تجربته الثرة فى المجال الدبلوماسى ، وسوف افرد لهذه التجربة مقالة قادمة
salahmsai@hotmail.com